الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والعشرون
74 -
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، قال: بينا النّاس بقباء في صلاة الصّبح إذ جاءهم آتٍ ، فقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآنٌ ، وقد أُمر أن يستقبل القبلة ، فاستقْبِلوها. وكانت وجوههم إلى الشّام ، فاستداروا إلى الكعبة. (1)
قوله: (بينا) أصله " بين " وأشبعت الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع ويزاد فيها " ما " فتصير " بينما "(2)، وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة.
قوله: (النّاس بقباءٍ) بالمدّ والصّرف وهو الأشهر، ويجوز فيه القصر وعدم الصّرف. وهو يذكّر ويؤنّث: موضعٌ معروفٌ ظاهر المدينة.
والمراد هنا مسجد أهل قباء ففيه مجاز الحذف، واللام في النّاس للعهد الذّهنيّ. والمراد أهل قباء ومن حضر معهم.
قوله: (في صلاة الصّبح) ولمسلمٍ " في صلاة الغداة " وهو أحد أسمائها، وقد نقل بعضهم كراهية تسميتها بذلك.
وهذا فيه مغايرةٌ لحديث البراء في الصحيحين ، فإنّ فيه أنّهم كانوا
(1) أخرجه البخاري (395 ، 4218 ،، 4220، 4221، 4223، 4224، 6824) ومسلم (562) من طرق عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر به.
(2)
وهي رواية للشيخين أيضاً أي (بينما)
في صلاة العصر. (1)
والجواب: أن لا منافاة بين الخبرين؛ لأنّ الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة ، وذلك في حديث البراء.
والآتي إليهم بذلك عبّاد بن بشر بن قيظيّ. كما رواه ابن منده من حديث طويلة بنت أسلم. وقيل: هو عبّاد بن نهيك بفتح النّون وكسر الهاء.
وأهل المسجد الذين مرّ بهم.
قيل: هم من بني سلمة، ووصل الخبر وقت الصّبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء. وذلك في حديث ابن عمر، ولَم يسمّ الآتي بذلك إليهم.
وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنّه عبّاد بن بشر. ففيه نظرٌ؛ لأنّ ذلك إنّما ورد في حقّ بني حارثة في صلاة العصر.
(1) أخرجه البخاري (40 ، 390 ، 4216 ، 4222 ، 6825) ومسلم (525) عن البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء}. فتوجه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس وهم اليهود {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}. فصلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ ثم خرج بعدما صلَّى فمرَّ على قومٍ من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال: وهو يشهد أنه صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه توجه نحو الكعبة ، فتحرَّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة. لفظ البخاري ، وله أيضاً: وأنه صلَّى أول صلاة صلاّها صلاة العصر ، وصلَّى معه قوم.
وله أيضاً: فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر.
فإن كان ما نقلوا محفوظاً. فيحتمل أن يكون عبّاد أتى بني حارثة أوّلاً في وقت العصر ، ثمّ توجّه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في وقت الصّبح.
وممّا يدلّ على تعدّدهما ، أنّ مسلماً روى من حديث أنس ، أنّ رجلاً من بني سلمة مرّ وهم ركوع في صلاة الفجر. فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصّلاة، وبنو سلمة غير بني حارثة.
قوله: (قد أُنزل عليه الليلة قرآنٌ) فيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي والليلة التي تليه مجازاً.
والتّنكير في قوله " قرآن " لإرادة البعضيّة، والمراد قوله:(قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولينَّك قبلةً ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام.) الآيات.
قوله: (وقد أُمر) فيه أنّ من يؤمر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم يلزم أمّته، وأنّ أفعاله يتأسّى بها كأقواله حتّى يقوم دليل الخصوص.
فائدة: كان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح. وبه جزم الجمهور ، ورواه الحاكم بسند صحيح عن بن عباس
قوله: (فاستقبَلوها) بفتح الموحّدة للأكثر. أي: فتحوّلوا إلى جهة الكعبة، وفاعل " استقبَلوها " المخاطبون بذلك ، وهم أهل قباء.
وقوله: (وكانت وجوههم إلى الشّام ، فاستداروا إلى الكعبة.) تفسير من الرّاوي للتّحوّل المذكور.
ويحتمل: أن يكون فاعل استقبلوها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه، وضمير " وجوههم ، لهم أو لأهل قباء على الاحتمالين.
وفي رواية الأصيليّ " فاستقبِلوها " بكسر الموحّدة بصيغة الأمر، ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران.
وعودُه إلى أهل قباء أظهر.
ويرجّح رواية الكسر أنّه عند البخاري في " التّفسير " من رواية سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذا الحديث بلفظ " وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلِوها " فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأنّ الذي بعده أمرٌ لا أنّه بقيّة الخبر الذي قبله، والله أعلم.
ووقع بيان كيفيّة التّحوّل في حديث ثويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم ، وقالت فيه: فتحوّل النّساء مكان الرّجال والرّجال مكان النّساء، فصلينا السّجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام.
قلت: وتصويره أنّ الإمام تحوّل من مكانه في مقدّم المسجد إلى مؤخّر المسجد؛ لأنّ من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو في مكانه لَم يكن خلفه مكان يسع الصّفوف، ولَمّا تحوّل الإمام تحوّلت الرّجال حتّى صاروا خلفه ، وتحوّلت النّساء حتّى صرن خلف الرّجال، وهذا يستدعي عملاً كثيراً في الصّلاة.
فيحتمل: أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام.
ويحتمل: أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أو لَم تتوال الخطا عند التّحويل بل وقعت مفرّقة. والله أعلم.
وفي هذا الحديث. أنّ حكم النّاسخ لا يثبت في حقّ المكلف حتّى يبلغه؛ لأنّ أهل قباء لَم يؤمروا بالإعادة مع كون الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم تلك بصلواتٍ.
واستنبط منه الطّحاويّ ، أنّ من لَم تبلغه الدّعوة ولَم يمكنه استعلام ذلك فالفرض غير لازم له.
وفيه جواز الاجتهاد في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنّهم لَمّا تمادوا في الصّلاة ولَم يقطعوها دلَّ على أنّه رجح عندهم التّمادي والتّحوّل على القطع والاستئناف، ولا يكون ذلك إلَاّ عن اجتهاد.
كذا قيل، وفيه نظرٌ لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نصٌّ سابق؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم كان مترقّباً التّحوّل المذكور. فلا مانع أن يعلمهم ما صنعوا من التّمادي والتّحوّل.
وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ، ونسخ ما تقرّر بطريق العلم به؛ لأنّ صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع لمشاهدتهم صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جهته، ووقع تحوّلهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد.
وأجيب: بأنّ الخبر المذكور احتفّت به قرائن ومقدّمات أفادت القطع عندهم بصدق ذلك المخبر فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلَاّ
بما يفيد العلم.
وقيل: كان النّسخ بخبر الواحد جائزاً في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقاً وإنّما منع بعده، ويحتاج إلى دليل.
وفيه جواز تعليم مَن ليس في الصّلاة مَن هو فيها، وأنّ استماع المُصلِّي لكلام من ليس في الصّلاة لا يفسد صلاته.
ووجه تعلّق حديث ابن عمر بترجمة الباب (1) أنّ دلالته على الجزء الأوّل منها من قوله " أمر أن يستقبل الكعبة " ، وعلى الجزء الثّاني من حيث إنّهم صلوا في أوّل تلك الصّلاة إلى القبلة المنسوخة جاهلين بوجوب التّحوّل عنها ، وأجزأت عنهم مع ذلك ولَم يؤمروا بالإعادة ، فيكون حكم السّاهي كذلك.
لكن يمكن أن يفرّق بينهما بأنّ الجاهل مستصحبٌ للحكم الأوّل مغتفرٌ في حقّه ما لا يغتفر في حقّ السّاهي؛ لأنّه إنّما يكون عن حكم استقرّ عنده وعرفه.
(1) ترجم عليه البخاري " باب ما جاء في القبلة ، ومَن لا يرى الإعادة على من سها. فصلّى إلى غير القبلة "
قال الحافظ في " الفتح "(1/ 550): وأصل هذه المسألة في المجتهد في القبلة إذا تبيّن خطؤه. فروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيّب وعطاء والشّعبيّ وغيرهم ، أنّهم قالوا: لا تجب الإعادة، وهو قول الكوفيّين.
وعن الزّهريّ ومالك وغيرهما: تجب في الوقت لا بعده.
وعن الشّافعيّ: يعيد إذا تيقّن الخطأ مطلقاً.
وفي التّرمذيّ من حديث عامر بن ربيعة ما يوافق قول الأوّلين، لكن قال: ليس إسناده بذاك. اهـ
فائدة: اختلفت الرّواية في الصّلاة التي تحوّلت القبلة عندها.
فظاهر حديث البراء في الصحيحين أنّها الظّهر.
وذكر محمّد بن سعد في " الطّبقات " قال: يقال إنّه صلَّى ركعتين من الظّهر في مسجده بالمسلمين، ثمّ أمر أن يتوجّه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون.
ويقال زار النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمَّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة ، فصنعت له طعاماً وحانتِ الظُهر فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثمّ أمر فاستدار إلى الكعبة ، واستقبل الميزاب فسمّي مسجد القبلتين.
قال ابن سعد: قال الواقديّ: هذا أثبت عندنا.
وأخرج ابن أبي داود بسندٍ ضعيفٍ عن عمارة بن رويبة قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيّ حين صرفت القبلة، فدار ودرنا معه في ركعتين.
وأخرج البزّار من حديث أنس: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس وهو يُصلِّي الظّهر بوجهه إلى الكعبة، وللطّبرانيّ نحوه من وجه آخر عن أنس.
وفي كلٍّ منهما ضعفٌ.
والتحقيق أنَّ أول صلاة صلَّاها في بني سلمة لَمَّا مات بشر بن البراء بن معرور الظهر، وأول صلاة صلَاّها بالمسجد النبوي العصر.
وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء، وهل كان ذلك في
جمادى الآخرة أو رجب أو شعبان؟ أقوال.
فائدة: اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة.
القول الأول: قال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس؛ لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس.
القول الثاني: أطلق آخرون أنه كان يُصلي إلى بيت المقدس.
القول الثالث: قال آخرون: كان يُصلي إلى الكعبة، فلمَّا تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف. ويلزم منه دعوى النسخ مرتين.
والأول أصحُّ لأنه يجمع بين القولين، وقد صحَّحه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس.