الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الواحد والعشرون
70 -
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنّه قال: إنّ بلالاً يؤذّن بليلٍ ، فكلوا واشربوا حتّى تسمعوا أذانَ ابنِ أمّ مكتومٍ. (1)
قوله: (إنّ بلالاً) ابن رباح. بفتح الراء والموحدة وآخره مهملة ، وذكر بن سعد ، أنه كان من مولّدي السراة.
واسم أمه حَمَامة ، وكانت لبعض بني جُمَح. وجاء عن أنس عند الطبراني وغيره ، أنه حبشي. وهو المشهور. وقيل: نوبي.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح عن قيس بن أبي حازم قال: اشترى أبو بكر بلالاً بخمس أواق وهو مدفون بالحجارة.
قوله: (يؤذّن بليلٍ) فيه إشعارٌ بأنّ ذلك كان من عادته المستمرّة، وزعم بعضهم أنّ ابتداء ذلك باجتهادٍ منه، وعلى تقدير صحّته فقد أقرّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك فصار في حكم المأمور به.
وسيأتي الكلام على تعيين الوقت الذي كان يؤذّن فيه من الليل آخر الكلام على الحديث.
قوله: (فكلوا) فيه إشعارٌ بأنّ الأذان كان علامة عندهم على
(1) أخرجه البخاري (592 ، 2513) ومسلم (1092) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه به.
وأخرجه البخاري (597) ومسلم (1092) من طريق نافع. والبخاري (595 ، 6821) من طريق عبد الله بن دينار كلاهما عن ابن عمر.
دخول الوقت ، فبيّن لهم أنّ أذان بلال بخلاف ذلك.
قوله: (حتى يؤذّن) وللبخاري " وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت " أي: دخلت في الصّباح، هذا ظاهره، واستشكل لأنّه جعل أذانه غايةً للأكل، فلو لَم يؤذّن حتّى يدخل في الصّباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه إلَاّ من شذّ كالأعمش. (1)
وأجاب ابن حبيب وابن عبد البرّ والأصيليّ وجماعة من الشّرّاح: بأنّ المراد قاربتَ الصّباح.
ويعكّر على هذا الجواب. أنّ في رواية البيهقي " ولَم يكن يؤذّن حتّى يقول له النّاس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: أذِّن ".
وأبلغ من ذلك أنّ لفظ رواية البخاري التي في الصّيام " حتّى يؤذّن ابن أمّ مكتوم، فإنّه لا يؤذّن حتّى يطلع الفجر ".
وإنّما قلت إنّه أبلغ لكون جميعه من كلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً فقوله: إنّ بلالاً يؤذّن بليلٍ. يشعر أنّ ابن أمّ مكتوم بخلافه، ولأنّه لو كان قبل الصّبح لَم يكن بينه وبين بلال فرقٌ لصدق أنّ كلاً منهما أذّن قبل الوقت.
وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال.
وأقرب ما يقال فيه ، إنّ أذانه جعل علامةً لتحريم الأكل والشّرب،
(1) هكذا قال الشارح في باب الأذان موافقةً لابن قدامة. ثم استدرك في كتاب الصوم ، ونقل عن جماعةٍ القول به كالأعمش. كما سأنقله هنا إن شاء الله.
وكأنّه كان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارناً لابتداء طلوع الفجر. وهو المراد بالبزوغ، وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق.
ثمّ ظهر لي أنّه لا يلزم من كون المراد بقولهم " أصبحت " أي: قاربتَ الصّباح ، وقوع أذانه قبل الفجر لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزءٍ من الليل وأذانه يقع في أوّل جزء من طلوع الفجر، وهذا - وإن كان مستبعداً في العادة - فليس بمستبعدٍ من مؤذّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم المؤيّد بالملائكة، فلا يشاركه فيه من لَم يكن بتلك الصّفة.
وقد روى أبو قرّة من وجه آخر عن ابن عمر حديثاً فيه " وكان ابن أمّ مكتوم يتوخّى الفجر فلا يخطئه ".
وفي حديث سمرة عند مسلم " لا يغرنَّكم من سَحوركم أذانُ بلال ولا بياضُ الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا " يعني: معترضاً. وفي رواية " ولا هذا البياض حتى يستطير ".
ولفظ الترمذي: لا يمنعنّكم من سحوركم أذان بلالٍ ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق ".
وقال الترمذي: هو حديثٌ حسنٌ، وله من حديث طلق بن علي " كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر ".
وقوله " يهِيدنكم " بكسر الهاء. أي: يزعجنكم فتمتنعوا به عن السحور فإنه الفجر الكاذب، يقال هدته أهيده إذا أزعجته، وأصل
الهيد بالكسر الحركة.
ولابن أبي شيبة عن ثوبان مرفوعاً " الفجر فجران: فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحلُّ شيئا ولا يحرمه، ولكن المستطير " أي: هو الذي يحرم الطعام ويحلُّ الصلاة، وهذا موافق للآية (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر).
وذهب جماعةٌ من الصحابة. وقال به الأعمش من التابعين وصاحبه أبو بكر بن عياش: إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر.
فروى سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن عاصم عن زر عن حذيفة قال: تسحَّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والله النهار غير أنَّ الشمس لم تطلع. وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن عاصم نحوه، وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحة.
وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر من طرق عن أبي بكر ، أنه أمر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر.
وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي ، أنه صلَّى الصبح ، ثم قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
قال ابن المنذر: وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد بتبين بياض النهار من سواد الليل أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت، ثم حكى ما تقدم عن أبي بكر وغيره.
وروى بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي - وله صحبة - أنَّ أبا بكر قال له: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فنظرت ثم
أتيته فقلت: قد ابيضَّ وسطَعَ، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع؟ فنظرت فقلت: قد اعترض. قال: الآن أبلغني شرابي.
وروى (1) من طريق وكيع عن الأعمش أنه قال: لولا الشهوة لصليت الغداة ثم تسحَّرت. قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل.
قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني ، ولا أرى له قضاء ولا كفارة.
قلت: وفي هذا تعقُّب على الموفق وغيره حيث نقلوا الإجماع على خلاف ما ذهب إليه الأعمش، والله أعلم.
وفي هذا الحديث جواز الأذان قبل طلوع الفجر. وإلى مشروعيّته مطلقاً ذهب الجمهور. وخالف الثّوريّ وأبو حنيفة ومحمّد.
وإلى الاكتفاء مطلقاً. ذهب مالكٌ والشّافعيّ وأحمد وأصحابهم.
وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث ، وقال به الغزاليّ في الإحياء.
وادّعى بعضهم: أنّه لَم يرد في شيء من الحديث ما يدلّ على الاكتفاء.
وتعقّب: بحديث الباب.
(1) أي: الحافظ ابن المنذر رحمه الله.
وأجيب: بأنّه مسكوت عنه فلا يدلّ على التّنزّل فمحلّه فيما إذا لَم يرد نطقٌ بخلافه، وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة (1) بما يشعر بعدم الاكتفاء.
نعم. حديث زياد بن الحارث عند أبي داود ، يدلّ على الاكتفاء، فإنّ فيه أنّه أذّن قبل الفجر بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنّه استأذنه في الإقامة فمنعه، إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعفٌ.
وأيضاً فهي واقعة عينٍ ، وكانت في سفرٍ، ومن ثَمَّ قال القرطبيّ: إنّه مذهبٌ واضحٌ، غير أنّ العمل المنقول بالمدينة على خلافه. انتهى
فلم يردّه إلَاّ بالعمل على قاعدة المالكيّة.
وادّعى بعض الحنفيّة - كما حكاه السّروجيّ منهم - أنّ النّداء قبل الفجر لَم يكن بألفاظ الأذان، وإنّما كان تذكيراً أو تسحيراً كما يقع للنّاس اليوم.
وهذا مردودٌ، لكنّ الذي يصنعه النّاس اليوم محدثٌ قطعاً، وقد تضافرت الطّرق على التّعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشّرعيّ مقدّمٌ، ولأنّ الأذان الأوّل لو كان بألفاظٍ مخصوصةٍ لَمَا التبس على السّامعين. وسياق الخبر يقتضي أنّه خشي عليهم الالتباس.
وادّعى ابن القطّان: أنّ ذلك كان في رمضان خاصّةً ، وفيه نظرٌ.
وفي الحديث أيضاً استحباب أذان واحد بعد واحد. وأمّا أذان اثنين
(1) حديث عائشة أخرجه الشيخان بمثل لفظ حديث ابن عمر حديث الباب.
معاً فمنع منه قومٌ، ويقال: إنّ أوّل من أحدثه بنو أُميَّة.
وقال الشّافعيّة: لا يكره إلَاّ إن حصل من ذلك تهويشٌ (1).
واستدل به على جواز اتّخاذ مؤذّنين في المسجد الواحد، قال ابن دقيق العيد: وأمّا الزّيادة على الاثنين فليس في الحديث تعرّضٌ له. انتهى.
ونصّ الشّافعيّ على جوازه. ولفظه: ولا يتضيّق صلى الله عليه وسلم إن أذّن أكثر من اثنين، وعلى جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت وفيه أوجهٌ، واختلف فيه التّرجيح، وصحّح النّوويّ في كتبه أنّ للأعمى والبصير اعتمادَ المؤذّن الثّقة.
وفي الحديث
وهو القول الأول: جواز شهادة الأعمى، وهو قول مالكٍ والليث ، سواءٌ علم ذلك قبل العمى أو بعده.
القول الثاني: فصّل الجمهور. فأجازوا ما تحمّله قبل العمى لا بعده ، وكذا ما يتنزّل فيه منزلة المبصر ، كأن يشهد شخصٌ بشيءٍ ، ويتعلق هو به إلى أن يشهد به عليه.
القول الثالث: عن الحَكَمِ يجوز في الشّيء اليسير دون الكثير.
(1) أي: اختلاط الأصوات وتداخلها.
قال الحريري وابن الجوزي: العامَّة تقول: شَوَّشْتُ الشيء، إذا خلطته، فهو مُشَوَّشٌ. والصواب: هَوَّشْتُهُ وهو مُهَوَّشٌ. وفي القاموس: التّشْويشُ والمُشَوَّشُ والتّشَوُّشُ، كُلُّهن لَحْنٌ، ووهم الجوهري. والصواب: التّهْويشُ والمُهَوَّشُ والتّهَوُّش ". انتهى من " خير الكلام في التقصي عن أغلاط العوام " (ص 38) لعلي بن لالي القسطنطيني.
القول الرابع: قال أبو حنيفة ومحمّد: لا تجوز شهادته بحالٍ إلَاّ فيما طريقه الاستفاضة.
واستدل به على جواز العمل بخبر الواحد، وعلى أنّ ما بعد الفجر من حكم النّهار. وعلى جواز الأكل مع الشّكّ في طلوع الفجر ، لأنّ الأصل بقاء الليل، وخالف في ذلك مالك. فقال: يجب القضاء.
وعلى جواز الاعتماد على الصّوت في الرّواية إذا كان عارفاً به وإن لَم يشاهد الرّاوي، وخالف في ذلك شُعبة لاحتمال الاشتباه.
وعلى جواز ذكر الرّجل بما فيه من العاهة إذا كان يقصد التّعريف ونحوه، وجواز نسبة الرّجل إلى أمّه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه.
قوله: (ابن أمّ مكتوم) اسمه عمرو، وقيل: كان اسمه الحصين فسمّاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الله، ولا يمتنع أنّه كان له اسمان، وهو قرشيٌّ عامريٌّ، أسلم قديماً، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة.
وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة، وشهد القادسيّة في خلافة عمر فاستشهد بها، وقيل: رجع إلى المدينة فمات.
وهو الأعمى المذكور في سورة عبس، واسم أمّه عاتكة بنت عبد الله المخزوميّة. وزعم بعضهم. أنّه ولد أعمى فكنّيت أمّه أمّ مكتومٍ لانكتام نور بصره، والمعروف أنّه عمي بعد بدر بسنتين (1).
(1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 132): هذا فيه نظرٌ ، لأنَّ ظاهر القرآن يدلُّ على أنه عَمِي قبل الهجرة ، لأنَّ سورة عبس النازلة فيه مكية ، وقد وصفه الله فيها بأنه أعمى. فتنبه
وفيه جواز أذان الأعمى إذا كان له من يخبره بالوقت ، لأنّ الوقت في الأصل مبنيٌّ على المشاهدة، وعلى هذا القيد يُحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزّبير وغيرهما ، أنّهم كرهوا أن يكون المؤذّن أعمى.
وأمّا ما نقله النّوويّ عن أبي حنيفة وداود: أنّ أذان الأعمى لا يصحّ ، فقد تعقّبه السّروجيّ: بأنّه غلط على أبي حنيفة.
نعم. في المحيط للحنفيّة: أنّه يكره.
تنبيه: قال ابن منده: حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر مجمعٌ على صحّته، رواه جماعة من أصحابه عنه، ورواه عنه شعبة فاختلف عليه فيه: رواه يزيد بن هارون عنه على الشّكّ ، أنّ بلالاً كما هو المشهور، أو أنّ ابن أمّ مكتوم ينادي بليلٍ فكلوا واشربوا حتّى يؤذّن بلالٌ.
قال: ولشعبة فيه إسنادٌ آخر، فإنّه رواه أيضاً عن خبيب بن عبد الرّحمن عن عمّته أنيسة فذكره على الشّكّ أيضاً، أخرجه أحمد عن غندرٍ عنه، ورواه أبو داود الطّيالسيّ عنه جازماً بالأوّل، ورواه أبو الوليد عنه جازماً بالثّاني، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطّحاويّ والطّبرانيّ من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرّحمن.
وادّعى ابن عبد البرّ وجماعة من الأئمّة: بأنّه مقلوب ، وأنّ الصّواب حديث الباب.
وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه. وهو قوله " إذا أذّن عمرو - فإنّه ضرير البصر - فلا يغرّنّكم، وإذا أذّن بلالٌ فلا يطعمنّ أحدٌ " وأخرجه أحمد.
وجاء عن عائشة أيضاً ، أنّها كانت تنكر حديث ابن عمر ، وتقول: إنّه غلطٌ، أخرج ذلك البيهقيّ من طريق الدّراورديّ عن هشامٍ عن أبيه عنها. فذكر الحديث. وزاد " قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر. قال: وكانت عائشة تقول: غلط ابن عمر. انتهى.
وقد جمع ابن خزيمة والضّبعيّ بين الحديثين بما حاصله:
أنّه يحتمل: أن يكون الأذان كان نوباً بين بلال وابن أمّ مكتوم، فكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم النّاس أنّ أذان الأوّل منهما لا يحرّم على الصّائم شيئاً ، ولا يدلّ على دخول وقت الصّلاة بخلاف الثّاني. وجزم ابن حبّان بذلك ، ولَم يبده احتمالاً، وأنكر ذلك عليه الضّياء وغيره.
وقيل: لَم يكن نوباً، وإنّما كانت لهما حالتان مختلفتان: فإنّ بلالاً كان في أوّل ما شرع الأذان يؤذّن وحده ، ولا يؤذّن للصّبح حتّى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النّجّار. قالت: كان بلال يجلس على بيتي - وهو أعلى بيتٍ في المدينة - فإذا رأى الفجر تمطّأ ثمّ أذّن. أخرجه أبو داود وإسناده حسن.
ورواية حميدٍ عن أنس ، أنّ سائلاً سأل عن وقت الصّلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذّن حين طلع الفجر. الحديث. أخرجه النّسائيّ
وإسناده صحيح.
ثمّ أردف بابن أمّ مكتوم ، وكان يؤذّن بليلٍ واستمرّ بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها، ثمّ في آخر الأمر أخّر ابن أمّ مكتوم لضعفه. ووكّل به من يراعي له الفجر، واستقرّ أذان بلال بليلٍ.
وكان سبب ذلك. ما روي أنّه ربّما كان أخطأ الفجر فأذّن قبل طلوعه، وأنّه أخطأ مرّةً فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول: ألا إنّ العبد نام. يعني: أنّ غلبة النّوم على عينيه منعته من تبيّن الفجر، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حمّاد بن سلمة عن أيّوب عن نافع عن ابن عمر موصولاً مرفوعاً.
ورجاله ثقات حفّاظ، لكن اتّفق أئمّة الحديث. عليُّ بن المدينيّ وأحمد بن حنبل والبخاريّ والذّهليّ وأبو حاتم وأبو داود والتّرمذيّ والأثرم والدّارقطنيّ على أنّ حمّاداً أخطأ في رفعه، وأنّ الصّواب وقفه على عمر بن الخطّاب، وأنّه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذّنه ، وأنّ حمّاداً انفرد برفعه.
ومع ذلك فقد وجد له متابعٌ، أخرجه البيهقيّ من طريق سعيد بن زربيٍّ - وهو بفتح الزّاي وسكون الرّاء بعدها موحّدةٌ ثمّ ياءٌ كياء النّسب - فرواه عن أيّوب موصولاً ، لكنْ سعيدٌ ضعيفٌ. ورواه عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن أيّوب أيضاً، لكنّه أعضله فلم يذكر نافعاً ولا ابن عمر.
وله طريق أخرى عن نافع عند الدّارقطنيّ وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضاً، وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيدٍ وغيره عن حميد بن هلالٍ ، وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة. ووصلها يونس عن سعيد بذكر أنسٍ.
وهذه طرق يقوّي بعضها بعضاً قوّةً ظاهرةً، فلهذا - والله أعلم - استقرّ أنّ بلالاً يؤذّن الأذان الأوّل.
تكميلٌ: زاد البخاري من حديث عائشة عن القاسم (1) قال: لَم يكن بين أذانيهما إلَاّ أن يرقى ذا وينزل ذا.
وفي هذا تقييدٌ لِمَا أطلق في الرّوايات الأخرى من قوله " إنّ بلالاً يؤذّن بليلٍ "، ولا يقال إنّه مرسلٌ لأنّ القاسم تابعيٌّ فلم يدرك القصّة المذكورة، لأنّه ثبت عند النّسائيّ من رواية حفص بن غياثٍ.
وعند الطّحاويّ من رواية يحيى القطّان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة. فذكر الحديث ، قالت: ولَم يكن بينهما إلَاّ أن ينزل هذا ، ويصعد هذا.
وعلى هذا فمعنى قوله في رواية البخاريّ " قال القاسم " أي: في روايته عن عائشة. وقد وقع عند مسلمٍ في رواية ابن نميرٍ عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثل هذه الزّيادة، وفيها نظرٌ أوضحته في كتاب " المدرج ". وثبتت الزّيادة أيضاً في حديث أُنيسة الذي
(1) الحديث أخرجه الشيخان كما تقدَّم من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر ، وعن عبيد الله أيضاً عن القاسم عن عائشة.
تقدّمت الإشارة إليه (1).
وفيه حجّةٌ لمن ذهب إلى أنّ الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السّحور، وهو أحد الأوجه في المذهب ، واختاره السّبكيّ في " شرح المنهاج " ، وحكى تصحيحه عن القاضي حسين والمتولي. وقطع به البغويّ.
وكلام ابن دقيق العيد يشعر به، فإنّه قال بعد أن حكاه: يرجّح هذا بأنّ قوله " إنّ بلالاً ينادي بليلٍ " خبر يتعلق به فائدة للسّامعين قطعاً، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبهاً محتملاً لأن يكون عند طلوع الفجر ، فبيّن صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك لا يمنع الأكل والشّرب بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصّادق، قال: وهذا يدلّ على تقارب وقت أذان بلال من الفجر. انتهى.
ويقوّيه أيضاً ما تقدّم من أنّ الحكمة في مشروعيّته التّأهّب لإدراك الصّبح في أوّل وقتها، وصحّح النّوويّ في أكثر كتبه أنّ مبدأه من نصف الليل الثّاني.
وأجاب عن الحديث في " شرح مسلمٍ " فقال: قال العلماء: معناه أنّ بلالاً كان يؤذّن ويتربّص بعد أذانه للدّعاء ونحوه، فإذا قارب طلوع الفجر نزل فأخبر ابن أمّ مكتوم فيتأهّب بالطّهارة وغيرها ، ثمّ يرقى ويشرع في الأذان مع أوّل طلوع الفجر.
(1) حديث أنيسة. أخرجه أحمد كما تقدم في التنبيه.
وهذا - مع وضوح مخالفته لسياق الحديث - يحتاج إلى دليلٍ خاصٍّ لِمَا صحَّحه حتّى يسوغ له التّأويل. ووراء ذلك أقوالٌ أخرى معروفةٌ في الفقهيّات.
واحتجّ الطّحاويُّ لعدم مشروعيّة الأذان قبل الفجر بقوله: لَمّا كان بين أذانيهما من القرب ما ذكر في حديث عائشة ، ثبت أنّهما كانا يقصدان وقتاً واحداً ، وهو طلوع الفجر فيخطئه بلال ويصيبه ابن أمّ مكتوم.
وتعقّب: بأنّه لو كان كذلك لَمَا أقرّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم مؤذّناً واعتمد عليه، ولو كان كما ادّعى لكان وقوع ذلك منه نادراً. وظاهر حديث ابن عمر يدلّ على أنّ ذلك كان شأنه وعادته.
وفي الحديث دليل على أنَّ غاية الأكل والشرب طلوع الفجر. وسيأتي الكلام عليه مستوفي في الصيام إن شاء الله.