الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ترك الجهر بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
الحديث الثامن والخمسون
107 -
عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهم: كانوا يفتتحون الصّلاة بـ (الحمد لله ربّ العالمين). (1)
وفي روايةٍ: صليت مع أبي بكرٍ وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). (2)
الحديث التاسع والخمسون
108 -
ولمسلمٍ: صليتُ خلفَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بـ (الحمد لله ربّ العالمين) ، لا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، في أوّل قراءةٍ ولا في آخرها. (3)
قوله: (وأبا بكر) عبد الله بن أبي قحافة التيمي. هكذا جزم البخاري بأن اسم أبي بكر عبد الله وهو المشهور، ويقال: كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة. وكان يُسمى أيضاً عتيقاً.
واختلف هل هو اسم له أصلي ، أو قيل له ذلك لأنه ليس في نسبه
(1) أخرجه البخاري (710) من طريق شعبة عن قتادة عن أنس به.
(2)
أخرجه مسلم (399) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة عن أنس به.
(3)
أخرجه مسلم (399) من طريق الأوزاعي عن قتادة ، أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ما يعاب به ، أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام ، أو قيل له ذلك لحسنه ، أو لأنَّ أمه كان لا يعيش لها ولد فلمَّا ولد استقبلت به البيت ، فقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت ، أو لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله أعتقه من النار.؟
وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار، وصحَّحه ابن حبان. وزاد فيه " وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان " وعثمان اسم أبي قحافة لَم يختلف في ذلك كما لَم يختلف في كنية الصديق.
ولُقِّب الصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء. وروى الطبراني من حديث علي ، أنه كان يحلف أنَّ الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق. رجاله ثقات.
وأما نسبه: فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وعدد آبائهما إلى مُرّة سواء.
وأم أبي بكر سلمى ، وتكنى أم الخير بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور، أسلمت وهاجرت، وذلك معدودٌ من مناقبه؛ لأنه انتظم إسلام أبويه وجميع أولاده.
وروى ابن سعد من طريق الزهري عن عروة عن عائشة: أوَّل بدءِ مرضِ أبي بكر ، أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً، فحُمَّ خمسة عشر يوماً، ومات مساء ليلة الثلاثاء
لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة "
قوله: (كانوا يفتتحون الصّلاة) أي: القراءة في الصّلاة، وكذلك رواه ابن المنذر والجوزقيّ وغيرهما من طريق أبي عمر الدّوريّ - وهو حفص بن عمر شيخ البخاريّ - فيه عن شعبة بلفظ " كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله ربّ العالمين " ، وكذلك رواه البخاريّ في " جزء القراءة خلف الإمام " عن عمرو بن مرزوق عن شعبة ، وذكر أنّها أبين من رواية حفص بن عمر.
قوله: (بالحمد لله ربّ العالمين) بضمّ الدّال على الحكاية.
واختلف في المراد بذلك:
فقيل: المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة، (1) وهذا قول من أثبت البسملة في أوّلها.
وتعقّب: بأنّها إنّما تسمّى الحمد فقط.
وأجيب: بمنع الحصر، ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي " الحمد لله ربّ العالمين " في صحيح البخاريّ من حديث أبي سعيد بن المعلى ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن. فذكر الحديث. وفيه قال " الحمد لله ربّ العالمين ، هي السّبع المثاني ".
وقيل: المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسّكاً بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة، لكن لا يلزم من قوله " كانوا
(1) حكاه ابن حجر في الفتح في " تفسير أم الكتاب " عن الشافعي.
يفتتحون بالحمد " أنّهم لَم يقرءوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سرّاً. وقد أطلق أبو هريرة السّكوت على القراءة سرّاً كما في الصحيحين قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة فقلت: بأبي وأمي يا رسولَ الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد .. الحديث.
وقد اختلف الرّواة عن شعبة في لفظ الحديث:
فرواه جماعةٌ من أصحابه عنه بلفظ " كانوا يفتتحون بـ (الحمد لله ربّ العالمين).
ورواه آخرون عنه بلفظ " فلم أسمع أحداً منهم يقرأ ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطّيالسيّ ومحمّد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عمر الدّوريّ - شيخ البخاريّ فيه -، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمّد بن جعفر باللفظين.
وهؤلاء مِن أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال هذا اضطراب من شعبة؛ لأنّا نقول قد رواه جماعةٌ من أصحاب قتادة عنه باللفظين، فأخرجه البخاريّ في " جزء القراءة " والنّسائيّ وابن ماجه من طريق أيّوب ، وهؤلاء والتّرمذيّ من طريق أبي عوانة والبخاريّ في " جزء القراءة " ، وأبو داود من طريق هشام الدّستوائيّ ، والبخاريّ فيه وابن حبّان من طريق حمّاد بن سلمة ، والبخاريّ فيه والسّرّاج من طريق همّامٍ كلّهم عن قتادة باللفظ الأوّل.
وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعيّ عن قتادة بلفظ " لَم يكونوا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ".
وقد قدح بعضهم في صحّته بكون الأوزاعيّ رواه عن قتادة مكاتبة.
وفيه نظرٌ ، فإنّ الأوزاعيّ لَم ينفرد به ، فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدّورقيّ والسّرّاج عن يعقوب الدّورقيّ وعبد الله بن أحمد بن عبد الله السّلميّ ثلاثتهم عن أبي داود الطّيالسيّ عن شعبة بلفظ " فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قال شعبة قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه.
لكنّ هذا النّفي محمول على ما قدّمناه أنّ المراد أنّه لَم يسمع منهم البسملة.
فيحتمل: أن يكونوا يقرءونها سرّاً، ويؤيّده رواية من رواه عنه بلفظ " فلم يكونوا يجهرون ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عند النّسائيّ وابن حبّان ، وهمّام عند الدّارقطنيّ ، وشيبان عند الطّحاويّ وابن حبّان ، وشعبة أيضاً من طريق وكيعٍ عنه عند أحمد أربعتهم عن قتادة.
ولا يقال هذا اضطراب من قتادة لأنّا نقول: قد رواه جماعةٌ من أصحاب أنسٍ عنه كذلك: فرواه البخاريّ في " جزء القراءة " والسّرّاج وأبو عوانة في " صحيحه " من طريق إسحاق بن أبي طلحة ، والسّرّاج من طريق ثابت البنانيّ ، والبخاريّ فيه من طريق مالك بن
دينار كلّهم عن أنس باللفظ الأوّل، ورواه الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق إسحاق أيضاً وابن خزيمة من طريق ثابت أيضاً ، والنّسائيّ من طريق منصور بن زاذان ، وابن حبّان من طريق أبي قلابة ، والطّبرانيّ من طريق أبي نعامة كلّهم عن أنس باللفظ النّافي للجهر.
فطريق الجمع بين هذه الألفاظ. حمل نفي القراءة على نفي السّماع ونفي السّماع على نفي الجهر.
ويؤيّده أنّ لفظ رواية منصور بن زاذان " فلم يسمعنا قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وأصرح من ذلك ، رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة بلفظ " كانوا يسرّون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ".
فاندفع بهذا تعليل من أعلَّه بالاضطراب كابن عبد البرّ؛ لأنّ الجمع إذا أمكن تعيّن المصير إليه.
وأمّا من قدح في صحّته بأنّ أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنساً عن هذه المسألة ، فقال: إنّك لتسألني عن شيءٍ ما أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك؟.
ودعوى أبي شامة ، أنّ أنساً سئل عن ذلك سؤالين فسؤال أبي سلمة: هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمدلة؟ ، وسؤال قتادة: هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها؟. قال: ويدلّ عليه قول قتادة في صحيح مسلمٍ " نحن سألناه " انتهى.
فليس بجيّدٍ؛ لأنّ أحمد روى في " مسنده " بإسناد الصّحيحين ، أنّ سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلمٍ إنّما قاله عقب
رواية أبي داود الطّيالسيّ عن شعبة، ولَم يبيّن مسلم صورة المسألة، وقد بيّنها أبو يعلى والسّرّاج وعبد الله بن أحمد في رواياتهم التي ذكرناها عن أبي داود ، أنّ السّؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة.
وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر عن طريق أبي جابر عن شعبة عن قتادة قال: سألت أنساً: أيقرأ الرّجل في الصّلاة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فظهر اتّحاد سؤال أبي سلمة وقتادة.
وغايته أنّ أنساً أجاب قتادة بالحكم دون أبي سلمة، فلعله تذكّره لَمّا سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي سلمة " ما سألني عنه أحد قبلك " ، أو قاله لهما معاً فحفظه قتادة دون أبي سلمة فإنّ قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع.
وإذا انتهى البحث إلى أنّ محصّل حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الرّوايات عنه ، فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدّمت على نفيه، لمجرّد تقديم رواية المثبت على النّافي؛ لأنّ أنساً يبعد جدّاً أن يصحب النّبيّ صلى الله عليه وسلم مدّة عشر سنين ثمّ يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمساً وعشرين سنةً فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاةٍ واحدةٍ، بل لكون أنسٍ اعترف بأنّه لا يحفظ هذا الحكم كأنّه لبعد عهده به، ثمّ تذكّر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهراً ولَم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعيّن الأخذ بحديث من أثبت
الجهر (1).
وترجم له ابن خزيمة وغيره " إباحة الإسرار بالبسملة في الجهريّة ".
وفيه نظرٌ؛ لأنّه لَم يختلف في إباحته بل في استحبابه.
واستدل به المالكيّة على ترك دعاء الافتتاح، وحديث أبي هريرة يردّ عليه (2).
وكأنّ هذا هو السّرّ في إيراد البخاري لحديث أبي هريرة عقب حديث الباب (حديث أنس)، وقد تحرّر أنّ المراد بحديث أنس بيان ما يفتتح به القراءة، فليس فيه تعرّضٌ لنفي دعاء الافتتاح.
تنبيهٌ: وقع ذِكْر عثمان في حديث أنس في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند البخاريّ في " جزء القراءة " ، وكذا في رواية حجّاج بن محمّد عن شعبة عند أبي عوانة، وهو في رواية شيبان وهشام والأوزاعيّ. وقد أشرنا إلى روايتهم فيما تقدَّم.
(1) قال الشيخ ابن باز حمه الله (2/ 296): هذا فيه نظرٌ. والصواب تقديم ما دلَّ عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة لصحته وصراحته في هذه المسألة ، وكونه نسي ثم ذكره لا يقدح في روايته كما عُلم في الأصول والمصطلح. وتُحمل رواية من روى الجهر بالبسملة على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها في بعض الأحيان ليعلَم مَن وراءه أنه يقرأها ، وبهذا تجتمع الأحاديث ، وقد وردت أحاديث صحيحه تؤيد ما دلَّ عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة. والله أعلم.
(2)
يقصد حديث أبي هريرة في الاستفتاح الذي تقدم ذكره هنا في شرح الحديث ، وقد تقدّم شرحه مستوفى في باب " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " في هذا الكتاب رقم (86)