الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب استقبال القبلة
الحديث الثالث والعشرون
72 -
عن ابن عمر رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسبّح على ظهر راحلته ، حيث كان وجهه ، يُومئ برأسه ، وكان ابن عمر يفعله. (1)
وفي روايةٍ: كان يوتر على بعيره. (2)
ولمسلمٍ: غير أنّه لا يُصلِّي عليها المكتوبة. (3)
وللبخاريّ: إلَاّ الفرائض. (4)
قوله: (كان يسبح) وللبخاري " كان يُصلِّي في السفر على راحلته " أي: يُصلِّي النّافلة، وقد تكرّر في الحديث كثيراً، وفي حديث عائشة " سبحة الضّحى "(5).
والتّسبيح حقيقة في قول سبحان الله، فإذا أطلق على الصّلاة فهو
(1) أخرجه البخاري (1954) ومسلم (700) من الزهري عن سالم عن أبيه. واللفظ للبخاري. وللحديث طرق أخرى في الصحيحين سيذكر الشارح بعضها.
(2)
أخرجه البخاري (954) ومسلم (700) من طريق أبي بكر بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر بن الخطاب عن سعيد بن يسار عن ابن عمر به. وفيه (كان يوتر على البعير)
(3)
أخرجه مسلم (700) والبخاري معلّقاً (1047) من طريق يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله عن أبيه.
(4)
أخرجه البخاري (955) من طريق جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر به.
(5)
أخرجه البخاري (1076) ومسلم (718) عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سُبحة الضحى قطُّ ، وإني لأُسبّحها.
من باب إطلاق اسم البعض على الكلّ، أو لأنّ المُصلِّي مُنزِّه لله سبحانه وتعالى بإخلاص العبادة، والتّسبيح التّنزيه فيكون من باب الملازمة.
وأمّا اختصاص ذلك بالنّافلة فهو عُرف شرعيّ. والله أعلم. (1)
قوله: (على ظهر راحلته) ترجم البخاري باب " الوتر على الدابة ".
قال الزين بن المنير: ترجم بالدّابّة تنبيهاً على أن لا فرق بينها وبين البعير (2) في الحكم، والجامع بينهما. أنّ الفرض لا يجزئ على واحدة منهما. انتهى
ولعلَّ البخاريّ أشار إلى ما ورد في بعض طرقه.
فأخرج البخاري من طريق سالم عن أبيه ، أنّه كان يُصلِّي من الليل على دابّته وهو مسافر ، وروى محمّد بن نصر من طريق ابن جريجٍ ، قال: حدّثنا نافع ، أنّ ابن عمر كان يوتر على دابّته.
قال ابن جريجٍ: وأخبرني موسى بن عقبة عن نافع ، أنّ ابن عمر كان يخبر ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
وفي الحديث الرّدّ على مَن قال: إنّه لا يسنّ في السّفر، وهو منقول عن الضّحّاك.
(1) قال الشارح في موضع آخر من الفتح: وخُصّت النافلة بذلك ، لأنَّ التسبيح الذي في الفريضة نافلة ، فقيل لصلاة النافلة سُبحة ، لأنها كالتسبيح في الفريضة.
(2)
حيث أورد البخاري رواية سالم المتقدّمة بلفظ (يوتر على البعير)
وأمّا قول ابن عمر: لو كنت مسبّحاً في السّفر لأتممت. كما أخرجه مسلم وأبو داود من طريق حفص بن عاصم عنه ، فإنّما أراد به راتبة المكتوبة لا النّافلة المقصودة كالوتر.
وذلك بيّنٌ من سياق الحديث المذكور، فقد رواه التّرمذيّ من وجه آخر بلفظ: سافرت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يصلّون الظّهر والعصر ركعتين ركعتين ، لا يصلّون قبلها ولا بعدها، فلو كنت مصلياً قبلها أو بعدها لأتممت.
ويحتمل: أن تكون التّفرقة بين نوافل النّهار ونوافل الليل، فإنّ ابن عمر كان يتنفّل على راحلته ، وعلى دابّته في الليل وهو مسافر، وقد قال مع ذلك ما قال.
فائدةٌ:
قال الطّحاويّ: ذُكر عن الكوفيّين أنّ الوتر لا يُصلَّى على الرّاحلة، وهو خلاف السّنّة الثّابتة، واستدل بعضهم برواية مجاهد ، أنّه رأى ابن عمر نزل فأوتر. وليس ذلك بمعارضٍ لكونه أوتر على الرّاحلة ، لأنّه لا نزاع أنّ صلاته على الأرض أفضل.
وروى عبد الرّزّاق من وجه آخر عن ابن عمر ، أنّه كان يوتر على راحلته، وربّما نزل فأوتر بالأرض.
قوله: (حيث كان وجهه) في رواية لهما " حيث توجهت به " ، وهو أعمّ من قول جابر في البخاري " في غير القبلة ".
قال ابن التّين: قوله " حيث توجّهت به " مفهومه أنّه يجلس عليها
على هيئته التي يركبها عليها ، ويستقبل بوجهه ما استقبلته الرّاحلة، فتقديره يُصلِّي على راحلته التي له حيث توجّهت به، فعلى هذا يتعلق قوله " توجّهت به " بقوله " يُصلِّي ".
ويحتمل: أن يتعلق بقوله " على راحلته "، لكن يؤيّد الأوّل رواية عقيل عن ابن شهاب عند البخاري بلفظ " وهو على الرّاحلة يسبّح قِبَل أيِّ وجهٍ توجّهت ".
قوله: (يومئ برأسه) أي: للرّكوع والسّجود لمن لَم يتمكّن من ذلك، وبهذا قال الجمهور.
وروى أشهب عن مالك ، أنّ الذي يُصلِّي على الدّابّة لا يسجد بل يومئ. وزاد البخاري من رواية جويرية عن نافع عن ابن عمر " يومئ إيماء إلَاّ الفرائض ".
قال ابن دقيق العيد: الحديث يدلّ على الإيماء مطلقاً في الرّكوع والسّجود معاً، والفقهاء قالوا: يكون الإيماء في السّجود أخفض من الرّكوع ليكون البدل على وفق الأصل، وليس في لفظ الحديث ما يثبته ولا ينفيه.
قلت: إلَاّ أنه وقع عند التّرمذيّ من طريق أبي الزّبير عن جابر بلفظ " فجئت وهو يُصلِّي على راحلته نحو المشرق ، السّجود أخفض من الرّكوع ".
قوله: (وكان ابن عمر يفعله) لا يعارض ما رواه أحمد بإسنادٍ صحيح عن سعيد بن جبير ، أنّ ابن عمر كان يُصلِّي على الرّاحلة
تطوّعاً، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض. لأنّه محمول على أنّه فعل كُلاً من الأمرين.
ويؤيّد رواية الباب ما رواه البخاري ، أنّه أنكر على سعيد بن يسار نزوله الأرض ليوتر ، وإنّما أنكر عليه - مع كونه كان يفعله - لأنّه أراد أن يبيّن له أنّ النّزول ليس بحتمٍ.
ويحتمل: أن يتنزّل فعل ابن عمر على حالين:
الأولى: حيث أوتر على الرّاحلة كان مجدّاً في السّير.
الثانية: حيث نزل فأوتر على الأرض كان بخلاف ذلك.
قوله: (إلَاّ الفرائض) أي: لكن الفرائض بخلاف ذلك، فكان لا يُصلِّيها على الرّاحلة.
قال ابن بطّال: أجمع العلماء على اشتراط ذلك، وأنّه لا يجوز لأحدٍ أن يُصلِّي الفريضة على الدّابّة من غير عذر ، واستدل به على أنّ الوتر ليس بفرضٍ، وعلى أنّه ليس من خصائص النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وجوب الوتر عليه لكونه أوقعه على الرّاحلة.
وأمّا قول بعضهم: إنّه كان من خصائصه أيضاً أن يوقعه على الرّاحلة مع كونه واجباً عليه ، فهي دعوى لا دليل عليها ، لأنّه لَم يثبت دليل وجوبه عليه حتّى يحتاج إلى تكلّف هذا الجمع.
واستدل به على أنّ الفريضة لا تُصلّى على الرّاحلة.
قال ابن دقيق العيد: وليس ذلك بقويٍّ، لأنّ التّرك لا يدلّ على المنع ، إلَاّ أن يقال إنّ دخول وقت الفريضة ممّا يكثر على المسافر فترك
الصّلاة لها على الرّاحلة دائماً يشعر بالفرق بينها وبين النّافلة في الجواز وعدمه.
وأجاب من ادّعى وجوب الوتر من الحنفيّة:
بأنّ الفرض عندهم غير الواجب، فلا يلزم من نفي الفرض نفي الواجب.
وهذا يتوقّف على أنّ ابن عمر كان يفرّق بين الفرض والواجب.
وقد بالغ الشّيخ أبو حامد. فادّعى أنّ أباحنيفة انفرد بوجوب الوتر. ولَم يوافقه صاحباه، مع أنّ ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسيّب وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود والضّحّاك ما يدلّ على وجوبه عندهم، وعنده عن مجاهد: الوتر واجب. ولَم يثبت.
ونقله ابن العربيّ عن أصبغ من المالكيّة ووافقه سحنون، وكأنّه أخذه من قول مالك: من تركه أُدّب، وكان جرحة في شهادته.
قال المُهلَّب: هذه الأحاديث (1) تخصّ قوله تعالى (وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره) وتبيّن أنّ قوله تعالى (فأينما تولّوا فثمّ وجه الله) في النّافلة، وقد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلَاّ أنّ أحمد وأبا ثور كانا يستحبّان أن يستقبل القبلة بالتّكبير حال ابتداء الصّلاة.
والحجّة لذلك حديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم
(1) أي: حديث ابن عمر ، وحديث جابر ، وحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنهم. حيث أخرجها البخاري في صحيحه.
كان إذا أراد أن يتطوّع في السّير ، استقبل بناقته القبلة ، ثمّ صلَّى حيث وجّهت ركابه. أخرجه أبو داود وأحمد والدّراقطنيّ.
واختلفوا في الصّلاة على الدّوابّ في السّفر الذي لا تقصر فيه الصّلاة.
فذهب الجمهور: إلى جواز ذلك في كلّ سفر، غير مالك فخصّه بالسّفر الذي تقصر فيه الصّلاة.
قال الطّبريّ: لا أعلم أحداً وافقه على ذلك.
قلت: ولَم يتّفق على ذلك عنه، وحجّته أنّ هذه الأحاديث إنّما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم، ولَم ينقل عنه أنّه سافر سفراً قصيراً فصنع ذلك.
وحجّة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك.
واحتجّ الطّبريّ للجمهور من طريق النّظر: أنّ الله تعالى جعل التّيمّم رخصة للمريض والمسافر، وقد أجمعوا على أنّ من كان خارج المصر على ميل أو أقلّ ونيّته العود إلى منزله لا إلى سفر آخر ، ولَم يجد ماء أنّه يجوز له التّيمّم.
وقال: فكما جاز له التّيمّم في هذا القدر ، جاز له النّفل على الدّابّة لاشتراكهما في الرّخصة. انتهى.
وكأنّ السّرّ فيما ذكر ، تيسير تحصيل النّوافل على العباد ، وتكثيرها تعظيماً لأجورهم رحمة من الله بهم.
وقد طرد أبو يوسف ومن وافقه التّوسعة في ذلك. فجوّزه في
الحضر أيضاً، وقال به من الشّافعيّة أبو سعيد الإصطخريّ.
واستدل بقوله " حيث كان وجهه " على أنّ جهة الطّريق تكون بدلاً عن القبلة حتّى لا يجوز الانحراف عنها عامداً قاصداً لغير حاجة المسير ، إلَاّ إن كان سائراً في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة القبلة ، فإنّ ذلك لا يضرّه على الصّحيح.
واستدل به على أنّ الوتر غير واجب عليه صلى الله عليه وسلم لإيقاعه إيّاه على الرّاحلة.
واستُنبط من دليل التّنفّل للرّاكب جواز التّنفّل للماشي، ومنعه مالك مع أنّه أجازه لراكب السّفينة.