المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الخامس والسبعون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٣

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌باب التشهُّد

- ‌الحديث الخامس والسبعون

- ‌الحديث السادس والسبعون

- ‌الحديث السابع والسبعون

- ‌الحديث الثامن والسبعون

- ‌الحديث التاسع والسبعون

- ‌باب الوتر

- ‌الحديث الثمانون

- ‌الحديث الواحد والثمانون

- ‌الحديث الثاني والثمانون

- ‌باب الذكر عقب الصّلاة

- ‌الحديث الثالث والثمانون

- ‌الحديث الرابع والثمانون

- ‌الحديث الخامس والثمانون

- ‌الحديث السادس والثمانون

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌الحديث السابع والثمانون

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌الحديث الثامن والثمانون

- ‌باب الجمعة

- ‌الحديث التاسع والثمانون

- ‌الحديث التسعون

- ‌الحديث الواحد والتسعون

- ‌الحديث الثاني والتسعون

- ‌الحديث الثالث والتسعون

- ‌الحديث الرابع والتسعون

- ‌الحديث الخامس والتسعون

- ‌الحديث السادس والتسعون

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌الحديث السابع والتسعون

- ‌الحديث الثامن والتسعون

- ‌الحديث التاسع والتسعون

- ‌الحديث المائة

- ‌الحديث المائة وواحد

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌الحديث المائة واثنان

- ‌الحديث المائة وثلاثة

- ‌الحديث المائة وأربعة

- ‌الحديث المائة وخمسة

- ‌باب صلاة الاستسقاء

- ‌الحديث المائة وستة

- ‌الحديث المائة وسبعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌الحديث المائة وثمانية

- ‌الحديث المائة وتسعة

- ‌الحديث المائة وعشرة

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

الفصل: ‌الحديث الخامس والسبعون

‌باب التشهُّد

‌الحديث الخامس والسبعون

124 -

عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: علَّمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم التّشهّد. كفّي بين كفّيه ، كما يُعلِّمني السّورة من القرآن: التّحيّات لله والصّلوات والطّيّبات ، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته ، السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلَاّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله. (1)

وفي لفظٍ: إذا قعد أحدكم في الصّلاة فليقل: التّحيّات لله ، وذكره. وفيه: فإنّكم إذا فعلتم ذلك ، فقد سلَّمتم على كل عبدٍ لله صالِحٍ في السّماء والأرض. وفيه: فليتخيّر من المسألة ما شاء. (2)

قوله: (التّشهّد) هو تفعّل من تشهّد، سُمِّي بذلك لاشتماله على النّطق بشهادة الحقّ تغليباً لها على بقيّة أذكاره لشرفها.

قوله: (كفّي بين كفّيه) فيه جواز الأخذ باليد من غير حصول المصافحة ، وهي مفاعلة من الصّفحة ، والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد.

(1) أخرجه البخاري (5910) ومسلم (402) من طريق مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (797 ، 800 ، 1144 ، 5876 ، 5969 ، 6946) ومسلم (402) من طرق عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود رضي الله عنه به.

ص: 2

وقد أخرج التّرمذيّ من حديث ابن مسعود رفعه " من تمام التّحيّة الأخذ باليد " وفي سنده ضعف، وحكى التّرمذيّ عن البخاريّ: أنّه رجّح أنّه موقوف على عبد الرّحمن بن يزيد النّخعيّ أحد التّابعين.

وأخرج ابن المبارك في " كتاب البرّ والصّلة " من حديث أنس: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرّجل لا ينزع يده حتّى يكون هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتّى يكون هو الذي يصرفه ". وأخرج التّرمذيّ بسندٍ ضعيف من حديث أبي أُمامة رفعه " تمام تحيّتكم بينكم المصافحة ".

وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " وأبو داود بسندٍ صحيح من طريق حميدٍ عن أنس رفعه: قد أقبل أهل اليمن ، وهم أوّل من حيّانا بالمصافحة. وفي " جامع ابن وهب " من هذا الوجه " وكانوا أوّل من أظهر المصافحة ".

وأخرج البخاري في " صحيحه " عن قتادة، قال: قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ".

قال ابن بطّال (1): المصافحة حسنة عند عامّة العلماء، وقد استحبّها مالك بعد كراهته.

وقال النّوويّ (2): المصافحة سنّة مجمع عليها عند التّلاقي. وقد أخرج أحمد وأبو داود والتّرمذيّ عن البراء رفعه " ما من مسلمَين

(1)((هو علي بن خلف ، سبق ترجمته (1/ 34)

(2)

هو يحيى بن شرف ، سبق ترجمته (1/ 22)

ص: 3

يلتقيان فيتصافحان ، إلَاّ غفر لهما قبل أن يتفرّقا " ، وزاد فيه ابن السّنّيّ " وتكاشرا بودٍّ ونصيحة " ، وفي رواية لأبي داود " وحمدا الله واستغفراه ".

وأخرجه أبو بكر الرّويانيّ في " مسنده " من وجه آخر عن البراء: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحني، فقلت: يا رسولَ الله كنت أحسب أنّ هذا من زيّ العجم، فقال: نحن أحقّ بالمصافحة. فذكر نحو سياق الخبر الأوّل.

وفي مرسل عطاء الخراسانيّ في الموطّأ " تصافحوا يذهب الغلّ " ولَم نقف عليه موصولاً، واقتصر ابن عبد البرّ على شواهده من حديث البراء وغيره.

قال النّوويّ: وأمّا تخصيص المصافحة بما بعد صلاتي الصّبح والعصر ، فقد مثّل ابن عبد السّلام في " القواعد " البدعة المباحة منها.

قال النّوويّ: وأصل المصافحة سنّة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال لا يخرج ذلك عن أصل السّنّة.

قلت: للنّظر فيه مجال، فإنّ أصل صلاة النّافلة سنّة مرغّب فيها، ومع ذلك فقد كره المحقّقون تخصيص وقت بها دون وقت.

ومنهم: من أطلق تحريم مثل ذلك كصلاة الرّغائب التي لا أصل لها، ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبيّة والأمرد الحسن.

ص: 4

وقال ابن بطّال: الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة ، وذلك مستحبّ عند العلماء، وإنّما اختلفوا في تقبيل اليد ، فأنكره مالك ، وأنكر ما روي فيه.

وأجازه آخرون: واحتجّوا بما روي عن ابن عمر ، أنّهم لَمّا رجعوا من الغزو حيث فرّوا ، قالوا: نحن الفرّارون، فقال: بل أنتم العكّارون أنا فئة المؤمنين، قال: فقبّلنا يده.

قال: وقبّل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم. ذكره الأبهريّ، وقبّل أبو عبيدة يدَ عمر حين قدم، وقبّل زيد بن ثابت يدَ ابن عبّاس حين أخذ ابن عبّاس بركابه.

قال الأبهريّ: وإنّما كرهها مالك إذا كانت على وجه التّكبّر والتّعظّم، وأمّا إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإنّ ذلك جائز.

قال ابن بطّال: وذكر التّرمذيّ من حديث صفوان بن عسّال " أنّ يهوديّين أتيا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات " الحديث وفي آخره " فقبّلا يده ورجله ". قال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.

قلت: حديث ابن عمر. أخرجه البخاريّ في " الأدب المفرد " وأبو داود، وحديث أبي لبابة. أخرجه البيهقيّ في " الدّلائل " وابن المقري، وحديث كعب وصاحبيه. أخرجه ابن المقري، وحديث أبي عبيدة. أخرجه سفيان في " جامعه " ، وحديث ابن عبّاس. أخرجه الطّبريّ وابن المقري، وحديث صفوان. أخرجه أيضاً النّسائيّ وابن

ص: 5

ماجه وصحّحه الحاكم.

وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءاً في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثاراً.

فمن جيّدها حديث الزّارع العبديّ - وكان في وفد عبد القيس –قال: فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبّل يد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورجله " أخرجه أبو داود، ومن حديث مزيدة العصريّ مثله، ومن حديث أسامة بن شريك قال: قمنا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقبّلْنَا يده. وسنده قويّ.

ومن حديث جابر ، أنّ عمر قام إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقبّل يده. ومن حديث بريدة في قصّة الأعرابيّ والشّجرة. فقال: يا رسولَ الله. ائذن لي أن أقبّل رأسك ورجليك فأذن له.

وأخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " من رواية عبد الرّحمن بن رزين قال: أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفّاً له ضخمة كأنّها كفّ بعير ، فقمنا إليها فقبّلناها ، وعن ثابت ، أنّه قبّل يدَ أنس ، وأخرج أيضاً: أنّ عليّاً قبّل يدَ العبّاس ورجله.

وأخرجه ابن المقري، وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي قال: قلت لابن أبي أوفى: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فناولنيها فقبّلتها.

قال النّوويّ: تقبيل يد الرّجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدّينيّة لا يكره بل يستحبّ.

فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدّنيا فمكروه شديد

ص: 6

الكراهة ، وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز.

قوله: (التّحيّات) جمع تحيّة ، ومعناها السّلام.

وقيل: البقاء ، وقيل: العظمة ، وقيل: السّلامة من الآفات والنّقص ، وقيل: الملك.

وقال أبو سعيد الضّرير: ليست التّحيّة الملك نفسه ، لكنّها الكلام الذي يحيّا به الملك.

وقال ابن قتيبة: لَم يكن يحيّا إلَاّ الملك خاصّة، وكان لكل ملك تحيّةٌ تخصّه فلهذا جُمعت، فكان المعنى التّحيّات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلّها مستحقّة لله.

وقال الخطّابيّ (1) ثمّ البغويّ: ولَم يكن في تحيّاتهم شيء يصلح للثّناء على الله، فلهذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التّعظيم فقال: قولوا التّحيّات لله، أي: أنواع التّعظيم له.

وقال المحبّ الطّبريّ: يحتمل أن يكون لفظ التّحيّة مشتركاً بين المعاني المقدّم ذكرها، وكونها بمعنى السّلام أنسب هنا.

قوله: (لله) قال القرطبي (2): فيه تنبيهٌ على الإخلاص في العبادة، أي: أنّ ذلك لا يفعل إلَاّ لله، ويحتمل: أن يراد به الاعتراف بأنّ ملك الملوك وغير ذلك ممّا ذكر كلّه في الحقيقة لله تعالى.

(1) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).

(2)

هو صاحب المفهم أحمد بن عمر ، سبق ترجمته (1/ 26)

ص: 7

وقال البيضاويّ (1): يحتمل: أن يكون والصّلوات والطّيّبات عطفاً على التّحيّات، ويحتمل: أن تكون الصّلوات مبتدأً ، وخبره محذوف ، والطّيّبات معطوفة عليها ، والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة، والثّانية لعطف المفرد على الجملة.

وقال ابن مالك: إن جعلتَ التّحيّات مبتدأ ، ولَم تكن صفة لموصوفٍ محذوف ، كان قولك والصّلوات مبتدأ ، لئلا يعطف نعت على منعوته ، فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض، وكلّ جملة مستقلة بفائدتها، وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو.

قوله: (والصّلوات) قيل المراد الخمس، أو ما هو أعمّ من ذلك من الفرائض والنّوافل في كلّ شريعة.

وقيل: المراد العبادات كلّها، وقيل: الدّعوات.

وقيل: المراد الرّحمة.

وقيل: التّحيّات العبادات القوليّة والصّلوات العبادات الفعليّة والطّيّبات الصّدقات.

قوله: (والطّيّبات) أي: ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته ممّا كان الملوك يحيّون به.

وقيل: الطّيّبات ذكر الله.

وقيل: الأقوال الصّالحة كالدّعاء والثّناء.

وقيل: الأعمال الصّالحة وهو أعمّ.

(1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي ، سبق ترجمته (1/ 191)

ص: 8

قال ابن دقيق العيد (1): إذا حمل التّحيّة على السّلام فيكون التّقدير التّحيّات التي تعظّم بها الملوك مستمرّة لله، وإذا حمل على البقاء فلا شكّ في اختصاص الله به، وكذلك الملك الحقيقيّ والعظمة التّامّة، وإذا حملت الصّلاة على العهد أو الجنس ، كان التّقدير أنّها لله واجبة لا يجوز أن يقصد بها غيره، وإذا حملت على الرّحمة فيكون معنى قوله " لله " أنّه المتفضّل بها ، لأنّ الرّحمة التّامّة لله يؤتيها من يشاء. وإذا حملت على الدّعاء فظاهر.

وأمّا الطّيّبات. فقد فسّرت بالأقوال، ولعلَّ تفسيرها بما هو أعمّ أولى فتشمل الأفعال والأقوال والأوصاف، وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشّوائب. انتهى

قوله: (السّلام عليك أيّها النّبيّ) قال النّوويّ: يجوز فيه وفيما بعده ، أي: السّلام ، حذف اللام وإثباتها ، والإثبات أفضل. وهو الموجود في روايات الصّحيحين.

قلت: لَم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنّما اختلف ذلك في حديث ابن عبّاسٍ. وهو من أفراد مسلم.

قال الطّيبيّ (2): أصل " سلام عليك " سلمت سلاماً عليك، ثمّ حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النّصب إلى الرّفع على الابتداء للدّلالة على ثبوت المعنى واستقراره، ثمّ التّعريف إمّا للعهد

(1) هو محمد بن علي ، سبق ترجمته (1/ 12)

(2)

هو الحسن بن محمد ، سبق ترجمته (1/ 23)

ص: 9

التّقديريّ، أي: ذلك السّلام الذي وجّه إلى الرّسل والأنبياء عليك أيّها النّبيّ، وكذلك السّلام الذي وجّه إلى الأمم السّالفة علينا وعلى إخواننا، وإمّا للجنس ، والمعنى: أنّ حقيقة السّلام الذي يعرفه كلّ واحد وعمّن يصدر وعلى من ينزل عليك وعلينا، ويجوز أن يكون للعهد الخارجيّ إشارة إلى قوله تعالى (وسلام على عباده الذين اصطفى). قال: ولا شكّ أنّ هذه التّقادير أولى من تقدير النّكرة. انتهى.

وحكى صاحب الإقليد عن أبي حامد: أنّ التّنكير فيه للتّعظيم، وهو وجه من وجوه التّرجيح لا يقصر عن الوجوه المتقدّمة.

وقال البيضاويّ: علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذّكر لشرفه ومزيد حقّه عليهم، ثمّ علمهم أن يخصّصوا أنفسهم أوّلاً ، لأنّ الاهتمام بها أهمّ، ثمّ أمرهم بتعميم السّلام على الصّالحين إعلاماً منه بأنّ الدّعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم.

وقال التّوربشتيّ: السّلام بمعنى السّلامة كالمقام والمقامة، والسّلام من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى أنّه سالم من كلّ عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى قولنا السّلام عليك الدّعاء. أي: سلمت من المكاره، وقيل: معناه اسم السّلام عليك ، كأنّه تبرّك عليه باسم الله تعالى.

فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ ، وهو خطاب بشر مع كونه منهيّاً عنه في الصّلاة؟. فالجواب أنّ ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

ص: 10

فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب ، في قوله " عليك أيّها النّبيّ " مع أنّ لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السّياق ، كأن يقول السّلام على النّبيّ ، فينتقل من تحيّة الله إلى تحيّة النّبيّ ثمّ إلى تحيّة النّفس ثمّ إلى الصّالحين.

أجاب الطّيبيّ بما محصّله: نحن نتّبع لفظ الرّسول بعينه الذي كان علمه الصّحابة. ويحتمل: أن يقال على طريق أهل العرفان: إنّ المُصلِّين لَمّا استفتحوا باب الملكوت بالتّحيّات أذن لهم بالدّخول في حريم الحيّ الذي لا يموت فقرّت أعينهم بالمناجاة ، فنبّهوا على أنّ ذلك بواسطة نبيّ الرّحمة وبركة متابعته ، فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر ، فأقبلوا عليه قائلين: السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته. انتهى

وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ، ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب، وأمّا بعده فيقال بلفظ الغيبة، وهو ممّا يخدش في وجه الاحتمال المذكور، ففي صحيح البخاريّ من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التّشهّد قال: وهو بين ظهرانينا، فلمّا قبض قلنا: السّلام. يعني على النّبيّ.

كذا وقع في البخاريّ، وأخرجه أبو عوانة في " صحيحه " والسّرّاج والجوزقيّ وأبو نعيمٍ الأصبهانيّ والبيهقيّ من طرق متعدّدة إلى أبي نعيمٍ - شيخ البخاريّ فيه - بلفظ " فلمّا قبض قلنا: السّلام على النّبيّ " بحذف لفظ " يعني "، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن

ص: 11

أبي نعيمٍ.

قال السّبكيّ في " شرح المنهاج " بعد أن ذكر هذه الرّواية من عند أبي عوانة وحده: إن صحّ هذا عن الصّحابة دلَّ على أنّ الخطاب في السّلام بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم غير واجب ، فيقال: السّلام على النّبيّ.

قلت: قد صحّ بلا ريب ، وقد وجدت له متابعاً قويّاً. قال عبد الرّزّاق: أخبرنا ابن جريجٍ أخبرني عطاء ، أنّ الصّحابة كانوا يقولون والنّبيّ صلى الله عليه وسلم حيّ: السّلام عليك أيّها النّبيّ، فلمّا مات قالوا: السّلام على النّبيّ. وهذا إسناد صحيح.

وأمّا ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علَّمهم التّشهّد. فذكره. قال: فقال ابن عبّاسٍ: إنّما كنّا نقول السّلام عليك أيّها النّبيّ إذ كان حيّاً، فقال ابن مسعود: هكذا علّمنا وهكذا نُعلِّم. فظاهر أنّ ابن عبّاسٍ قاله بحثاً ، وأنّ ابن مسعود لَم يرجع إليه، لكنّ رواية أبي معمر أصحّ ، لأنّ أبا عبيدة لَم يسمع من أبيه ، والإسناد إليه مع ذلك ضعيف.

فإن قيل ، لِمَ عدل عن الوصف بالرّسالة إلى الوصف بالنّبوّة مع أنّ الوصف بالرّسالة أعمّ في حقّ البشر؟.

أجاب بعضهم: بأنّ الحكمة في ذلك أن يجمع له الوصفين لكونه وصفه بالرّسالة في آخر التّشهّد ، وإن كان الرّسول البشريّ يستلزم النّبوّة، لكنّ التّصريح بهما أبلغ.

قيل: والحكمة في تقديم الوصف بالنّبوّة ، أنّها كذا وجدت في

ص: 12

الخارج لنزول قوله تعالى (اقرأ باسم ربّك) قبل قوله (يا أيّها المدّثّر قم فأنذر) والله أعلم.

قوله: (ورحمة الله) أي: إحسانه.

قوله: (وبركاته) أي: زيادته من كلّ خير.

قوله: (السّلام علينا) استدل به على استحباب البداءة بالنّفس في الدّعاء ، وفي التّرمذيّ مصحَّحاً من حديث أبيّ بن كعب ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحداً فدعا له ، بدأ بنفسه. وأصله في مسلم، ومنه قول نوح وإبراهيم عليهما السلام كما في التّنزيل. (1)

قوله: (عباد الله الصّالحين) الأشهر في تفسير الصّالح ، أنّه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده وتتفاوت درجاته.

قال التّرمذيّ الحكيم: من أراد أن يحظى بهذا السّلام الذي يسلّمه الخلق في الصّلاة ، فليكن عبداً صالحاً ، وإلا حرم هذا الفضل العظيم.

وقال الفاكهانيّ: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحلّ جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين، يعني: ليتوافق لفظه مع قصده.

وقد اختلف في معنى السّلام:

فنقل عياض (2). أنّ معناه اسم الله ، أي: كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال: الله معك ومصاحبك.

(1) في قوله عن نوح عليه السلام (رَبِّ اغفِر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيتِيَ مُؤمِنًا وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ) سورة نوح آية 28. وقوله عن إبراهيم (رَبَّنَا اغفِر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلمُؤمِنِينَ يَومَ يَقُومُ الحِسَابُ).سورة إبراهيم آية 41

(2)

هو القاضي عياض بن موسى ، سبق ترجمته (1/ 103)

ص: 13

وقيل: معناه إنّ الله مطّلع عليك فيما تفعل.

وقيل: معناه إنّ اسم الله يذكر على الأعمال توقّعاً لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها.

وقيل: معناه السّلامة كما قال تعالى: (فسلام لك من أصحاب اليمين) وكما قال الشّاعر:

تحيّي بالسّلامة أمّ عمرو

وهل لي بعد قومي من سلام.

فكأنّ المسلِّم أعلم من سلم عليه أنّه سالم منه ، وأن لا خوف عليه منه.

وقال ابن دقيق العيد في " شرح الإلمام ": السّلام يطلق بإزاء معانٍ، منها السّلامة، ومنها التّحيّة، ومنها أنّه اسم من أسماء الله.

قال: وقد يأتي بمعنى التّحيّة محضاً. وقد يأتي بمعنى السّلامة محضاً، وقد يأتي متردّداً بين المعنيين كقوله تعالى (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً) فإنّه يحتمل التّحيّة والسّلامة، وقوله تعالى (ولهم ما يدّعون سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيمٍ).

قوله: (أشهد أن لا إله إلَاّ الله) زاد ابن أبي شيبة من رواية أبي عبيدة عن أبيه " وحده لا شريك له " وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزّيادة في حديث أبي موسى عند مسلم ، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطّأ. وفي حديث ابن عمر عند الدّارقطنيّ، إلَاّ أنّ سنده ضعيف.

وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح عن ابن عمر في التّشهّد:

ص: 14

أشهد أن لا إله إلَاّ الله. قال ابن عمر: زدتُ فيها وحده لا شريك له. وهذا ظاهره الوقف.

قوله: (وأشهد أنّ محمّداً عبدُه ورسُوله) لَم تختلف الطّرق عن ابن مسعود في ذلك، وكذا هو في حديث أبي موسى وابن عمر وعائشة المذكور وجابر وابن الزّبير عند الطّحاويّ وغيره.

وروى عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن عطاء قال: بينا النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّم التّشهّد إذ قال رجل: وأشهد أنّ محمّداً رسوله وعبده، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد كنتُ عبداً قبل أن أكون رسولاً. قل: عبده ورسوله. ورجاله ثقات إلَاّ أنّه مرسل.

وفي حديث ابن عبّاسٍ عند مسلم وأصحاب السّنن " وأشهد أنّ محمّداً رسول الله " ومنهم من حذف " وأشهد " ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود.

قال التّرمذيّ: حديث ابن مسعود روي عنه من غير وجه، وهو أصحُّ حديثٍ روي في التّشهّد ، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصّحابة ومن بعدهم. قال: وذهب الشّافعيّ إلى حديث ابن عبّاسٍ في التّشهّد.

وقال البزّار لَمّا سئل عن أصحِّ حديث في التّشهّد ، قال: هو عندي حديث ابن مسعود، وروي من نيّف وعشرين طريقاً، ثمّ سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التّشهّد أثبت منه ، ولا أصحّ أسانيد ولا أشهر رجالاً. انتهى.

ص: 15

ولا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممّن جزم بذلك البغويّ في شرح السّنّة، ومن رجحانه.

أولاً: أنّه متّفق عليه دون غيره، وأنّ الرّواة عنه من الثّقات لَم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره.

ثانياً: وأنّه تلقّاه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم تلقيناً ، فروى الطّحاويّ من طريق الأسود بن يزيد عنه قال: أخذت التّشهّد من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقّننيه كلمةً كلمةً.

ولابن أبي شيبة وغيره من رواية جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التّشهّد كما يعلّمنا السّورة من القرآن.

وقد وافقه على هذا اللفظ أبو سعيد الخدريّ ، وساقه بلفظ ابن مسعود. أخرجه الطّحاويّ، لكن هذا الأخير ثبت مثله في حديث ابن عبّاسٍ عند مسلم.

ثالثاً: ورجَحَ أيضاً بثبوت الواو في الصّلوات والطّيّبات، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فتكون كلّ جملة ثناء مستقلاً، بخلاف ما إذا حذفت فإنّها تكون صفة لِمَا قبلها، وتعدّد الثّناء في الأوّل صريح فيكون أولى، ولو قيل: إنّ الواو مقدّرة في الثّاني.

رابعاً: ورجَحَ بأنّه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره ، فإنّه مجرّد حكاية.

ص: 16

ولأحمد من حديث ابن مسعود ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمه التّشهّد ، وأمره أن يُعلمه النّاس. ولَم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيّته.

وقال الشّافعيّ بعد أن أخرج حديث ابن عبّاسٍ: رُويت أحاديث في التّشهّد مختلفة، وكان هذا أحبّ إليّ لأنّه أكملها.

وقال في موضع آخر، وقد سئل عن اختياره تشهّد ابن عبّاسٍ: لَمّا رأيته واسعاً ، وسمعته عن ابن عبّاسٍ صحيحاً ، كان عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره، وأخذت به غير معنّف لمن يأخذ بغيره ممّا صحّ.

ورجّحه بعضهم: بكونه مناسباً للفظ القرآن في قوله تعالى (تحيّةً من عند الله مباركةً طيّبةً)

وأمّا من رجّحه بكون ابن عبّاسٍ من أحداث الصّحابة فيكون أضبط لِمَا روى، أو بأنّه أفقه من رواه، أو بكون إسناد حديثه حجازيّاً وإسناد ابن مسعود كوفيّاً ، وهو ممّا يرجّح به ، فلا طائل فيه لمن أنصف.

نعم. يمكن أن يقال: إنّ الزّيادة التي في حديث ابن عبّاسٍ. وهي " المباركات " لا تنافي رواية ابن مسعود، ورجح الأخذ بها. لكون أخذه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في الأخير.

وقد اختار مالك وأصحابه تشهّدَ عمر ، لكونه علَّمه للنّاس وهو على المنبر ، ولَم ينكروه فيكون إجماعاً، ولفظه نحو حديث ابن عبّاسٍ إلَاّ أنّه قال " الزّاكيات " بدل المباركات. وكأنّه بالمعنى.

لكن أورد على الشّافعيّ زيادة " بسم الله " في أوّل التّشهّد، ووقع

ص: 17

في رواية عمر المذكورة ، لكن من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، لا من طريق الزّهريّ عن عروة التي أخرجها مالك ، أخرجه عبد الرّزّاق وسعيد بن منصور وغيرهما ، وصحّحه الحاكم مع كونه موقوفاً.

وثبت في الموطّأ أيضاً عن ابن عمر موقوفاً ، ووقع أيضاً في حديث جابر المرفوع. تفرّد به أيمن بن نابل - بالنّون ثمّ الموحّدة - عن أبي الزّبير عنه، وحكم الحفّاظ - البخاريّ وغيره - على أنّه أخطأ في إسناده ، وأنّ الصّواب رواية أبي الزّبير عن طاوسٍ وغيره عن ابن عبّاسٍ.

وفي الجملة. لَم تصحّ هذه الزّيادة. وقد ترجم البيهقيّ عليها " من استحبّ أو أباح التّسمية قبل التّحيّة " ، وهو وجه لبعض الشّافعيّة ، وضُعّف.

ويدلّ على عدم اعتبارها ، أنّه ثبت في حديث أبي موسى المرفوع في التّشهّد وغيره " فإذا قعد أحدكم ، فليكن أوّل قوله التّحيّات لله " الحديث. كذا رواه عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة بسنده، وأخرج مسلم من طريق عبد الرّزّاق هذه، وقد أنكر ابن مسعود وابن عبّاسٍ وغيرهما على من زادها. أخرجه البيهقيّ وغيره.

ثمّ إنّ هذا الاختلاف إنّما هو في الأفضل ، وكلام الشّافعيّ المتقدّم يدلّ على ذلك ، ونقل جماعة من العلماء الاتّفاق على جواز التّشهّد بكل ما ثبت، لكنّ كلام الطّحاويّ يشعر بأنّ بعض العلماء يقول

ص: 18

بوجوب التّشهّد المرويّ عن عمر.

وذهب جماعة من محدّثي الشّافعيّة كابن المنذر إلى اختيار تشهّد ابن مسعود.

وذهب بعضهم. كابن خزيمة إلى عدم التّرجيح.

وسيأتي الكلام عن المالكيّة ، أنّ التّشهّد مطلقاً غير واجب. والمعروف عند الحنفيّة ، أنّه واجب لا فرض، بخلاف ما يوجد عنهم في كتب مخالفيهم.

وقال الشّافعيّ: هو فرض، لكن قال: لو لَم يزد رجل على قوله " التّحيّات لله سلام عليك أيّها النّبيّ إلخ " كرهت ذلك له ، ولَم أر عليه إعادة، هذا لفظه في الأمّ.

وقال صاحب الرّوضة تبعاً لأصله: وأمّا أقلّ التّشهّد ، فنصّ الشّافعيّ وأكثر الأصحاب إلى أنّه. فذكره، لكنّه قال " وأنّ محمّداً رسول الله ".

قال: ونقله ابنُ كجّ والصّيدلانيّ فقالا " وأشهد أنّ محمّداً رسول الله " لكن أسقطا " وبركاته ". انتهى

وقد استشكل جواز حذف " الصّلوات " مع ثبوتها في جميع الرّوايات الصّحيحة ، وكذلك " الطّيّبات " مع جزْم جماعةٍ من الشّافعيّة بأنّ المقتصر عليه هو الثّابت في جميع الرّوايات.

ومنهم: من وجّه الحذف بكونهما صفتين كما هو الظّاهر من سياق ابن عبّاسٍ، لكن يعكّر على هذا ما تقدّم من البحث في ثبوت العطف

ص: 19

فيهما في سياق غيره ، وهو يقتضي المغايرة.

قوله: (إذا قعد أحدكم في الصّلاة ، فليقل) في رواية لهما " فإذا صلَّى أحدكم فليقل "، وللنّسائيّ من طريق أبي الأحوص عن عبد الله: كنّا لا ندري ما نقول في كلّ ركعتين، وإنّ محمّداً علم فواتح الخير وخواتمه ، فقال: إذا قعدتم في كلّ ركعتين فقولوا. وله من طريق الأسود عن عبد الله. فقولوا: في كلّ جلسة.

ولابن خزيمة من وجه آخر عن الأسود عن عبد الله: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التّشهّد في وسط الصّلاة وفي آخرها ، وزاد الطّحاويّ من هذا الوجه في أوّله " وأخذت التّشهّد من في رسولِّ الله صلى الله عليه وسلم ولقّننيه كلمة كلمة ".

وللشيخين عن أبي معمر عن ابن مسعود: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التّشهّد ، وكفّي بين كفّيه كما يعلمني السّورة من القرآن.

واستدل بقوله " فليقل " على الوجوب خلافاً لمن لَم يقل به كمالكٍ.

وأجاب بعض المالكيّة: بأنّ التّسبيح في الرّكوع والسّجود مندوب، وقد وقع الأمر به في قوله صلى الله عليه وسلم لَمّا نزلت (فسبّح باسم ربّك العظيم)" اجعلوها في ركوعكم .. الحديث "(1) ، فكذلك التّشهّد.

(1) أخرجه الإمام أحمد (4/ 155) وأبو داود (869) وابن ماجه (887) والطحاوي في " شرح المعاني "(1/ 138) والحاكم (1/ 225 ، 2/ 477) والبيهقي (2/ 86) وابن حبان (1898) من طريق موسى بن أيوب الغافقي، قال: سمعت عمي إياس بن عامر يقول: سمعت عقبة بن عامر الجهني، يقول: لَمَّا نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74]، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم ، فلمَّا نزلت:{سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم.

وزاد أبو داود من وجه آخر عن موسى: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع ، قال: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثاً، وإذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثاً.

قال أبو داود: وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة.

قلتُ: ومدار الحديث على إياس. وقد وثَّقه ابن حبان ، وقال العجلي: لابأس به. وصحَّح ابن خزيمة والحاكم حديثه هذا. وذكره ابن أبي حاتم ولَم يذكر فيه شيئاً ، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق. وقال الذهبي: ليس بالمعروف.

ص: 20

وأجاب الكرمانيّ (1): بأنّ الأمر حقيقته الوجوب ، فيحمل عليه إلَاّ إذا دلَّ دليل على خلافه، ولولا الإجماع على عدم وجوب التّسبيح في الرّكوع والسّجود لحملناه على الوجوب. انتهى.

وفي دعوى هذا الإجماع نظرٌ، فإنّ أحمد يقول بوجوبه ، ويقول بوجوب التّشهّد الأوّل أيضاً، ورواية أبي الأحوص المتقدّمة وغيرها تقوّيه، وقد قدّمنا ما فيه قبل.

وقد جاء عن ابن مسعود التّصريح بفرضيّة التّشهّد، وذلك فيما رواه الدّارقطنيّ وغيره بإسنادٍ صحيح من طريق علقمة عن ابن مسعود: كنّا لا ندري ما نقول قبل أن يفرض علينا التّشهّد.

تكميل: زاد البخاري في أوله من رواية أبي نعيم عن الأعمش: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام على جبريل ومكائيل السلام على فلان وفلان. فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل. الحديث.

(1) هو محمد بن يوسف ، سبق ترجمته (1/ 18)

ص: 21

وللبخاري عن مسدد عن يحيى: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. ولأبي داود عن مسدد - شيخ البخاري فيه - " إذا جلسنا " ، ومثله للإسماعيلي من رواية محمد بن خلاد عن يحيى، وله من رواية علي بن مسهر، وإسحاق في " مسنده " عن عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش نحوه.

قوله: (قلنا السلام على جبريل) وقع في هذه الرواية اختصار ثبت في رواية يحيى المذكورة وهو " قلنا السلام على الله من عباده " كذا وقع للبخاري فيها، وأخرجه أبو داود عن مسدد - شيخ البخاري فيه - فقال " قبل عباده ". وكذا للبخاري في " الاستئذان " من طريق حفص بن غياث عن الأعمش. وهو المشهور في أكثر الروايات.

وبهذه الزيادة يتبين موقع قوله صلى الله عليه وسلم " إنَّ الله هو السلام " ولفظه في رواية يحيى المذكورة " لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام ".

قوله: (السلام على فلان وفلان) في رواية عبد الله بن نمير عن الأعمش عند ابن ماجه " يعنون الملائكة ". وللإسماعيلي من رواية علي بن مسهر " فنعدّ الملائكة ". ومثله للسراج من رواية محمد بن فضيل عن الأعمش بلفظ " فنعدُّ من الملائكة ما شاء الله ".

قوله: (فالتفتُّ) ظاهره أنه كلَّمهم بذلك في أثناء الصلاة، ونحوه في رواية حصين عن أبي وائل - وهو شقيق - عند البخاري، في أواخر الصلاة بلفظ " فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قولوا " لكن بين

ص: 22

حفص بن غياث في روايته المذكورة المحلَّ الذي خاطبهم بذلك فيه ، وأنه بعد الفراغ من الصلاة. ولفظه " فلمَّا انصرفَ النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه " وفي رواية عيسى بن يونس أيضاً " فلما انصرف من الصلاة قال ".

قوله: (إنَّ الله هو السلام) قال البيضاوي ما حاصله: أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التسليم على الله ، وبيَّن أنَّ ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإنَّ كلَّ سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها.

وقال التوربشتي: وجه النهي عن السلام على الله لأنَّه المرجوع إليه بالمسائل المتعالي عن المعاني المذكورة. فكيف يدعى له وهو المدعو على الحالات؟.

وقال الخطابي: المراد أنَّ الله هو ذو السلام فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه بدأ وإليه يعود، ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب. ويحتمل أن يكون مرجعها إلى حظ العبد فيما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك.

وقال النووي: معناه أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، يعني السالم من النقائص، ويقال: المسلم أولياءه ، وقيل المسلم عليهم، قال ابن الأنباري: أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وغناه سبحانه وتعالى عنها.

قوله: (فإنكم إذا فعلتم ذلك) في رواية لهما " فإنّكم إذا قلتموها "، أي: وعلى عباد الله الصّالحين ، وهو كلام معترض بين قوله

ص: 23

الصّالحين ، وبين قوله أشهد .. إلخ.

وإنّما قُدّمت للاهتمام بها لكونه أنكر عليهم عدّ الملائكة واحداً واحداً ، ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك، فعلَّمهم لفظاً يشمل الجميع مع غير الملائكة من النّبيّين والمرسلين والصّدّيقين وغيرهم بغير مشقّة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم.

وإلى ذلك الإشارة بقول ابن مسعود: وأنّ محمّداً علم فواتح الخير وخواتمه. كما تقدّم ، وقد ورد في بعض طرقه سياق التّشهّد متوالياً وتأخير الكلام المذكور بعد، وهو من تصرّف الرّواة.

قوله: (كلّ عبدٍ لله صالح) استدل به على أنّ الْجمعَ المضاف ، والْجمعَ الْمُحلَّى بالألف واللام يعمّ، لقوله أوّلاً عباد الله الصّالحين ، ثمّ قال: أصابت كلّ عبد صالح.

وقال القرطبيّ: فيه دليل على أنّ جمع التّكسير للعموم، وفي هذه العبارة نظر.

واستدل به على أنّ للعموم صيغة.

قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب وتصرّفات ألفاظ الكتاب والسّنّة، قال: والاستدلال بهذا فرد من أفراد لا تحصى، لا للاقتصار عليه.

قوله: (في السّماء والأرض) وللبخاري عن مسدّد عن يحيى عن الأعمش " أو بين السّماء والأرض " ، والشّكّ فيه من مسدّد، وإلَاّ فقد رواه غيره عن يحيى بلفظ " من أهل السّماء والأرض " وأخرجه

ص: 24

الإسماعيليّ وغيره.

قوله: (فليتخيّر من المسألة ما شاء) وللبخاري " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء أعجبه إليه فيدعو " ، زاد أبو داود عن مسدّد - شيخ البخاريّ فيه - " فيدعو به " ، ونحوه النّسائيّ من وجه آخر بلفظ " فليدع به ".

ولإسحاق عن عيسى عن الأعمش " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء ما أحبّ " ، وفي رواية منصور عن أبي وائل عند البخاري " ثمّ ليتخيّر من الثّناء ما شاء " ، ونحوه لمسلمٍ بلفظ " من المسألة "

واستدل به على جواز الدّعاء في الصّلاة بما اختار المُصلِّي من أمر الدّنيا والآخرة.

قال ابن بطّال: خالف في ذلك النّخعيّ وطاوسٌ وأبو حنيفة ، فقالوا: لا يدعو في الصّلاة إلَاّ بما يوجد في القرآن.

كذا أطلق هو ومن تبعه عن أبي حنيفة، والمعروف في كتب الحنفيّة ، أنّه لا يدعو في الصّلاة إلَاّ بما جاء في القرآن أو ثبت في الحديث، وعبارة بعضهم: ما كان مأثوراً. قال قائلهم: والمأثور أعمّ من أن يكون مرفوعاً أو غير مرفوع.

لكنّ ظاهر حديث الباب يردّ عليهم، وكُلاًّ يردّ على قول ابن سيرين: لا يدعو في الصّلاة إلَاّ بأمر الآخرة.

واستثنى بعض الشّافعيّة: ما يقبح في أمر الدّنيا، فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل، وإلَاّ فلا شكّ أنّ الدّعاء بالأمور المحرّمة مطلقاً

ص: 25

لا يجوز.

وقد ورد فيما يقال بعد التّشهّد أخبار من أحسنها.

ما رواه سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمير بن سعد قال: كان عبد الله - يعني ابن مسعود - يعلمنا التّشهّد في الصّلاة ثمّ يقول: إذا فرغ أحدكم من التّشهّد ، فليقل: اللهمّ إنّي أسألك من الخير كلّه ما علمت منه وما لَم أعلم، وأعوذ بك من الشّرّ كلّه ما علمت منه وما لَم أعلم. اللهمّ إنّي أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصّالحون، وأعوذ بك من شرّ ما استعاذك منه عبادك الصّالحون. ربّنا آتنا في الدّنيا حسنةً الآية. قال: ويقول: لَم يدع نبيّ ولا صالح بشيءٍ إلَاّ دخل في هذا الدّعاء.

وهذا من المأثور غير مرفوع، وليس هو ممّا ورد في القرآن.

وقد استدلَّ البيهقيّ بالحديث المتّفق عليه " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء أعجبه إليه فيدعو به "، وبحديث أبي هريرة رفعه: إذا فرغ أحدكم من التّشهّد فليتعوّذ بالله الحديث. وفي آخره: ثمّ يدعو لنفسه بما بدا له. هكذا أخرجه البيهقيّ.

وأصل الحديث في مسلم، وهذه الزّيادة صحيحة ، لأنّها من الطّريق التي أخرجها مسلم.

قال ابن رشيد: ليس التّخيير في آحاد الشّيء بدالٍّ على عدم وجوبه، فقد يكون أصل الشّيء واجباً ، ويقع التّخيير في وصفه.

وقال الزين بن المنير: قوله " ثمّ ليتخيّر " وإن كان بصيغة الأمر

ص: 26

لكنّها كثيراً ما ترد للنّدب.

وادّعى بعضهم الإجماع على عدم الوجوب.

وفيه نظرٌ، فقد أخرج عبد الرّزّاق بإسنادٍ صحيح عن طاوسٍ ما يدلّ على أنّه يرى وجوب الاستعاذة المأمور بها في حديث أبي هريرة المذكور في الباب (1)، وذلك أنّه سأل ابنه: هل قالها بعد التّشهّد؟ فقال: لا، فأمره أن يعيد الصّلاة. وبه قال بعض أهل الظّاهر.

وأفرط ابن حزم فقال بوجوبها في التّشهّد الأوّل أيضاً.

وقال ابن المنذر: لولا حديث ابن مسعود " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء " لقلت بوجوبها، وقد قال الشّافعيّ أيضاً بوجوب الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد.

وادّعى أبو الطّيّب الطّبريّ من أتباعه والطّحاويّ وآخرون ، أنّه لَم يُسبق إلى ذلك، واستدلّوا على ندبيّتها بحديث الباب مع دعوى الإجماع.

وفيه نظرٌ ، لأنّه ورد عن أبي جعفر الباقر والشّعبيّ وغيرهما ما يدلّ على القول بالوجوب.

وأعجب من ذلك ، أنّه صحّ عن ابن مسعود - راوي حديث الباب - ما يقتضيه، فعند سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح إلى أبي الأحوص قال: قال عبد الله: يتشهّد الرّجل في الصّلاة ، ثمّ يُصلِّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثمّ يدعو لنفسه بعد.

(1) أي: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي إن شاء الله بعد حديث.

ص: 27

وقد وافق الشّافعيَّ أحمدُ في إحدى الرّوايتين عنه. وبعضُ أصحاب مالك.

وقال إسحاق بن راهويه أيضاً بالوجوب ، لكن قال: إن تركها ناسياً رجوت أن يجزئه، فقيل: إنّ له في المسألة قولين كأحمد، وقيل: بل كان يراها واجبة لا شرطاً.

ومنهم من قيّد تفرّد الشّافعيّ بكونه عيّنها بعد التّشهّد لا قبله ولا فيه ، حتّى لو صلَّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أثناء التّشهّد مثلاً لَم يجزئ عنده.

فائدةٌ: قال القفّال في فتاويه: ترك الصّلاة يضرّ بجميع المسلمين ، لأنّ المُصلِّي يقول: اللهمّ اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بدّ أن يقول في التّشهّد " السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين " فيكون مقصّراً بخدمة الله وفي حقّ رسوله وفي حقّ نفسه وفي حقّ كافّة المسلمين، ولذلك عظمت المعصية بتركها.

واستنبط منه السّبكيّ: أنّ في الصّلاة حقّاً للعباد مع حقّ الله، وأنّ من تركها أخلَّ بحقّ جميع المؤمنين من مضى ، ومن يجيء إلى يوم القيامة لوجوب قوله فيها " السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين ".

ص: 28