الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الجمع بين الصلاتين في السفر
الحديث السابع والثمانون
136 -
عن عبد الله بن عبّاسٍ رضي الله عنه ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع في السّفر بين صلاة الظّهر والعصر ، إذا كان على ظهر سيرٍ ، ويَجمع بين المغرب والعشاء (1)
قوله: (يجمع في السّفر بين صلاة الظّهر والعصر) أورد البخاري ثلاثة أحاديث. حديثَ ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير. وهو مقيّد بما إذا جدّ السّير.
(1) قال الحافظ ابن الملقّن رحمه الله في " الإعلام بفوائد عمدة الأحكام "(4/ 71): هذا اللفظ المذكور هو لفظ البخاري دون مسلم كما نبّه عليه الشيخ تقي الدين ، وأطلق المصنّف إخراجه عنهما نظراً لأصل الحديث على عادة المحدثين ، فإنَّ مسلماً أخرجه بألفاظ نحو رواية البخاري ، فإذا أرادوا التحقيق فيه قالوا: أخرجاه بلفظه إن كان ، أو بمعناه إن كان. انتهى.
قلت: ولَم يخرجه البخاري موصولاً. وإنما معلّقاً برقم (1056) فقال: وقال إبراهيم بن طهمان عن الحسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لحديث.
قال ابن حجر في " الفتح "(2/ 749): وصله البيهقي من طريق محمد بن عبدوس عن أحمد بن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم المذكور. بسنده المذكور. انتهى
ولمسلم (705) من طريق أبي الزبير حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة في سفرةٍ سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء ، قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حَمَلَه على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرِّج أمته.
وحديثَ الباب. وهو مقيّد بما إذا كان سائراً.
وحديثَ أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر. وهو مطلق.
واستعمل البخاري الترجمة (1) مطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق ، لأنَّ المقيدَ فردٌ من أفراده، وكأنّه رأى جواز الجمع بالسّفر. سواء كان سائراً أم لا، وسواء كان سيره مُجدّاً أم لا.
وهذا ممّا وقع فيه الاختلاف بين أهل العلم.
القول الأول: قال بالإطلاق كثيرٌ من الصّحابة والتّابعين ، ومن الفقهاء الثّوريّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وأشهب.
القول الثاني: قال قوم: لا يجوز الجمع مطلقاً إلَاّ بعرفة ومزدلفة ، وهو قول الحسن والنّخعيّ وأبي حنيفة وصاحبيه، ووقع عند النّوويّ أنّ الصّاحبين خالفا شيخهما ، وردّ عليه السّروجيّ في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه.
وأجابوا عمّا ورد من الأخبار في ذلك: بأنّ الذي وقع جمع صوريّ، وهو أنّه أخّر المغرب مثلاً إلى آخر وقتها وعجّل العشاء في أوّل وقتها.
وتعقّبه الخطّابيّ وغيره: بأنّ الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأنّ أوائل الأوقات وأواخرها ممّا لا يدركه أكثر الخاصّة فضلاً عن العامّة.
(1) قال (باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء)
ومن الدّليل على أنّ الجمع رخصةٌ ، قول ابن عبّاس: أراد أن لا يحرج أمّته. أخرجه مسلم.
وأيضاً فإنّ الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصّلاتين ، وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع كما في حديث ابن عمر في البخاري: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر، يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء ، قال سالم: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعله إذا أعجله السير ، ويقيم المغرب، فيُصلِّيها ثلاثاً، ثم يسلّم، ثم قلَّما يلبث حتى يقيم العشاء، فيُصلِّيها ركعتين، ثم يسلم.
لَم يعيّن غاية التّأخير. وبيّنه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنّه بعد أن يغيب الشّفق، وفي رواية عبد الرّزّاق عن معمر عن أيّوب وموسى بن عقبة عن نافع: فأخّر المغرب بعد ذهاب الشّفق حتّى ذهب هوى من الليل.
وللبخاري من طريق أسلم مولى عمر عن ابن عمر في هذه القصّة: حتّى كان بعد غروب الشّفق نزل فصلَّى المغرب والعشاء جمعاً بينهما ، ولأبي داود من طريق ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصّة: فسار حتّى غاب الشّفق وتصوّبت النّجوم نزل فصلَّى الصّلاتين جمعاً.
وجاءت عن ابن عمر روايات أخرى ، أنّه صلَّى المغرب في آخر الشّفق، ثمّ أقام الصّلاة وقد توارى الشّفق، فصلَّى العشاء. أخرجه
أبو داود من طريق عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر عن نافع.
ولا تعارض بينه وبين ما سبق ، لأنّه كان في واقعة أخرى.
وممّا يردّ الحمل على الجمع الصّوريّ. جمع التّقديم ، فروى البخاري ومسلم عن قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلَّى الظهر ثم ركب.
كذا فيه الظهر فقط، وهو المحفوظ عن عقيل في الكتب المشهورة، ومقتضاه أنه كان لا يجمع بين الصلاتين إلَاّ في وقت الثانية منهما.
وبه احتج من أَبَى جمعَ التقديم (1).
ولكن روى إسحاق بن راهويه هذا الحديث عن شبابة فقال: كان إذا كان في سفر فزالت الشمس. صلَّى الظهر والعصر جميعاً ، ثم ارتحل. أخرجه الإسماعيلي.
وأُعلَّ بتفرد إسحاق بذلك عن شبابة ، ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق. وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان.
وقد وقع نظيره في " الأربعين " للحاكم قال: حدثنا محمد بن يعقوب هو الأصم حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني - هو أحد شيوخ مسلم - قال: حدثنا محمد بن عبد الله الواسطي. فذكر الحديث. وفيه: فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلَّى الظهر والعصر ثم ركب.
(1) وهو القول السادس الآتي ذكره.
قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هكذا وجدته بعد التتبع في نسخ كثيرة من الأربعين بزيادة العصر، وسند هذه الزيادة جيد. انتهى.
قلت: وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه - إن كانت ثابتة - لكن في ثبوتها نظرٌ، لأنَّ البيهقي أخرج هذا الحديث عن الحاكم بهذا الإسناد مقروناً برواية أبي داود عن قتيبة. وقال: إن لفظهما سواء، إلَاّ أن في رواية قتيبة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية حسان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمشهور في جمع التقديم. ما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل (1). وقد أعلَّه جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث، وأشار البخاري إلى أنَّ بعض الضعفاء أدخله على قتيبة، حكاه الحاكم في " علوم الحديث ".
وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل. أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل، وهشام مختلف فيه.
(1) ولفظه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك، إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخَّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجَّل العصر إلى الظهر ، وصلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخَّر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجَّل العشاء فصلَاّها مع المغرب. قال الترمذي: غريب. وقال أبو داود: ولَم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده.
انظر التلخيص الحبير (2/ 122)
وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم. فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم (1).
وورد في جمع التقديم حديث آخر عن ابن عباس. أخرجه أحمد ، وذكره أبو داود تعليقاً. والترمذي في بعض الروايات عنه. وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي. وهو ضعيف.
لكن له شواهد من طريق حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس. لا أعلمه إلَاّ مرفوعاً: أنه كان إذا نزل منزلاً في السفر فأعجبه أقام فيه ، حتى يجمع بين الظهر والعصر ثم يرتحل، فإذا لَم يتهيأ له المنزل مدَّ في السير فسار حتى ينزل فيجمع بين الظهر والعصر.
أخرجه البيهقي ورجاله ثقات، إلَاّ أنه مشكوك في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوماً بوقفه على ابن عباس. ولفظه: إذا كنتم سائرين. فذكر نحوه.
القول الثالث: يختصّ الجمع بمن يجدّ في السّير. قاله الليث، وهو القول المشهور عن مالك.
القول الرابع: يختصّ بالمسافر دون النّازل ، وهو قول ابن حبيب.
القول الخامس: يختصّ بمن له عذر. حكي عن الأوزاعيّ.
القول السادس: يجوز جمع التّأخير دون التّقديم ، وهو مرويّ عن
(1) أخرجه مسلم في الصحيح (706) من طريق مالك وزهير وقرّة بن خالد عن أبي الزبير به. بلفظ: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً. ورواه غيرهم عن أبي الزبير بهذا اللفظ المختصر. كما ذكر الشارح. تركتُ ذكرها اختصاراً.
مالك وأحمد واختاره ابن حزم.
قوله: (على ظهر سير) كذا للأكثر بالإضافة، وفي رواية الكشميهنيّ " على ظهرٍ - بالتّنوين - يسير " بلفظ المضارع بتحتانيّةٍ مفتوحة في أوّله.
قال الطّيبيّ: الظّهر في قوله " ظهر سير " للتّأكيد كقوله الصّدقة عن ظهر غنىً، ولفظ الظّهر يقع في مثل هذا اتّساعاً للكلام ، كأنّ السّير كان مستنداً إلى ظهر قويّ من المطيّ مثلاً.
وقال غيره: حصل للسّير ظهر، لأنّ الرّاكب ما دام سائراً فكأنّه راكب ظهر.
قلت: وفيه جناس التّحريف بين الظُّهر والظَّهر.
واستُدل به على جواز جمع التّأخير، وقيّد الجمع فيه بما إذا كان على ظهر السّير، ولا قائل بأنّه يصليهما وهو راكب ، فتعيّن أنّ المراد به جمع التّأخير.
ويؤيّده رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني في " مسنده " من طريق مقسم عن ابن عبّاس ففيها التّصريح بذلك وإن كان في إسناده مقال، لكنّه يصلح للمتابعة.
وللبخاري عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت صلَّى الظهر ثم ركب.
وقد استدل به على اختصاص الجمع بمن جدّ به السّير، لكن وقع
التّصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطّأ. ولفظه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخّر الصّلاة في غزوة تبوك، ثمّ خرج فصلَّى الظّهر والعصر جميعاً، ثمّ دخل، ثمّ خرج فصلَّى المغرب والعشاء جميعاً. (1)
قال الشّافعيّ في " الأمّ ". قوله " دخل ثمّ خرج ": لا يكون إلَاّ وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافراً.
وقال ابن عبد البرّ: في هذا أوضح دليل على الرّدّ على مَن قال لا يجمع إلَاّ من جدّ به السّير، وهو قاطع للالتباس. انتهى.
وحكى عياض: أنّ بعضهم أوّل قوله " ثمّ دخل " أي: في الطّريق مسافراً " ثمّ خرج " أي: عن الطّريق للصّلاة، ثمّ استبعده.
ولا شكّ في بُعده، وكأنّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته ما دلَّ عليه حديث أنس. والله أعلم.
ومن ثَمَّ قال الشّافعيّة: ترك الجمع أفضل ، وعن مالك رواية أنّه مكروه.
وفي هذه الأحاديث تخصيص لحديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وبيّنها النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين.
قال إمام الحرمين (2): ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرّق
(1) وهو عند مسلم أيضاً (706) كتاب الفضائل. باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مالك.
(2)
هو عبدالملك الجويني ، سبق ترجمته (1/ 283)
إليها تأويل، ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة، فإنّ سببه احتياج الحاجّ إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كلّ الأسفار ولَم تتقيّد الرّخص كالقصر والفطر بالنّسك.
إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أنّ الجمع أرفق من القصر، فإنّ القائم إلى الصّلاة لا يشقّ عليه ركعتان يضمّهما إلى ركعتيه، ورفق الجمع واضح لمشقّة النّزول على المسافر.