الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر
171 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لَم يقم منه: لعن الله اليهود والنّصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: ولولا ذلك أبرز قبره ، غير أنّه خشي أن يتّخذ مسجداً. (1)
قوله: (في مرضه الذي لَم يقم منه) وللبخاري " في مرضه الذي مات فيه " ولهما من رواية عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس: لَمَّا نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة الله .. ".
قوله " فقال وهو كذلك " أي: في تلك الحال، ويحتمل: أن يكون ذلك في الوقت الذي ذكرتْ فيه أمّ سلمة وأمّ حبيبة أمرَ الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة، وكأنّه صلى الله عليه وسلم علم أنّه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يُعظّم قبره كما فعل من مضى ، فلعن اليهود والنّصارى. إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم.
قوله: (لعن الله) الوعيد على ذلك يتناول من اتّخذ قبورهم مساجد تعظيماً ومغالاةً كما صنع أهل الجاهليّة وجرّهم ذلك إلى
(1) أخرجه البخاري (1265 ، 1324 ، 4177) ومسلم (529) من طرق عن حميد بن أبي هلال الوزان عن عائشة به.
وأخرج البخاري (425 ، 3267 ، 4179 ، 5478) ومسلم (531) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس نحوه. دون قوله (ولولا ذلك لأبرز .. الخ.
عبادتهم، ويتناول من اتّخذ أمكنة قبورهم مساجد بأن تنبش وترمى عظامهم، فهذا يختصّ بالأنبياء ويلتحق بهم أتباعهم.
وأمّا الكفرة. فإنّه لا حرج في نبش قبورهم، إذ لا حرج في إهانتهم. ولا يلزم من اتّخاذ المساجد في أمكنتها تعظيم، فعرف بذلك أن لا تعارض بين فعله صلى الله عليه وسلم في نبش قبور المشركين واتّخاذ مسجده مكانها (1) ، وبين لعنه صلى الله عليه وسلم من اتّخذ قبور الأنبياء مساجد لِمَا تبيّن من الفرق.
تكميل: قال ابن بطال: لَم أجد في نبش قبور المشركين لتُتخذ مسجداً نصاً عن أحد من العلماء، نعم اختلفوا. هل تُنبش بطلب المال؟. فأجازه الجمهور. ومنعه الأوزاعي، وهذا الحديث حجة للجواز، لأنَّ المشرك لا حرمة له حيا ولا ميتاً.
قوله: (اليهود والنصارى) وقد استُشكل ذكر النّصارى فيه؛ لأنّ اليهود لهم أنبياء بخلاف النّصارى. فليس بين عيسى وبين نبيّنا صلى الله عليه وسلم نبيّ غيره. وليس له قبر.
الجواب الأول: أنّه كان فيهم أنبياء أيضاً ، لكنّهم غير مرسلين كالحواريّين ومريم في قولٍ.
(1) أي: حديث أنس. أخرجه البخاري (428) ومواضع أخرى ، ومسلم (1201) في قصة قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وشراء أرض المسجد من الأنصار. وفيه " وأنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ من بنى النجار فقال: يا بنى النجار ثامنونى بحائطكم هذا. قالوا: لا والله. لا نطلب ثمنه إلَاّ إلى الله. فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم، قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبشت، ثم بالخرب فسُويت، وبالنخل فقُطع، فصفّوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر .. الحديث "
الجواب الثاني: الجمع في قوله " أنبيائهم " بإزاء المجموع من اليهود والنّصارى، والمراد الأنبياء وكبار أتباعهم فاكتفى بذكر الأنبياء.
ويؤيّده قوله في رواية مسلم من طريق جندب " كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " ، ولهذا لَمّا أفرد النّصارى في الحديث الذي قبله قال " إذا مات فيهم الرّجل الصّالح " ولَمَّا أفرد اليهود في الحديث الذي بعده قال " قبور أنبيائهم ".
الجواب الثالث: المراد بالاتّخاذ: أعمّ من أن يكون ابتداعاً أو اتّباعاً، فاليهود ابتدعت والنّصارى اتّبعت، ولا ريب أنّ النّصارى تعظّم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظّمهم اليهود.
وقوله: (اتّخذوا) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنّه قيل ما سبب لعنهم؟. فأجيب بقوله " اتّخذوا "
قوله: (لأُبرز قبره) أي لكشف قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولَم يُتّخذ عليه الحائل، والمراد الدّفن خارج بيته.
وهذا قالته عائشة قبل أن يوسّع المسجد النّبويّ، ولهذا لَمّا وسّع المسجد جُعلت حجرتُها مثلثة الشّكل محدّدة حتّى لا يتأتّى لأحدٍ أن يُصلِّي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة. (1)
(1) قال شيخ الإسلام في " فتاوى "(27/ 323): كان النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا مات دفن في حجرة عائشة ، وكانت هي وحُجَر نسائه في شرقي المسجد ، وقبليه لم يكن شيء من ذلك داخلاً في المسجد ، واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة.
ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسَّع المسجد ، وأدخلت فيه الحجرة للضرورة: فإنَّ الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهنَّ كنَّ قد توفين كلهنَّ رضي الله عنهن فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد. فهدمها وأدخلها في المسجد وبقيت حجرة عائشة على حالها ، وكانت مغلقة لا يُمكَّن أحدٌ من الدخول إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك. إلى حين كانت عائشة في الحياة ، وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة. فإنها توفيت في خلافة معاوية.
ثم ولي ابنه يزيد ثم ابن الزبير في الفتنة ثم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد ، وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة. وقد مات عامة الصحابة ، قيل إنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله رضي الله عنه فإنه آخر من مات بها في سنة 78 قبل إدخال الحجرة بعشر سنين.
ففي حياة عائشة رضي الله عنها كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث ولاستفتائها وزيارتها من غير أن يكون إذا دخلَ أحدٌ يذهب إلى القبر المكرَّم لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك - بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فتريه إياهنَّ ، وهي قبور لا لاطئة ولا مشرفةٌ مبطوحة ببطحاء العرصة. انتهى
قوله: (غير أنّه خشي) بالضّمّ لا غير ، وللبخاري " غير أنّه خشي أو خشي " على الشّكّ. هل هو بفتح الخاء المعجمة أو ضمّها؟.
وللبخاري " غير أنّي أخشى " فهذه الرواية تقتضي أنّها هي التي امتنعت من إبرازه، ورواية الضّمّ مبهمة يمكن أن تفسّر بهذه، والهاء ضمير الشّأن ، وكأنّها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك، وذلك يقتضي أنّهم فعلوه باجتهادٍ، بخلاف رواية الفتح فإنّها تقتضي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك.
قال الكرمانيّ: مفاد الحديث منع اتّخاذ القبر مسجداً، ومدلول التّرجمة (1) اتّخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنّهما
(1) أي: جمة البخاري على الحديث (باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور)