الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والتسعون
147 -
عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: خطبنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصّلاة ، فقال: من صلَّى صلاتنا ونسك نسكنا. فقد أصاب النّسك ، ومن نسك قبل الصّلاة فلا نسك له.
فقال أبو بُرْدة بن نيارٍ - خال البراء بن عازبٍ -: يا رسولَ الله ، إنّي نسكْتُ شاتي قبل الصّلاة. وعرفت أنّ اليوم يوم أكلٍ وشربٍ ، وأحببت أن تكون شاتي أوّل ما يذبح في بيتي ، فذبحت شاتي ، وتغذّيت قبل أن آتي الصّلاة. فقال: شاتك شاة لحمٍ. قال: يا رسولَ الله ، فإنّ عندنا عناقاً هي أحبّ إليّ من شاتين. أفتجزي عنّي؟ قال: نعم ، ولن تَجزي عن أحدٍ بعدك. (1)
قوله: (خطبنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصّلاة) تقدم في الحديث قبله.
قوله: (من صلَّى صلاتنا ونسك نسكنا) وللبخاري " من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا ، فلا يذبح حتى ينصرف ".
وفي رواية لهما " أوّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نُصلِّي ، ثمّ نرجع
(1) أخرجه البخاري (908 ، 912 ، 922، 925، 933، 940، 5225، 5236، 5240، 5243، 6296) ومسلم (1961) من طرق عدّةٍ عن الشعبي عن البراء رضي الله عنه.
ورواه البخاري (5237) ومسلم (1961) من طريق سلمة بن كهيل عن أبي جحيفة عن البراء رضي الله عنه مختصراً بذكر قصة خاله أبي بردة فقط.
فننحر ".
فيه إشعار بأنّ الصّلاة ذلك اليوم هي الأمر المهمّ، وأنّ ما سواها من الخطبة والنّحر والذّكر وغير ذلك من أعمال البرّ يوم النّحر فبطريق التّبع، وهذا القدر مشتركٌ بين العيدين.
وهو مشعرٌ أيضاً بأنّ هذا الكلام وقع قبل إيقاع الصّلاة فيستلزم تقديم الخطبة على الصّلاة بناءً على أنّ هذا الكلام من الخطبة، ولأنّه عقّب الصّلاة بالنّحر.
والجواب: أنّ المراد أنّه صلى الله عليه وسلم صلَّى العيد ثمّ خطب فقال هذا الكلام (1) وأراد بقوله " إنّ أوّل ما نبدأ به "، أي: في يوم العيد تقديم الصّلاة في أيّ عيدٍ كان. والتّعقيب بثمّ لا يستلزم عدم تخلّل أمرٍ آخر بين الأمرين.
قال ابن بطّالٍ: غلط النّسائيّ فترجم بحديث البراء فقال " باب الخطبة قبل الصّلاة " قال: وخفي عليه أنّ العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضي، وكأنّه قال عليه الصلاة والسلام: أوّل ما يكون به الابتداء في هذا اليوم الصّلاة التي قدّمنا فعلها. قال: وهو
(1) بوَّب البخاري على الحديث بقوله (باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، وإذا سئل الإمام عن شيء وهو يخطب)
قال الشارح رحمه الله: في هذه الترجمة حكمان ، وظنَّ بعضهم أنَّ فيها تكراراً ، وليس ذلك، بل الأول أعم من الثاني، ولم يذكر المصنف الجواب استغناء بما في الحديث، ووجهه من حديث البراء ، أنَّ المراجعة الصادرة بين أبي بردة وبين النبي صلى الله عليه وسلم دالَّة على الحكم الأول، وسؤال أبي بردة عن حكم العناق دال على الحكم الثاني.
مثل قوله تعالى (وما نقموا منهم إلَاّ أن يؤمنوا) أي: الإيمان المتقدّم منهم. انتهى
والمعتمد في صحّة ما تأوّلناه رواية محمّد بن طلحة عن زبيدٍ عن الشعبي عند البخاري في هذا الحديث بعينه بلفظ: خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع فصلَّى ركعتين، ثمّ أقبل علينا بوجهه ، وقال: إنّ أوّل نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصّلاة ثمّ نرجع فننحر. الحديث.
فتبيّن أنّ ذلك الكلام وقع منه بعد الصّلاة ، لأنّه عقّب الخروج إليها بالفاء. ورواية الباب صريحة فيه. فيتعيّن التّأويل الذي قدّمناه. والله أعلم.
ووقع في بعض الرّوايات " في يومنا هذا نُصلِّي " بحذف " أن ". وعليها شرح الكرمانيّ ، فقال: هو مثل " تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه " وهو على تنزيل الفعل منزلة المصدر، والمراد بالسّنّة هنا في الحديثين معاً الطّريقة لا السّنّة بالاصطلاح التي تقابل الوجوب، والطّريقة أعمّ من أن تكون للوجوب أو للنّدب، فإذا لَم يقم دليل على الوجوب بقي النّدب.
قوله: (ونَسك نُسكنا فقد أصاب النُّسك ، ومن نَسك قبل الصّلاة فلا نُسك له) في رواية لهما " من ضحَّى قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين ".
والنّسك يطلق ويراد به الذّبيحة ، ويستعمل في نوع خاصّ من الدّماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة وهو أعمّ ، يقال فلان ناسك.
أي: عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثّالث وبالمعنى الأوّل أيضاً في قوله " من نسك قبل الصّلاة فلا نسك له ". أي: من ذبح قبل الصّلاة فلا ذبح له. أي: لا يقع عن الأضحيّة.
قوله: (فقال أبو بُرْدة بن نيار) وهو بكسر النّون وتخفيف الياء المثنّاة من تحت وآخره راء. واسمه هانئ ، واسم جدّه عمرو بن عبيد وهو بلويّ من حلفاء الأنصار، وقد قيل: إنّ اسمه الحارث بن عمرو ، وقيل: مالك بن هبيرة. والأوّل هو الأصحّ.
وأخرج ابن منده من طريق جابر الجعفيّ عن الشّعبيّ عن البراء قال: كان اسم خالي قليلاً فسمّاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم كثيراً، وقال: يا كثير إنّما نسكنا بعد صلاتنا. ثمّ ذكر حديث الباب بطوله، وجابر ضعيف.
وأبو بُرْدة ممّن شهد العقبة وبدراً والمشاهد ، وعاش إلى سنة اثنتين ، وقيل: خمس وأربعين، وله في البخاريّ حديث في الحدود. (1)
قوله: (وعرفت أنّ اليومَ يومُ أكلٍ وشربٍ) فيه أنّ أبا بُرْدة أكل قبل الصّلاة يوم النّحر، فبيّن له صلى الله عليه وسلم أنّ التي ذبحها لا تجزئ عن الأضحيّة. وأقرّه على الأكل منها.
وأمّا ما ورد في التّرمذيّ والحاكم من حديث بريدة ، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتّى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتّى يُصلِّي ، ونحوه عند البزّار عن جابر بن سمرة.
وروى الطّبرانيّ والدارقطنيّ من حديث ابن عبّاسٍ قال: من السّنّة
(1) سيأتي إن شاء الله في الحدود برقم (360).
أن لا يخرج يوم الفطر حتّى يخرج الصّدقة ، ويطعم شيئاً قبل أن يخرج.
وفي كلٍّ من الأسانيد الثّلاثة مقالٌ، وقد أخذ أكثر الفقهاء بما دلَّت عليه.
قال الزين بن المنير: وقع أكله صلى الله عليه وسلم في كلٍّ من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصّة بهما. فإخراج صدقة الفطر قبل الغدوّ إلى المصلى. وإخراج صدقة الأضحيّة بعد ذبحها. فاجتمعا من جهةٍ ، وافترقا من جهةٍ أخرى.
واختار بعضهم تفصيلاً آخر فقال: من كان له ذبحٌ استحبّ له أن يبدأ بالأكل يوم النّحر منه، ومن لَم يكن له ذبحٌ تخيّر.
قوله: (فقال: شاتك شاة لحمٍ) أي: ليست أضحيّة بل هو لحم ينتفع به كما وقع في رواية زبيد " فإنّما هو لحم يقدّمه لأهله " ، وفي رواية فراس عن الشعبي عن البراء عند مسلم ، قال: ذاك شيء عجّلته لأهلك.
وقد استشكلت الإضافة في قوله " شاة لحم "، وذلك أنّ الإضافة قسمان: معنويّة ولفظيّة.
فالمعنويّة: إمّا مقدّرة بمن. كخاتم حديد أو باللام. كغلام زيد أو بفي. كضرب اليوم معناه ضرب في اليوم.
وأمّا اللفظيّة: فهي صفة مضافة إلى معمولها. كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصحّ شيء من الأقسام الخمسة في شاة لحم.
قال الفاكهيّ: والذي يظهر لي أنّ أبا بُرْدة لَمّا اعتقد أنّ شاته شاة أضحيّة ، أوقع صلى الله عليه وسلم في الجواب قوله " شاة لحم " موقع قوله شاة غير أضحيّة.
قوله: (فإنّ عندنا عناقاً لنا جذعةً) ولمسلم " عناق لبن " ، وللبخاري " إنّ عندي داجناً جذعاً من المعز " ، والدّاجن التي تألف البيوت وتستأنس. وليس لها سنّ معيّن، ولَمّا صار هذا الاسم علماً على ما يألف البيوت اضمحلَّ الوصف عنه. فاستوى فيه المذكّر والمؤنّث.
والجذعة. بفتح الجيم والذّال المعجمة ، هو وصف لسنٍّ معيّن من بهيمة الأنعام، فمن الضّأن ما أكمل السّنة وهو قول الجمهور. وقيل: دونها.
ثمّ اختلف في تقديره.
فقيل: ابن ستّة أشهر ، وقيل: ثمانية ، وقيل: عشرة، وحكى التّرمذيّ عن وكيع ، أنّه ابن ستّة أشهر أو سبعة أشهر.
وعن ابن الأعرابيّ ، أنّ ابن الشّابّين يجذع لستّة أشهر إلى سبعة ، وابن الهرمين يجذع لثمانيةٍ إلى عشرة، قال: والضّأن أسرع إجذاعاً من المعز، وأمّا الجذع من المعز فهو ما دخل في السّنة الثّانية ، ومن البقر ما أكمل الثّالثة ، ومن الإبل ما دخل في الخامسة، وقد بيّن في هذه الرّواية أنّها من المعز.
والعناق. بفتح العين وتخفيف النّون الأنثى من ولد المعز عند أهل
اللّغة، ولَم يصب الدّاوديّ في زعمه أنّ العناق هي التي استحقّت أن تحمل ، وأنّها تطلق على الذّكر والأنثى. وأنّه بيّن بقوله " لبن " أنّها أنثى.
قال ابن التّين: غلط في نقل اللّغة وفي تأويل الحديث، فإنّ معنى " عناق لبن " أنّها صغيرة سنّ ترضع أمّها.
ووقع عند الطّبرانيّ من طريق سهل بن أبي حثمة ، أنّ أبا بُرْدة ذبح ذبيحته بسحرٍ، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّما الأضحيّة ما ذبح بعد الصّلاة، اذهب فضحّ، فقال: ما عنديّ إلَاّ جذعة من المعز. الحديث.
قوله: (هي أحبّ إليّ من شاتين) في رواية لمسلمٍ " من شاتي لحم ". والمعنى: أنّها أطيب لحماً وأنفع للآكلين لسمنها ونفاستها.
وقد استشكل هذا بما ذُكر أنّ عتق نفسين أفضل من عتق نفس واحدة ولو كانت أنفس منهما.
وأجيب: بالفرق بين الأضحيّة والعتق. أنّ الأضحيّة يطلب فيها كثرة اللحم ، فتكون الواحدة السّمينة أولى من الهزيلتين. والعتق يطلب فيه التّقرّب إلى الله بفكّ الرّقبة ، فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة.
نعم. إن عرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره - كالعلم وأنواع الفضل المتعدّي - فقد جزم بعض المحقّقين بأنّه أولى. لعموم نفعه للمسلمين.
ووقع في الرّواية الأخرى في البخاري وهي " خير من مسنّة ". وحكى ابن التّين عن الدّاوديّ: أنّ المسنّة التي سقطت أسنانها للبدل، وقال أهل اللّغة: المسنّ الثّنيّ الذي يلقي سنّه، ويكون في ذات الخفّ في السّنة السّادسة ، وفي ذات الظّلف والحافر في السّنة الثّالثة.
وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشّاة في الثّالثة. فهو ثنيّ ومسنّ.
قوله: (قال: نعم ، ولن تجزي عن أحدٍ بعدك) في رواية لهما " قال: اذبحها ، ولا تصلح لغيرك " ولمسلم " أعد نسكاً ، فقال: إن عندي عناقَ لبن هي خير من شاتَي لحم. قال: هي خير نسيكتيك. ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك.
في رواية فراس عند البخاري " أأذبحها؟ قال: نعم، ثمّ لا تجزي عن أحد بعدك " وله أيضاً " اجعلها مكانها ، ولن تجزي عن أحد بعدك " ، وفي حديث سهل بن أبي حثمة " وليست فيها رخصة لأحدٍ بعدك " ، وللبخاري " ولن تجزي أو توفي ". شكٌّ من الرّاوي.
ومعنى تُوفي. أي: تكمل الثّواب ، وعند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه " ولن تفي " بغير واو ولا شكٍّ، يقال: وفى إذا أنجز فهو بمعنى تجزي بفتح أوّله.
وقوله " تجزي " بفتح أوّله غير مهموز ، أي: تقضي، يقال جزا عنّي فلان كذا أي: قضى، ومنه (لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً) أي: لا تقضي عنها.
قال ابن برّيّ: الفقهاء يقولون: لا تجزئ بالضّمّ والهمز في موضع
لا تقضي ، والصّواب بالفتح وترك الهمز، قال: لكن يجوز الضّمّ والهمز بمعنى الكفاية، يقال أجزأ عنك.
وقال صاحب " الأساس ": بنو تميم يقولون: البدنة تجزي عن سبعة بضمّ أوّله، وأهل الحجاز تجزي بفتح أوّله، وبهما قرئ (لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً)
وفي هذا تعقّب على من نقل الاتّفاق على منع ضمّ أوّله.
وفي هذا الحديث تخصيص أبي بُرْدة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحيّة، لكن وقع في عدّة أحاديث التّصريح بنظير ذلك لغير أبي بُرْدة، ففي حديث عقبة بن عامر ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح أنت به " (1) ، زاد البيهقيّ " ولا رخصة فيها لأحدٍ بعدك ".
قال البيهقيّ: إن كانت هذه الزّيادة محفوظة. كان هذا رخصة لعقبة كما رخّص لأبي بُرْدة.
قلت: وفي هذا الجمع نظرٌ، لأنّ في كلّ منهما صيغة عموم، فأيّهما تقدّم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثّاني.
وأقرب ما يقال فيه: إنّ ذلك صدر لكلٍّ منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصيّة الأوّل نسخت بثبوت الخصوصيّة للثّاني، ولا مانع من ذلك ، لأنّه لَم يقع في السّياق استمرار المنع لغيره صريحاً.
(1) أخرجه البخاري (2300) ومسلم (1965) من طريق الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن أبي الخير عن عقبة به.
وقد انفصل ابن التّين - وتبعه القرطبيّ - عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون العتود كان كبير السّنّ بحيث يجزي، لكنّه قال ذلك بناء على أنّ الزّيادة التي في آخره لَم تقع له.
ولا يتمّ مراده مع وجودها مع مصادمته لقول أهل اللّغة في العتود.
وتمسّك بعض المتأخّرين بكلام ابن التّين فضعّف الزّيادة، وليس بجيّدٍ، فإنّها خارجة من مخرج الصّحيح، فإنّها عند البيهقيّ من طريق عبد الله البوشنجيّ - أحد الأئمّة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم - رواها عن يحيى بن بكير عن الليث بالسّند الذي ساقه البخاريّ.
ولكنّي رأيت الحديث في " المتّفق للجوزقيّ " من طريق عبيد بن عبد الواحد ، ومن طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان كلاهما عن يحيى بن بكير. وليست الزّيادة فيه، فهذا هو السّرّ في قول البيهقيّ: إن كانت محفوظة، فكأنّه لَمّا رأى التّفرّد خشي أن يكون دخل على راويها حديث في حديث.
وقد وقع في كلام بعضهم. أنّ الذين ثبتت لهم الرّخصة أربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكلٍ، فإنّ الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التّصريح بالنّفي إلَاّ في قصّة أبي بُرْدة في الصّحيحين ، وفي قصّة عقبة بن عامر في البيهقيّ.
وأمّا عدا ذلك. فقد أخرج أبو داود وأحمد. وصحّحه ابن حبّان من حديث زيد بن خالد ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه عتوداً جذعاً ، فقال: ضحّ
به، فقلت: إنّه جذع أفأضحّي به؟ قال: نعم. ضحّ به، فضحّيت به. لفظ أحمد.
وفي صحيح ابن حبّان وابن ماجه من طريق عبّاد بن تميم عن عويمر بن أشقر ، أنّه ذبح أضحيّته قبل أن يغدو يوم الأضحى، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعيد أضحيّة أخرى.
وفي الطّبرانيّ " الأوسط " من حديث ابن عبّاس ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقّاص جذعاً من المعز ، فأمره أن يضحّي به. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة. وفي سنده ضعف
ولأبي يعلى والحاكم من حديث أبي هريرة ، أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله. هذا جذع من الضّأن مهزول ، وهذا جذع من المعز سمين وهو خيرهما. أفأضحّي به؟ قال: ضحّ به فإنّ لله الخير. وفي سنده ضعف.
والحقّ أنّه لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بُرْدة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ثمّ قرّر الشّرع بأنّ الجذع من المعز لا يجزي، واختصّ أبو بُرْدة وعقبة بالرّخصة في ذلك.
وإنّما قلتُ ذلك ، لأنّ بعض النّاس زعم أنّ هؤلاء شاركوا عقبة وأبا بُرْدة في ذلك، والمشاركة إنّما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير.
ومنهم: من زاد فيهم عويمر بن أشقر ، وليس في حديثه إلَاّ مطلق الإعادة لكونه ذبح قبل الصّلاة.
وأمّا ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي زيد الأنصاريّ ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ من الأنصار: اذبحها. ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك.
فهذا يُحمل على أنّه أبو بُرْدة بن نيار فإنّه من الأنصار، وكذا ما أخرجه أبو يعلى والطّبرانيّ من حديث أبي جحيفة ، أنّ رجلاً ذبح قبل الصّلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجزي عنك، قال: إنّ عندي جذعة، فقال: تجزي عنك ، ولا تجزي بعد.
فلم يثبت الإجزاء لأحدٍ ونفيه عن الغير إلَاّ لأبي بُرْدة وعقبة، وإن تعذّر الجمع الذي قدّمته. فحديث أبي بُرْدة أصحّ مخرجاً. والله أعلم.
قال الفاكهيّ: ينبغي النّظر في اختصاص أبي بُرْدة بهذا الحكم وكشف السّرّ فيه، وأجيب بأنّ الماورديّ قال: إنّ فيه وجهين.
أحدهما: أنّ ذلك كان قبل استقرار الشّرع فاستثني.
والثّاني: أنّه علم من طاعته وخلوص نيّته ما ميّزه عمّن سواه.
قلت: وفي الأوّل نظرٌ، لأنّه لو كان سابقاً لامتنع وقوع ذلك لغيره بعد التّصريح بعدم الإجزاء لغيره، والفرض ثبوت الإجزاء لعددٍ غيره كما تقدّم.
وفي الحديث.
وهو القول الأول: أنّ الجذع من المعز لا يجزي. وهو قول الجمهور.
القول الثاني: عن عطاء وصاحبه الأوزاعيّ يجوز مطلقاً، وهو
وجه لبعض الشّافعيّة حكاه الرّافعيّ.
وقال النّوويّ: وهو شاذّ أو غلط. وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، قيل: والإجزاء مصادم للنّصّ.
ولكن يحتمل أن يكون قائله قيّد ذلك بمن لَم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولاً على من وجد.
وأمّا الجَذَعُ من الضّأن. فقال التّرمذيّ: إنّ العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزّهريّ: أنّ الجذع لا يجزي مطلقاً. سواء كان من الضّأن أم من غيره.
وممّن حكاه عن ابن عمر ابنُ المنذر في " الأشراف " ، وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعةٍ من السّلف ، وأطنب في الرّدّ على من أجازه.
ويحتمل: أن يكون ذلك أيضاً مقيّداً بمن لَم يجد.
وقد صحّ فيه حديث جابر رفعه: لا تذبحوا إلَاّ مسنّة إلَاّ أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضّأن. أخرجه مسلم وأبو داود والنّسائيّ وغيرهم.
لكن نقل النّوويّ عن الجمهور. أنّهم حملوه على الأفضل، والتّقدير يستحبّ لكم أن لا تذبحوا إلَاّ مسنّة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضّأن.
قال: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضّأن وأنّها لا تجزي، قال: وقد أجمعت الأمّة على أنّ الحديث ليس على ظاهره، لأنّ
الجمهور يجوّزون الجذع من الضّأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزّهريّ. يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعيّن تأويله.
قلت: ويدلّ للجمهور الأحاديث الماضية قريباً.
وكذا حديث أمّ هلال بنت هلال عن أبيها رفعه: يجوز الجذع من الضّأن أضحيّة. أخرجه ابن ماجه، وحديث رجل من بني سليمٍ يقال له مجاشع ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الجذع يوفّي ما يوفّي منه الثّنيّ. أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه النّسائيّ من وجه آخر، لكن لَم يسمّ الصّحابيّ، بل وقع عنده أنّه رجل من مزينة.
وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب عن عقبة بن عامر: ضحّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذعٍ من الضّأن. أخرجه النّسائيّ بسندٍ قويّ، وحديث أبي هريرة رفعه: نعمت الأضحيّة الجذعة من الضّأن. أخرجه التّرمذيّ. وفي سنده ضعف.
واختلف القائلون بإجزاء الجذع من الضّأن - وهم الجمهور - في سنِّه على آراء.
أحدها: أنّه ما أكمل سنة ودخل في الثّانية. وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، وهو الأشهر عند أهل اللّغة.
ثانيها: نصف قول الحنفيّة والحنابلة.
ثالثها: سبعة أشهر. وحكاه صاحب " الهداية " من الحنفيّة عن الزّعفرانيّ.
رابعها: ستّة أو سبعة حكاه التّرمذيّ عن وكيع.
خامسها: التّفرقة بين ما تولد بين شابّين. فيكون له نصف سنة ، أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية.
سادسها: ابن عشر.
سابعها: لا يجزي حتّى يكون عظيماً. حكاه ابن العربيّ ، وقال: إنّه مذهب باطل.
كذا قال، وقد قال صاحب " الهداية ": إنّه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثّنيّات اشتبهت على النّاظر من بعيدٍ. أجزأت.
وقال العبّاديّ من الشّافعيّة: لو أجذع قبل السّنة ، أي: سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمّت السّنة قبل أن يجذع ، ويكون ذلك كالبلوغ إمّا بالسّنّ وإمّا بالاحتلام.
وهكذا قال البغويّ: الجذع ما استكمل السّنة أو جذع قبلها، والله أعلم.
واستدل بالحديث على وجوب الأضحيّة على من التزم الأضحيّة فأفسد ما يضحّي به.
وردّه الطّحاويّ: بأنّه لو كان كذلك لتعرّض إلى قيمة الأولى ليلزم بمثلها، فلمّا لَم يعتبر ذلك دلَّ على أنّ الأمر بالإعادة كان على جهة النّدب ، وفيه بيان ما يجري في الأضحيّة لا على وجوب الإعادة.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم.
أنّ المرجع في الأحكام إنّما هو إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنّه قد يخصّ بعض أمّته بحكمٍ ويمنع غيره منه ولو كان بغير عذر.
وفيه أنّ خطابه للواحد يعمّ جميع المكلفين حتّى يظهر دليل الخصوصيّة، لأنّ السّياق يشعر بأنّ قوله لأبي بُرْدة ضحّ به. أي: بالجذع، ولو كان يفهم منه تخصيصه بذلك لَمَا احتاج إلى أن يقول له " ولن تجزي عن أحد بعدك ".
ويحتمل: أن تكون فائدة ذلك قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور. لا أنّ ذلك مأخوذ من مجرّد اللفظ ، وهو قويّ.
واستدل بقوله " اذبح مكانها أخرى " وفي لفظ " أعد نسكاً " وفي لفظ " ضحّ بها " وغير ذلك من الألفاظ المصرّحة بالأمر بالأضحيّة على وجوب الأضحيّة.
قال القرطبيّ في " المفهم ": ولا حجّة في شيء من ذلك، وإنّما المقصود بيان كيفيّة مشروعيّة الأضحيّة لمن أراد أن يفعلها ، أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلاً، فبيّن له وجه تدارك ما فرّط منه، وهذا معنى قوله " لا تجزي عن أحد بعدك " أي: لا يحصل له مقصود القربة ولا الثّواب، كما يقال في صلاة النّفل: لا تجزي إلَاّ بطهارةٍ وستر عورة.
قال: وقد استدل بعضهم للوجوب بأنّ الأضحيّة من شريعة إبراهيم الخليل وقد أمرنا باتّباعه، ولا حجّة فيه لأنّا نقول بموجبه، ويلزمهم الدّليل على أنّها كانت في شريعة إبراهيم واجبة ولا سبيل إلى علم ذلك، ولا دلالة في قصّة الذّبيح للخصوصيّة التي فيها، والله أعلم.
وفيه أنّ الإمام يعلم النّاس في خطبة العيد أحكام النّحر.
وفي الحديث:
وهو القول الأول: جواز الاكتفاء في الأضحيّة بالشّاة الواحدة عن الرّجل وعن أهل بيته، وبه قال الجمهور.
القول الثاني: عن أبي حنيفة والثّوريّ: يكره.
وقال الخطّابيّ: لا يجوز أن يضحّى بشاةٍ واحدة عن اثنين، وادّعى نسخ ما دلَّ عليه حديث عائشة ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ضحّى عن نساءه بالبقر ، متفق عليه.
وتعقّب: بأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال.
قال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة: وفيه أنّ العمل - وإن وافق نيّة حسنة - لَم يصحّ إلَاّ إذا وقع على وفق الشّرع. وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد من غير لحم الأضحيّة لقوله " إنّما هو لحم قدّمه لأهله ". وفيه كرم الرّبّ سبحانه وتعالى لكونه شرع لعبيده الأضحيّة مع ما لهم فيها من الشّهوة بالأكل والادّخار. ومع ذلك فأثبت لهم الأجر في الذّبح، ثمّ من تصدّق أثيب وإلا لَم يأثم
وفي قوله " أول ما نبدأ به .. الحديث ، دليل على أنّه لا ينبغي الاشتغال في يوم العيد بشيءٍ غير التّأهّب للصّلاة والخروج إليها، ومن لازمه أن لا يُفعل قبلها شيءٌ غيرها. فاقتضى ذلك التّبكير إليها.
وروى أحمد من طريق يزيد بن خميرٍ - وهو بالمعجمة مصغّرٌ - قال
: خرج عبد الله بن بسرٍ - صاحب النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع النّاس يوم عيدٍ فطرٍ أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام ، وقال: إنْ كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد فرغنا ساعتنا هذه ، وذلك حين التّسبيح. وكذا رواه أبو داود عن أحمد والحاكم من طريق أحمد أيضاً وصحّحه.
وقوله " وذلك حين التّسبيح " أي: وقت صلاة السّبحة وهي النّافلة، وذلك إذا مضى وقت الكراهة. وفي روايةٍ صحيحةٍ للطبرانيّ " وذلك حين تسبيح الضّحى ".
قال ابن بطّالٍ: أجمع الفقهاء على أنّ العيد لا تُصلَّى قبل طلوع الشّمس ولا عند طلوعها، وإنّما تجوز عند جواز النّافلة.
ويعكّر عليه: إطلاق من أطلق أنّ أوّل وقتها عند طلوع الشّمس، واختلفوا هل يمتدّ وقتها إلى الزّوال أو لا؟.
واستدل ابن بطّالٍ على المنع بحديث عبد الله بن بسرٍ هذا، وليس دلالته على ذلك بظاهرةٍ.
ومن الفوائد: تأكيد أمر الأضحيّة، وأنّ المقصود منها طيّب اللحم وإيثار الجار على غيره.
وأنّ المفتي إذا ظهرت له من المستفتي أمارة الصّدق كان له أن يسهّل عليه، حتّى لو استفتاه اثنان في قضيّةٍ واحدةٍ جاز أن يفتي كلاًّ منهما بما يناسب حاله. وجواز إخبار المرء عن نفسه بما يستحقّ الثّناء به عليه بقدر الحاجة.
تمسّك الشّافعيّة بقوله " فلا يذبح حتى ينصرف " في أنّ أوّل وقت
الأضحيّة قدر فراغ الصّلاة والخطبة.
وإنّما شرطوا فراغ الخطيب ، لأنّ الخطبتين مقصودتان مع الصّلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصّلاة والخطبتين على أخفّ ما يجزي بعد طلوع الشّمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذّبح عن الأضحيّة، سواء صلَّى العيد أم لا، وسواء ذبح الإمام أضحيّته أم لا.
ويستوي في ذلك أهل المصر والحاضر والبادي.
ونقل الطّحاويّ عن مالك والأوزاعيّ والشّافعيّ: لا تجوز أضحيّة قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك والأوزاعيّ. لا الشّافعيّ.
قال القرطبيّ: ظواهر الأحاديث تدلّ على تعليق الذّبح بالصّلاة، لكن لَمّا رأى الشّافعيّ أنّ من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتّضحية حمل الصّلاة على وقتها.
وقال أبو حنيفة والليث: لا ذبح قبل الصّلاة، ويجوز بعدها ولو لَم يذبح الإمام، وهو خاصٌ بأهل المصر. فأمّا أهل القرى والبوادي. فيدخل وقت الأضحيّة في حقّهم إذا طلع الفجر الثّاني.
وقال مالك: يذبحون إذا نحر أقرب أئمّة القرى إليهم، فإن نحروا قبل أجزأهم.
وقال عطاء وربيعة: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشّمس.
وقال أحمد وإسحاق: إذا فرغ الإمام من الصّلاة جازت الأضحيّة، وهو وجه للشّافعيّة قويّ من حيث الدّليل. وإن ضعّفه بعضهم.
ومثله قول الثّوريّ: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها.
ويحتمل: أن يكون قوله " حتّى ينصرف " أي: من الصّلاة، كما في الرّوايات الأخر.
وأصرح من ذلك ما وقع عند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه رفعه " إنّما الذّبح بعد الصّلاة " ، ووقع في حديث جندب عند مسلم " من ذبح قبل أن يُصلِّي فليذبح مكانها أخرى ".
قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصّلاة من حديث البراء، أي: حيث جاء فيه " من ذبح قبل الصّلاة " قال: لكن إن أجريناه على ظاهره اقتضى أن لا تجزئ الأضحيّة في حقّ من لَم يصلِّ العيد، فإن ذهب إليه أحدٌ فهو أسعد النّاس بظاهر هذا الحديث، وإلَاّ وجب الخروج عن الظّاهر في هذه الصّورة ، ويبقى ما عداها في محلّ البحث.
وتعقّب: بأنّه قد وقع في صحيح مسلم في رواية أخرى " قبل أن يُصلِّي أو نُصلِّي " بالشّكّ.
قال النّوويّ: الأولى بالياء والثّانية بالنّون، وهو شكٌّ من الرّاوي، فعلى هذا إذا كان بلفظ " يُصلِّي " ساوى لفظ حديث البراء في تعليق الحكم بفعل الصّلاة.
قلت: وقد وقع عند البخاريّ في حديث جندب في الذّبائح بمثل لفظ البراء، وهو خلاف ما يوهمه سياق صاحب العمدة، فإنّه ساقه على لفظ مسلم، وهو ظاهر في اعتبار فعل الصّلاة، فإنّ إطلاق لفظ
الصّلاة وإرادة وقتها خلاف الظّاهر، وأظهر من ذلك قوله " قبل أن نُصلِّي " بالنّون، وكذا قوله " قبل أن ننصرف " سواء قلنا من الصّلاة أم من الخطبة.
وادّعى بعض الشّافعيّة: أنّ معنى قوله صلى الله عليه وسلم " من ذبح قبل أن يُصلِّي فليذبح مكانها أخرى " أي: بعد أن يتوجّه من مكان هذا القول، لأنّه خاطب بذلك من حضره فكأنّه قال: من ذبح قبل فعل هذا من الصّلاة والخطبة فليذبح أخرى، أي: لا يعتدّ بما ذبحه ، ولا يخفى ما فيه.
وأورد الطّحاويّ ما أخرجه مسلم من حديث ابن جريجٍ عن أبي الزّبير عن جابر بلفظ ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى يوم النّحر بالمدينة، فتقدّم رجالٌ فنحروا ، وظنّوا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمرهم أن يعيدوا. قال: ورواه حمّاد بن سلمة عن أبي الزّبير عن جابر بلفظ: أنّ رجلاً ذبح قبل أن يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى أن يذبح أحدٌ قبل الصّلاة. وصحّحه ابن حبّان.
ويشهد لذلك قوله في حديث البراء " إنّ أوّل ما نصنع أن نبدأ بالصّلاة، ثمّ نرجع فننحر ". فإنّه دالٌّ على أنّ وقت الذّبح يدخل بعد فعل الصّلاة، ولا يشترط التّأخير إلى نحر الإمام.
ويؤيّده من طريق النّظر: أنّ الإمام لو لَم ينحر لَم يكن ذلك مسقطاً عن النّاس مشروعيّة النّحر، ولو أنّ الإمام نحر قبل أن يُصلِّي لَم يجزئه نحره، فدلَّ على أنّه هو والنّاس في وقت الأضحيّة سواء.
وقال المُهلَّب: إنّما كره الذّبح قبل الإمام لئلا يشتغل النّاس بالذّبح عن الصّلاة.
تنبيه: وقع في البخاري في " الأيمان والنذور " من طريق ابن عون عن الشعبي قال: قال البراء بن عازب: وكان عندهم ضيف لهم، فأمر أهله أن يذبحوا قبل أن يرجع، ليأكل ضيفهم، فذبحوا قبل الصلاة، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يعيد الذبح ، فقال: يا رسولَ الله، عندي عناق جذع، عناق لبن، هي خير من شاتَي لحم.
قوله (فقال: يا رسولَ الله) في رواية الإسماعيليّ " قال البراء: يا رسولَ الله " وهذا صريح في أنّ القصّة وقعت للبراء، فلولا اتّحاد المخرج لأمكن التّعدّد، لكنّ القصّة متّحدةٌ والسّند متّحدٌ من رواية الشّعبيّ عن البراء. والاختلاف من الرّواة عن الشّعبيّ، فكأنّه وقع في هذه الرّواية اختصار وحذف.
ويحتمل: أن يكون البراء شارك خاله في سؤال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن القصّة ، فنسبت كلّها إليه تجوّزاً.
قال الكرمانيّ: كان البراء وخاله أبو بُرْدة أهل بيتٍ واحدٍ ، فنسب القصّة تارة لخاله وتارة لنفسه. انتهى.
والمتكلم في القصّة الواحدة أحدهما فتكون نسبة القول للآخر مجازيّة. والله أعلم