المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السادس والسبعون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٣

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌باب التشهُّد

- ‌الحديث الخامس والسبعون

- ‌الحديث السادس والسبعون

- ‌الحديث السابع والسبعون

- ‌الحديث الثامن والسبعون

- ‌الحديث التاسع والسبعون

- ‌باب الوتر

- ‌الحديث الثمانون

- ‌الحديث الواحد والثمانون

- ‌الحديث الثاني والثمانون

- ‌باب الذكر عقب الصّلاة

- ‌الحديث الثالث والثمانون

- ‌الحديث الرابع والثمانون

- ‌الحديث الخامس والثمانون

- ‌الحديث السادس والثمانون

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌الحديث السابع والثمانون

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌الحديث الثامن والثمانون

- ‌باب الجمعة

- ‌الحديث التاسع والثمانون

- ‌الحديث التسعون

- ‌الحديث الواحد والتسعون

- ‌الحديث الثاني والتسعون

- ‌الحديث الثالث والتسعون

- ‌الحديث الرابع والتسعون

- ‌الحديث الخامس والتسعون

- ‌الحديث السادس والتسعون

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌الحديث السابع والتسعون

- ‌الحديث الثامن والتسعون

- ‌الحديث التاسع والتسعون

- ‌الحديث المائة

- ‌الحديث المائة وواحد

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌الحديث المائة واثنان

- ‌الحديث المائة وثلاثة

- ‌الحديث المائة وأربعة

- ‌الحديث المائة وخمسة

- ‌باب صلاة الاستسقاء

- ‌الحديث المائة وستة

- ‌الحديث المائة وسبعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌الحديث المائة وثمانية

- ‌الحديث المائة وتسعة

- ‌الحديث المائة وعشرة

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

الفصل: ‌الحديث السادس والسبعون

‌الحديث السادس والسبعون

125 -

عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى ، قال: لقِيَنِي كعب بن عُجْرة ، فقال: ألا أهدي لك هديّةً؟ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج علينا ، فقلنا: يا رسولَ الله ، قد علِمْنا كيف نُسلّم عليك ، فكيف نُصلِّي عليك؟ فقال: قولوا: اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيدٌ ، وبارك على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيدٌ. (1)

قوله: (عبد الرّحمن بن أبي ليلى) تابعيّ كبير ، وهو والد ابن أبي ليلى فقيه الكوفة محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى ينسب إلى جدّه. (2)

قوله: (لقِيَنِي كعب بن عُجْرة) في رواية فطر بن خليفة عن ابن أبي ليلى: لقيني كعب بن عُجْرة الأنصاريّ. أخرجه الطّبرانيّ.

ونقل ابن سعد عن الواقديّ ، أنّه أنصاريّ من أنفسهم، وتعقّبه ، فقال: لَم أجده في نسب الأنصار، والمشهور أنّه بلويّ.

(1) أخرجه البخاري (3190) من طريق عبد الله بن عيسى ، والبخاري أيضاً (5996) ومسلم (406) من طريق الحكم كلاهما عن ابن أبي ليلى به.

(2)

قال ابن الأثير في " جامع الأصول "(12/ 381): اسم ابن أبي ليلى: عبد الرحمن، وهو تابعيّ مشهور. وقد يقال: ابن أبي ليلى لولدِه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو قاضي الكوفة إمام مشهور في الفقه، صاحب مذهب وقول. وإذا أطلق المحدِّثون ابن أبي ليلى فإنَّما يعنون أباه، وإذا أطلق الفقهاء ابن أبي ليلى فإنَّما يعنون محمداً. ووُلد محمد هذا سنة 74. ومات سنة 148، وتفقَّه بالشعبي، والحكم بن عُتَيْبة. انتهى

ص: 29

والجمع بين القولين: أنّه بلويّ حالف الأنصار. (1)

وعيّن المحاربيّ عن مالك بن مِغْوَل عن الحكم المكانَ الذي التقيا به، فأخرجه الطّبريّ من طريقه بلفظ " أنّ كعباً قال له وهو يطوف بالبيت ".

قوله: (ألا أُهدي لك هديّة) زاد عبد الله بن عيسى بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن جدّه كما في البخاري " سمعتها من النّبيّ صلى الله عليه وسلم ".

قوله: (إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج علينا) يجوز في " أنّ " الفتح والكسر.

وقال الفاكهانيّ في " شرح العمدة ": في هذا السّياق إضمار تقديره ، فقال عبد الرّحمن: نعم. فقال كعب: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

قلت: وقع ذلك صريحاً في رواية شبّابة وعفّان عن شعبة بلفظ " قلت: بلى. قال. أخرجه الْخِلَعيّ (2) في " فوائده " وفي رواية عبد الله بن عيسى المذكورة ، ولفظه " فقلت: بلى فاهدها لي، فقال.

قوله: (فقلنا: يا رسولَ الله) كذا في معظم الرّوايات عن كعب بن

(1) قال في الإصابة (5/ 448): أطلق أنَّه أنصاري البخاريُّ، وقال: مدني له صحبة. يكنى أبا محمد. ذكره ابن سعد بإسناده، وقيل: كنيته أبو إسحاق بابنه إسحاق. وقيل: أبو عبد اللَّه. وأخرج ابن سعد بسندٍ جيدٍ عن ثابت بن عبيد ، أنَّ يدَ كعب قُطعت في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة. قيل: مات بالمدينة سنة إحدى ، وقيل: اثنتين، وقيل: ثلاث وخمسين. وله خمس، وقيل: سبع وسبعون سنة. انتهى بتجوز.

(2)

هو أبو الحسن علي بن الحسين الموصلي المتوفى. ولد بمصر سنة 405. وتوفي بها سنة 492.

قال ابن خلكان في " وفيات الأعيان "(3/ 318): والخلعي: بكسر الخاء المعجمة وفتح اللام وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى الخلع ، ونسب إليها أبو الحسن المذكور ، لأنَّه كان يبيع بمصر الْخِلَع لأملاك مصر، فاشتهر بذلك وعرف به. انتهى

ص: 30

عُجْرة " قلنا " بصيغة الجمع، وكذا وقع في حديث أبي سعيد عند البخاري، ومثله في حديث أبي بريدة عند أحمد ، وفي حديث طلحة عند النّسائيّ ، وفي حديث أبي هريرة عند الطّبريّ.

ووقع عند أبي داود - بسند حديث الباب - عن حفص بن عمر عن شعبة عن الحكم " قلنا أو قالوا: يا رسولَ الله " بالشّكّ.

والمراد الصّحابة أو من حضر منهم، ووقع عند السّرّاج والطّبرانيّ من رواية قيس بن سعد عن الحكم به ، أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا.

وقال الفاكهانيّ: الظّاهر أنّ السّؤال صدر من بعضهم لا من جميعهم ، ففيه التّعبير عن البعض بالكل.

ثمّ قال: ويبعد جدّاً أن يكون كعب هو الذي باشر السّؤال منفرداً فأتى بالنّون التي للتّعظيم، بل لا يجوز ذلك ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله " قولوا "، فلو كان السّائل واحداً لقال له: قل ، ولَم يقل: قولوا. انتهى

ولَم يظهر لي وجه نفي الجواز ، وما المانع أن يسأل الصّحابيّ الواحد عن الحكم فيجيب صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع إشارة إلى اشتراك الكلّ في الحكم.؟

ويؤكّده أنّ في نفس السّؤال " قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نُصلِّي " كلّها بصيغة الجمع فدلَّ على أنّه سأل لنفسه ولغيره فحسن الجواب بصيغة الجمع. لكن الإتيان بنون العظمة في خطاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 31

لا يظنّ بالصّحابيّ.

فإن ثبت أنّ السّائل كان متعدّداً فواضح، وإن ثبت أنّه كان واحداً ، فالحكمة في الإتيان بصيغة الجمع الإشارة إلى أنّ السّؤال لا يختصّ به ، بل يريد نفسه ومن يوافقه على ذلك، فحمله على ظاهره من الجمع هو المعتمد.

على أنّ الذي نفاه الفاكهانيّ قد ورد في بعض الطّرق.

فعند الطّبريّ من طريق الأجلح عن الحكم بلفظ " قمت إليه فقلت: السّلام عليك قد عرفناه، فكيف الصّلاة عليك يا رسولَ الله؟ قال: قل اللهمّ صلِّ على محمّد. الحديث.

وقد وقفت من تعيين من باشر السّؤال على جماعة وهم:

كعب بن عُجْرة وبشير بن سعد - والد النّعمان - وزيد بن خارجة الأنصاريّ وطلحة بن عبيد الله وأبو هريرة وعبد الرّحمن بن بشير.

أمّا كعب: فوقع عند الطّبرانيّ من رواية محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن الحكم بهذا السّند بلفظ: قلت: يا رسولَ الله قد علمنا.

وأمّا بشير: ففي حديث أبي مسعود عند مالك ومسلم وغيرهما ، أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نُصلِّي عليك. الحديث

وأمّا زيد بن خارجة: فأخرج النّسائيّ من حديثه قال: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلّوا عليّ واجتهدوا في الدّعاء ، وقولوا: اللهمّ صلِّ على محمّد " الحديث. وأخرج الطّبريّ من حديث طلحة قال:

ص: 32

قلت: يا رسولَ الله كيف الصّلاة عليك؟ ومخرج حديثهما واحد.

وأمّا حديث أبي هريرة: فأخرج الشّافعيّ من حديثه أنّه قال: يا رسولَ الله كيف نُصلِّي عليك؟.

وأمّا حديث عبد الرّحمن بن بشير: فأخرجه إسماعيل القاضي في كتاب " فضل الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم " قال: قلت ، أو قيل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم. هكذا عنده على الشّكّ، وأبهم أبو عوانة في " صحيحه " من رواية الأجلح وحمزة الزّيّات عن الحكم السّائلَ. ولفظه " جاء رجلٌ فقال: يا رسولَ الله قد علِمنا.

ووقع لهذا السّؤال سبب. أخرجه البيهقيّ والخلعيّ من طريق الحسن بن محمّد بن الصّباح الزّعفرانيّ حدّثنا إسماعيل بن زكريّا عن الأعمش ومسعر ومالك بن مِغْوَل عن الحكم عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عُجْرة ، قال: لَمّا نزلت (إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ) الآية. قلنا: يا رسولَ الله، قد علِمنا. الحديث.

وقد أخرج مسلم هذا الحديث عن محمّد بن بكّار عن إسماعيل بن زكريّا ، ولَم يسق لفظه ، بل أحال به على ما قبله فهو على شرطه، وأخرجه السّرّاج من طريق مالك بن مِغْوَل وحده كذلك.

وأخرج أحمد والبيهقيّ وإسماعيل القاضي من طريق يزيد بن أبي زياد ، والطّبرانيّ من طريق محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى ، والطّبريّ من طريق الأجلح ، والسّرّاج من طريق سفيان وزائدة فرّقهما، وأبو عوانة في " صحيحه " من طريق الأجلح وحمزة الزّيّات كلّهم عن

ص: 33

الحكم مثله، وأخرج أبو عوانة أيضاً من طريق مجاهد عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى مثله.

وفي حديث طلحة عند الطّبريّ: أتى رجلٌ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت الله يقول (إنّ الله وملائكته) الآية. فكيف الصّلاة عليك؟.

قوله: (قد عَلِمنا) المشهور في الرّواية بفتح أوّله وكسر اللام مخفّفاً، وجوّز بعضهم ضمّ أوّله والتّشديد على البناء للمجهول.

ووقع في رواية ابن عيينة عن يزيد بن أبي زياد وبالشّكّ. ولفظه " قلنا قد علمناه أو علمنا " روّيناه في " الخليعات " وكذا أخرج السّرّاج من طريق مالك بن مِغْوَل عن الحكم بلفظ " علمنا أو علمناه ".

ووقع في رواية حفص بن عمر المذكورة " أمرتنا أن نُصلِّي عليك، وأن نسلم عليك، فأمّا السّلام فقد عرفناه "، وفي ضبط " عرفناه " ما تقدّم في " علمناه " وأراد بقوله " أمرتنا " أي: بلغتنا عن الله تعالى أنّه أمر بذلك.

ووقع في حديث أبي مسعود " أمرنا الله " ، وفي رواية عبد الله بن عيسى عند البخاري " كيف الصّلاة عليكم أهل البيت ، فإنّ الله قد علمنا كيف نسلِّم " أي: علمنا الله كيفيّة السّلام عليك على لسانك وبواسطة بيانك.

وأمّا إتيانه بصيغة الجمع في قوله " عليكم " فقد بيّن مراده بقوله، أهل البيت، لأنّه لو اقتصر عليها لاحتمل أن يريد بها التّعظيم، وبها تحصل مطابقة الجواب للسّؤال حيث قال " على محمّد وعلى آل

ص: 34

محمّد ".

وبهذا يستغنى عن قول مَن قال: في الجواب زيادة على السّؤال ، لأنّ السّؤال وقع عن كيفيّة الصّلاة عليه ، فوقع الجواب عن ذلك بزيادة كيفيّة الصّلاة على آله.

قوله: (كيف نسلم عليك؟) قال البيهقيّ: فيه إشارة إلى السّلام الذي في التّشهّد وهو قول " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته " فيكون المراد بقولهم " فكيف نُصلِّي عليك " أي: بعد التّشهّد. انتهى.

وتفسير السّلام بذلك هو الظّاهر.

وحكى ابن عبد البرّ فيه احتمالاً، وهو أنّ المراد به السّلام الذي يتحلَّل به من الصّلاة ، وقال: إنّ الأوّل أظهر، وكذا ذكر عياض وغيره.

وردّ بعضهم الاحتمال المذكور: بأنّ سلام التّحلّل لا يتقيّد به اتّفاقاً.

كذا قيل، وفي نقل الاتّفاق نظرٌ، فقد جزم جماعة من المالكيّة بأنّه يستحبّ للمصلي أن يقول عند سلام التّحلّل، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته السّلام عليكم، ذكره عياض ، وقبله ابن أبي زيد وغيره.

قوله: (فكيف نُصلِّي عليك؟) زاد أبو مسعود في حديثه عند مسلم، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى تمنّينا أنّه لَم يسأله. وإنّما تمنّوا ذلك

ص: 35

خشية أن يكون لَم يعجبه السّؤال المذكور لِمَا تقرّر عندهم من النّهي عن ذلك، لقوله تعالى (لا تسألوا عن أشياء)، ووقع عند الطّبريّ من وجه آخر في هذا الحديث، فسكتَ حتّى جاءه الوحي فقال: تقولون.

واختلف في المراد بقولهم " كيف ".

فقيل: المراد السّؤال عن معنى الصّلاة المأمور بها بأيّ لفظ يؤدّى.

وقيل: عن صفتها، قال عياض: لَمّا كان لفظ الصّلاة المأمور بها في قوله تعالى (صلّوا عليه) يحتمل الرّحمة والدّعاء والتّعظيم ، سألوا بأيّ لفظ تؤدّى؟ هكذا قال بعض المشايخ.

ورجّح الباجيّ أنّ السّؤال إنّما وقع عن صفتها لا عن جنسها، وهو أظهر لأنّ لفظ " كيف " ظاهر في الصّفة، وأمّا الجنس فيسأل عنه بلفظ " ما ".

وبه جزم القرطبيّ فقال: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفيّة ما فهم أصله، وذلك أنّهم عرفوا المراد بالصّلاة فسألوا عن الصّفة التي تليق بها ليستعملوها. انتهى

والحامل لهم على ذلك ، أنّ السّلام لَمّا تقدّم بلفظٍ مخصوص وهو " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته " ، فهموا منه أنّ الصّلاة أيضاً تقع بلفظٍ مخصوص، وعدلوا عن القياس لإمكان الوقوف على النّصّ ، ولا سيّما في ألفاظ الأذكار فإنّها تجيء خارجة عن القياس غالباً، فوقع الأمر كما فهموا ، فإنّه لَم يقل لهم قولوا: الصّلاة عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته ، ولا قولوا: الصّلاة والسّلام عليك

ص: 36

إلخ. بل علمهم صيغة أخرى.

قوله: (قال: قولوا اللهمّ) هذه كلمة كثر استعمالها في الدّعاء ، وهو بمعنى يا الله، والميم عوض عن حرف النّداء ، فلا يقال: اللهمّ غفور رحيم مثلاً ، وإنّما يقال: اللهمّ اغفر لي وارحمني، ولا يدخلها حرف النّداء إلَاّ في نادر كقول الرّاجز:

إنّي إذا ما حادث ألَمَّا

أقول يا اللهمّ يا اللهمّا.

واختصّ هذا الاسم بقطع الهمزة عند النّداء ، ووجوب تفخيم لامه ، وبدخول حرف النّداء عليه مع التّعريف.

وذهب الفرّاء ومن تبعه من الكوفيّين ، إلى أنّ أصله يا الله وحذف حرف النّداء تخفيفاً والميم مأخوذ من جملة محذوفة مثل أمّنا بخيرٍ.

وقيل: بل زائدة كما في زرقم للشّديد الزّرقة، وزيدت في الاسم العظيم تفخيماً.

وقيل: بل هو كالواو الدّالة على الجمع كأنّ الدّاعي قال: يا من اجتمعت له الأسماء الحسنى، ولذلك شدّدت الميم لتكون عوضاً عن علامة الجمع.

وقد جاء عن الحسن البصريّ: اللهمّ مجتمع الدّعاء، وعن النّضر بن شميلٍ: مَن قال اللهمّ ، فقد سأل الله بجميع أسمائه.

قوله: (صلِّ على محمّد) أخرج ابن أبي حاتم ، وذكره البخاري مُعلقاً من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية: أنّ معنى صلاة الله على نبيّه ثناؤه عليه عند ملائكته، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدّعاء

ص: 37

له.

وعند ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبّان قال: صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار. وعن ابن عبّاس ، أنّ معنى صلاة الرّبّ الرّحمة وصلاة الملائكة الاستغفار.

وقال الضّحّاك بن مزاحم: صلاة الله رحمته " وفي رواية عنه " مغفرته، وصلاة الملائكة الدّعاء " أخرجهما إسماعيل القاضي عنه، وكأنّه يريد الدّعاء بالمغفرة ونحوها.

وقال المبرّد: الصّلاة من الله الرّحمة. ومن الملائكة رقّة تبعث على استدعاء الرّحمة.

وتعقّب: بأنّ الله غاير بين الصّلاة والرّحمة في قوله (أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة) ، وكذلك فهِم الصّحابة المغايرة من قوله تعالى (صلّوا عليه وسلموا) حتّى سألوا عن كيفيّة الصّلاة مع تقدّم ذكر الرّحمة في تعليم السّلام حيث جاء بلفظ " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته " وأقرّهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الصّلاة بمعنى الرّحمة لقال لهم: قد علِمتم ذلك في السّلام.

وجوّز الحليميّ: أن تكون الصّلاة بمعنى السّلام عليه.

وفيه نظرٌ ، وحديث الباب يردّ على ذلك.

وأولى الأقوال ما تقدّم عن أبي العالية ، أنّ معنى صلاة الله على نبيّه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى ، والمراد طلب الزّيادة لا طلب أصل الصّلاة.

ص: 38

وقيل: صلاة الله على خلقه تكون خاصّة وتكون عامّة ، فصلاته على أنبيائه هي ما تقدّم من الثّناء والتّعظيم، وصلاته على غيرهم الرّحمة فهي التي وسعت كلّ شيء.

ونقل عياض عن بكر القشيريّ. قال: الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الله تشريف وزيادة تكرمة ، وعلى من دون النّبيّ رحمة.

وبهذا التّقرير يظهر الفرق بين النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى (إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ) وقال قبل ذلك في السّورة المذكورة (هو الذي يُصلِّي عليكم وملائكته) ، ومن المعلوم أنّ القدر الذي يليق بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع ممّا يليق بغيره. والإجماع منعقد على أنّ في هذه الآية من تعظيم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، والتّنويه به ما ليس في غيرها.

وقال الحليميّ في " الشّعب ": معنى الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهمّ صلِّ على محمّد عظّم محمّداً. والمراد تعظيمه في الدّنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمّته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى (صلّوا عليه) ادعوا ربّكم بالصّلاة عليه. انتهى.

ولا يعكّر عليه عطف آله وأزواجه وذرّيّته عليه فإنّه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتّعظيم، إذ تعظيم كلّ أحد بحسب ما يليق به.

وما تقدّم عن أبي العالية أظهر، فإنّه يحصل به استعمال لفظ الصّلاة بالنّسبة إلى الله وإلى ملائكته وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنىً

ص: 39

واحد.

ويؤيّده أنّه لا خلاف في جواز التّرحّم على غير الأنبياء، واختلف في جواز الصّلاة على غير الأنبياء، (1) ولو كان معنى قولنا: اللهمّ صلِّ على محمّد اللهمّ ارحم محمّداً أو ترحّم على محمّد لجاز لغير الأنبياء، وكذا لو كانت بمعنى البركة وكذا الرّحمة لسقط الوجوب في التّشهّد عند من يوجبه بقول المُصلِّي في التّشهّد " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته ".

ويمكن الانفصال: بأنّ ذلك وقع بطريق التّعبّد. فلا بدّ من الإتيان به ولو سبق الإتيان بما يدلّ عليه.

قوله: (على محمّد وعلى آل محمّد) كذا وقع في الموضعين في قوله " صلِّ " وفي قوله " وبارك "، ولكن وقع في الثّاني " وبارك على آل إبراهيم ".

ووقع عند البيهقيّ من وجه آخر عن آدم - شيخ البخاريّ فيه - " على إبراهيم " ولَم يقل على آل إبراهيم.

وأخذ البيضاويّ من هذا ، أنّ ذكر الآل في رواية الأصل مقحمٌ كقوله: على آل أبي أوفى. (2)

(1) أفاض الشارح رحمه الله. في ذكر الخلاف في هذه المسألة بأدلّتها في فتح الباري (11/ 202) كتاب الدعوات. باب 33: هل يُصلّى على غير النبي صلى الله عليه وسلم. فانظره.

(2)

أخرجه البخاري (1497) ومسلم (1078) عن عبد الله بن أبى أوفى ، قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم ، قال: اللهم صلِّ على آل فلان. فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهمَّ صل على آل أبى أوفى.

قال ابن حجر في " الفتح "(3/ 361): قوله (على آل أبي أوفى) يريد أبا أوفى نفسَه ، لأنَّ الآل يطلق على ذات الشيء كقوله في قصة أبي موسى: لقد أُوتي مزماراً من مزامير آل داود ، وقيل: لا يقال ذلك إلَاّ في حق الرجل الجليل القدر. انتهى

ص: 40

قلت: والحقّ أنّ ذكر محمّد وإبراهيم وذكر آل محمّد وآل إبراهيم ثابتٌ في أصل الخبر. وإنّما حفظ بعض الرّواة ما لَم يحفظ الآخر، وسأبيّن من ساقه تامّاً بعد قليل.

وشرح الطّيبيّ على ما وقع في رواية البخاريّ هنا. فقال: هذا اللفظ يساعد قول مَن قال: إنّ معنى قول الصّحابيّ: علمنا كيف السّلام عليك. أي: في قوله تعالى (يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلَّموا تسليماً) فكيف نُصلِّي عليك؟ أي: على أهل بيتك؛ لأنّ الصّلاة عليه قد عرفت مع السّلام من الآية.

قال: فكان السّؤال عن الصّلاة على الآل تشريفاً لهم. وقد ذكر محمّد في الجواب لقوله تعالى (لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله). وفائدته الدّلالة على الاختصاص.

قال: وإنّما ترك ذكر إبراهيم لينبّه على هذه النّكتة، ولو ذكر لَم يفهم أنّ ذكر محمّد على سبيل التّمهيد. انتهى.

ولا يخفى ضعف ما قال.

ووقع في حديث أبي مسعود عند أبي داود والنّسائيّ " على محمّد النّبيّ الأمّيّ " وفي حديث أبي سعيد عند البخاري " على محمّد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم " ، ولَم يذكر آل محمّد ولا آل

ص: 41

إبراهيم، وهذا إن لَم يحمل على ما قلتُه إنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ الآخر ، والأظهر فساد ما بحثه الطّيبيّ.

وفي حديث أبي حميد في البخاري " على محمّد وأزواجه وذرّيّته " ، ولَم يذكر الآل في الصّحيح، ووقعت في رواية ابن ماجه.

وعند أبي داود من حديث أبي هريرة " اللهمّ صلِّ على محمّد النّبيّ وأزواجه أمّهات المؤمنين وذرّيّته وأهل بيته " وأخرجه النّسائيّ من الوجه الذي أخرجه منه أبو داود. ولكن وقع في السّند اختلاف بين موسى بن إسماعيل - شيخ أبي داود فيه - وبين عمرو بن عاصم شيخ شيخ النّسائيّ فيه.

فروياه معاً عن حِبّان بن يسار - وهو بكسر المهملة وتشديد الموحّدة - وأبوه بمثنّاةٍ ومهملة خفيفة - فوقع في رواية موسى عنه عن عبيد الله بن طلحة عن محمّد بن عليّ عن نعيم المجمر عن أبي هريرة، وفي رواية عمرو بن عاصم عنه عن عبد الرّحمن بن طلحة عن محمّد بن عليّ عن محمّد بن الحنفيّة عن أبيه عليّ بن أبي طالب.

ورواية موسى أرجح. ويحتمل: أن يكون لِحِبّان فيه سندان.

ووقع في حديث أبي مسعود وحده في آخره " في العالمين إنّك حميد مجيد " ، ومثله في رواية داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة. عند السّرّاج.

قال النّوويّ في " شرح المهذّب ": ينبغي أن يُجمع ما في الأحاديث الصّحيحة ، فيقول: اللهمّ صلِّ على محمّد النّبيّ الأمّيّ ، وعلى آل

ص: 42

محمّد وأزواجه وذرّيّته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك " مثله وزاد في آخره " في العالمين ".

وقال في " الأذكار " مثله وزاد: عبدك ورسولك. بعد قوله محمّد في محلٍّ. ولَم يزدها في بارك.

وقال في " التّحقيق " و " الفتاوى ": مثله إلَاّ أنّه أسقط النّبيّ الأمّيّ في وبارك.

وفاته أشياء لعلها توازي قدر ما زاده أو تزيد عليه.

منها قوله " أمّهات المؤمنين " بعد قوله أزواجه ، ومنها " وأهل بيته " بعد قوله وذرّيّته، وقد وردت في حديث ابن مسعود عند الدّارقطنيّ، ومنها " ورسولك " في وبارك، ومنها " في العالمين " في الأوّل، ومنها " إنّك حميد مجيد " قبل وبارك، ومنها " اللهمّ " قبل وبارك. فإنّهما ثبتا معاً في رواية للنّسائيّ، ومنها " وترحّم على محمّد إلخ " وسيأتي البحث فيها بعدُ.

ومنها في آخر التّشهّد " وعلينا معهم " ، وهي عند التّرمذيّ من طريق أبي أسامة عن زائدة بن قدامة عن الأعمش عن الحكم نحو حديث الباب، قال في آخره: قال عبد الرّحمن: ونحن نقول: وعلينا معهم "، وكذا أخرجها السّرّاج من طريق زائدة.

وتعقّب ابن العربيّ هذه الزّيادةَ ، قال: هذا شيء انفرد به زائدة فلا يعوّل عليه، فإنّ النّاس اختلفوا في معنى الآل اختلافاً كثيراً ، ومن جملته أنّهم أمّته فلا يبقى للتّكرار فائدة، واختلفوا أيضاً في جواز

ص: 43

الصّلاة على غير الأنبياء فلا نرى أن نشرك في هذه الخصوصيّة مع محمّد وآله أحداً.

وتعقّبه شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": بأنّ زائدةَ مِن الأثبات فانفراده لو انفرد لا يضرّ مع كونه لَم ينفرد، فقد أخرجها إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصّلاة من طريقين عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى ، ويزيد استشهد به مسلم.

وعند البيهقيّ في " الشّعب " من حديث جابر نحو حديث الباب وفي آخره " وعلينا معهم ".

وأمّا الإيراد الأوّل: فإنّه يختصّ بمن يرى أنّ معنى الآل كلّ الأمّة، ومع ذلك فلا يمتنع أن يعطف الخاصّ على العامّ. ولا سيّما في الدّعاء.

وأمّا الإيراد الثّاني: فلا نعلم من منع ذلك تبعاً، وإنّما الخلاف في الصّلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وقد شرع الدّعاء للآحاد بما دعاه به النّبيّ صلى الله عليه وسلم لنفسه في حديث " اللهمّ إنّي أسألك من خير ما سألك منه محمّد " وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (1). انتهى ملخّصاً.

(1) لَم يُخرِّجه مسلم في صحيحه ، وإنما أخرجه الإمام أحمد (6/ 134) وابن ماجه (3846) وابن حبان (3846) والحاكم (1/ 521) من طريق جبر بن حبيب عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمها هذا الدعاء: اللهمَّ إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمتُ منه وما لَم أعلم ، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعوذ .. " الحديث. وصحَّحه الحاكم.

وله شاهد نحوه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أخرجه الترمذي (3521) وقال: حديث حسن غريب.

وفي صحيح مسلم (2716) عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: سألتُ عائشة عمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به الله. قالت: كان يقول: اللهمَّ إني أعوذ بك من شرّ ما عملت ومن شرّ ما لَم أعمل.

لعلَّ هذا هو مراد الحافظ أبي الفضل العراقي شيخ ابن حجر رحمهما الله.

ص: 44

وحديث جابر ضعيف. ورواية يزيد أخرجها أحمد أيضاً عن محمّد بن فضيلٍ عنه وزاد في آخره: قال يزيد: فلا أدري. أشيء زاده عبد الرّحمن من قبل نفسه ، أو رواه عن كعب، وكذا أخرجه الطّبريّ من رواية محمّد بن فضيلٍ.

ووردت هذه الزّيادة من وجهين آخرين مرفوعين:

أحدهما: عند الطّبرانيّ من طريق فطر بن خليفة عن الحكم بلفظ: يقولون اللهمّ صلِّ على محمّد إلى قوله. وآل إبراهيم وصل علينا معهم، وبارك على محمّد مثله، وفي آخره وبارك علينا معهم " ورواته موثّقون ، لكنّه فيما أحسب مدرجٌ لِمَا بيّنه زائدة عن الأعمش.

ثانيهما: عند الدّارقطنيّ من وجه آخر عن ابن مسعود مثله ، لكن قال: اللهمّ بدل الواو في وصل وفي وبارك، وفيه عبد الوهّاب بن مجاهد. وهو ضعيف

وقد تعقّب الإسنويّ ما قاله النّوويّ. فقال: لَم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه.

وقال الأذرعيّ: لَم يُسبق إلى ما قال. والذي يظهر أنّ الأفضل لمن تشهّد أن يأتي بأكمل الرّوايات ويقول كلّ ما ثبت هذا مرّة وهذا مرّة، وأمّا التّلفيق فإنّه يستلزم إحداث صفةٍ في التّشهّد لَم ترد مجموعة في

ص: 45

حديث واحد. انتهى.

وكأنّه أخذه من كلام ابن القيّم فإنّه قال: إنّ هذه الكيفيّة لَم ترد مجموعة في طريق من الطّرق، والأولى أن يستعمل كلّ لفظ ثبت على حدة فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد ، بخلاف ما إذا قال الجميع دفعة واحدة ، فإنّ الغالب على الظّنّ أنّه صلى الله عليه وسلم لَم يقله كذلك.

وقال الإسنويّ أيضاً: كان يلزم الشّيخ أن يجمع الألفاظ الواردة في التّشهّد.

وأجيب: بأنّه لا يلزم من كونه لَم يصرّح بذلك أن لا يلتزمه.

وقال ابن القيّم أيضاً: قد نصّ الشّافعيّ على أنّ الاختلاف في ألفاظ التّشهّد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولَم يقل أحد من الأئمّة باستحباب التّلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن ، وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التّعليم للتّمرين. انتهى.

والذي يظهر أنّ اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواء كما في أزواجه وأمّهات المؤمنين ، فالأولى الاقتصار في كلّ مرّة على أحدهما وإن كان اللفظ يستقلّ بزيادة معنىً ليس في اللفظ الآخر البتّة، فالأولى الإتيان به.

ويحتمل: على أنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ الآخر كما تقدّم، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئاً ما فلا بأس بالإتيان به احتياطاً.

ص: 46

وقالت طائفة منهم الطّبريّ: إنّ ذلك من الاختلاف المباح، فأيّ لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه.

واستدل على ذلك باختلاف النّقل عن الصّحابة. فذكر ما نقل عن عليّ، وهو حديث موقوف طويل. أخرجه سعيد بن منصور والطّبريّ والطّبرانيّ وابن فارس. وأوّله " اللهمّ داحي المدحوّات. إلى أن قال: اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحيّتك على محمّد عبدك ورسولك " الحديث.

وعن ابن مسعود بلفظ " اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيّد المرسلين إمام المتّقين وخاتم النّبيّين محمّد عبدك ورسولك " الحديث أخرجه ابن ماجه والطّبريّ.

وادّعى ابن القيّم: أنّ أكثر الأحاديث بل كلّها مصرّحة بذكر محمّد وآل محمّد وبذكر آل إبراهيم فقط. أو بذكر إبراهيم فقط.

قال: ولَم يجيء في حديث صحيح بلفظ إبراهيم وآل إبراهيم معاً ، إنّما أخرجه البيهقيّ من طريق يحيى بن السّبّاق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود، ويحيى مجهول وشيخه مبهم فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قويّ ، لكنّه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النّسائيّ والدّارقطنيّ من حديث طلحة.

قلت: وغفل عمّا وقع في صحيح البخاريّ في " أحاديث الأنبياء " في ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى بلفظ " كما صليت على

ص: 47

إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد " وكذا في قوله " كما باركت ".

وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدريّ من رواية محمّد بن إسحاق عن محمّد بن إبراهيم عن محمّد بن عبد الله بن زيد عنه. أخرجه الطّبريّ، بل أخرجه الطّبريّ أيضاً في رواية الحكم عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى. أخرجه من طريق عمرو بن قيس عن الحكم بن عتيبة فذكره بلفظ " على محمّد وآل محمّد إنّك حميد مجيد " وبلفظ " على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد " وأخرجه أيضاً من طريق الأجلح عن الحكم مثله سواء.

وأخرج أيضاً من طريق حنظلة ابن عليّ عن أبي هريرة ما سأذكره. وأخرجه أبو العبّاس السّرّاج من طريق داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة ، أنّهم قالوا: يا رسولَ الله كيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وبارك على محمّد ، وعلى آل محمّد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد.

ومن حديث بريدة رفعه " اللهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم " وأصله عند أحمد.

ووقع في حديث ابن مسعود المشار إليه زيادة أخرى وهي " وارحم محمّداً وآل محمّد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم " الحديث

ص: 48

، وأخرجه الحاكم في " صحيحه " من حديث ابن مسعود ، فاغترّ بتصحيحه قوم فوهموا، فإنّه من رواية يحيى بن السّبّاق - وهو مجهول - عن رجل مبهم.

نعم. أخرج ابن ماجه ذلك عن ابن مسعود من قوله " قال قولوا: اللهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمّد عبدك ورسولك " الحديث.

وبالغ ابن العربيّ في إنكار ذلك فقال: حذار ممّا ذكره ابن أبي زيد من زيادة " وترحّم " فإنّه قريب من البدعة ، لأنّه صلى الله عليه وسلم علمهم كيفيّة الصّلاة عليه بالوحي. ففي الزّيادة على ذلك استدراك عليه. انتهى.

وابن أبي زيد ذكر ذلك في صفة التّشهّد في " الرّسالة " لَمّا ذكر ما يستحبّ في التّشهّد ومنه " اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد " فزاد " وترحّم على محمّد وآل محمّد، وبارك على محمّد وآل محمّد إلخ ". فإن كان إنكاره لكونه لَم يصحّ فمسلَّمٌ، وإلا فدعوى من ادّعى أنّه لا يقال ارحم محمّداً مردودة لثبوت ذلك في عدّة أحاديث أصحّها في التّشهّد " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته ".

ثمّ وجدت لابن أبي زيد مستنداً، فأخرج الطّبريّ في تهذيبه من طريق حنظلة بن عليّ عن أبي هريرة رفعه: مَن قال اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحّم على محمّد وعلى آل محمّد كما ترحّمت على إبراهيم وعلى آل

ص: 49

إبراهيم ، شهدت له يوم القيامة وشفعت له.

ورجال سنده رجال الصّحيح إلَاّ سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاص الرّاوي له عن حنظلة بن عليّ فإنّه مجهول.

تنبيه: هذا كلّه فيما يقال مضموماً إلى السّلام أو الصّلاة.

وقد وافق ابن العربيُّ الصّيدلانيَّ من الشّافعيّة على المنع، وقال أبو القاسم الأنصاريّ شارح " الإرشاد ": يجوز ذلك مضافاً إلى الصّلاة ، ولا يجوز مفرداً.

ونقل عياض عن الجمهور الجواز مطلقاً.

وقال القرطبيّ في " المفهم ": إنّه الصّحيح لورود الأحاديث به.

وخالفه غيره: ففي " الذّخيرة " من كتب الحنفيّة عن محمّد: يكره ذلك لإيهامه النّقص ، لأنّ الرّحمة غالباً إنّما تكون عن فعل ما يلام عليه.

وجزم ابن عبد البرّ بمنعه ، فقال: لا يجوز لأحدٍ إذا ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول: رحمه الله ، لأنّه قال من صلَّى عليّ، ولَم يقل من ترحّم عليّ ، ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصّلاة الرّحمة، ولكنّه خصّ هذا اللفظ تعظيماً له فلا يعدل عنه إلى غيره، ويؤيّده قوله تعالى (لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) انتهى.

وهو بحث حسن ، لكن في التّعليل الأوّل نظرٌ، والمعتمد الثّاني، والله أعلم.

قوله: (وعلى آل محمّد) قيل: أصل " آل " أهل ، قلبت الهاء همزة

ص: 50

ثمّ سهّلت ولهذا إذا صغّر ردّ إلى الأصل فقالوا: أهيل.

وقيل: بل أصله أول من آل إذا رجع، سُمِّي بذلك من يئول إلى الشّخص ويضاف إليه، ويقوّيه أنّه لا يضاف إلَاّ إلى معظّم ، فيقال: آل القاضي ، ولا يقال: آل الحجّام بخلاف أهل، ولا يضاف آل أيضاً غالباً إلى غير العاقل ولا إلى المضمر عند الأكثر، وجوّزه بعضهم بقلةٍ، وقد ثبت في شعر عبد المطّلب في قوله في قصّة أصحاب الفيل من أبيات:

وانصر على آل الصّليب وعابديه اليوم آلك.

وقد يطلق آل فلان على نفسه وعليه وعلى من يضاف إليه جميعاً.

وضابطه أنّه إذا قيل: فعل آل فلان كذا ، دخل هو فيهم إلَاّ بقرينةٍ، ومن شواهده قوله صلى الله عليه وسلم للحسن بن عليّ: إنّا آل محمّد لا تحلّ لنا الصّدقة (1). وإن ذكرا معاً فلا، وهو كالفقير والمسكين، وكذا الإيمان والإسلام والفسوق والعصيان.

ولَمّا اختلفت ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معاً وفي إفراد أحدهما ، كان أولى المحامل أن يحمل على أنّه صلى الله عليه وسلم قال ذلك كلّه، ويكون بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ الآخر.

وأمّا التّعدّد فبعيد ، لأنّ غالب الطّرق تصرّح بأنّه وقع جواباً عن قولهم " كيف نُصلِّي عليك "، ويحتمل: أن يكون بعض من اقتصر

(1) أخرجه البخاري (1485) ومسلم (1069) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. واللفظ لمسلم.

ص: 51

على آل إبراهيم بدون ذكر إبراهيم ، رواه بالمعنى بناء على دخول إبراهيم في قوله " آل إبراهيم " كما تقدّم.

واختلف في المراد بآل محمّد في هذا الحديث.

القول الأول: الرّاجح أنّهم من حرّمت عليهم الصّدقة، وهذا نصّ عليه الشّافعيّ واختاره الجمهور.

ويؤيّده. قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للحسن بن عليّ: إنّا آل محمّد لا تحلّ لنا الصّدقة " وقد تقدّم من حديث أبي هريرة، ولمسلمٍ من حديث عبد المطّلب بن ربيعة في أثناء حديث مرفوع " إنّ هذه الصّدقة إنّما هي أوساخ النّاس ، وإنّها لا تحلّ لمحمّدٍ ، ولا لآلِ محمّد ".

القول الثاني: قال أحمد: المراد بآل محمّد في حديث التّشهّد أهل بيته.

وعلى هذا فهل يجوز أن يقال: أهل عِوَض آل؟ روايتان عندهم.

القول الثالث: المراد بآل محمّد أزواجه وذرّيّته ، لأنّ أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ " وآل محمّد " وجاء في حديث أبي حميدٍ موضعه " وأزواجه وذرّيّته " فدلَّ على أنّ المراد بالآل الأزواج والذّرّيّة.

وتعقّب: بأنّه ثبت الجمع بين الثّلاثة كما في حديث أبي هريرة، فيحمل على أنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ غيره ، فالمراد بالآل في التّشهّد الأزواج ومن حرّمت عليهم الصّدقة ، ويدخل فيهم الذّرّيّة، فبذلك يجمع بين الأحاديث.

وقد أطلق على أزواجه صلى الله عليه وسلم آل محمّد في حديث عائشة: ما شبع آل

ص: 52

محمّد من خبز مأدوم ثلاثاً. أخرجه البخاري، وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة " اللهمّ اجعل رزقَ آلِ محمّدٍ قوتاً " ، وكأنّ الأزواج أفردوا بالذّكر تنويهاً بهم. وكذا الذّرّيّة.

القول الرابع: المراد بالآل ذرّيّة فاطمة خاصّة. حكاه النّوويّ في " شرح المهذّب "

القول الخامس: هم جميع قريش. حكاه ابن الرّفعة في " الكفاية ".

القول السادس: المراد بالآل جميع الأمّة أمّة الإجابة.

وقال ابن العربيّ: مال إلى ذلك مالك. واختاره الأزهريّ ، وحكاه أبو الطّيّب الطّبريّ عن بعض الشّافعيّة ، ورجّحه النّوويّ في شرح مسلم، وقيّده القاضي حسين والرّاغب بالأتقياء منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق.

ويؤيّده قوله تعالى (إنْ أولياؤه إلَاّ المتّقون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنّ أوليائي منكم المتّقون (1).

وفي " نوادر أبي العيناء " إنّه غضّ من بعض الهاشميّين ، فقال له: أتغضّ منّي وأنت تصلّي عليّ في كلّ صلاة في قولك: اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، فقال: إنّي أريد الطّيّبين الطّاهرين ، ولست منهم.

(1) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد "(75) والحاكم في " المستدرك "(2/ 358) وصحَّحه من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه.

وأخرجه أيضاً البخاري (897) من حديث أبي هريرة. وأعلَّه الدارقطني في العلل بالارسال.

ص: 53

ويمكن أن يُحمل كلام من أطلق ، على أنّ المراد بالصّلاة الرّحمة المطلقة فلا تحتاج إلى تقييد.

وقد استدل لهم بحديث أنس رفعه " آل محمّد كلّ تقيّ " أخرجه الطّبرانيّ ، ولكن سنده واهٍ جدّاً، وأخرج البيهقيّ عن جابر نحوه من قوله بسندٍ ضعيف.

قوله: (كما صلَّيت على آل إبراهيم) اشتهر السّؤال عن موقع التّشبيه مع أنّ المقرّر أنّ المشبّه دون المشبّه به، والواقع هنا عكسه. لأنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم وحده أفضل من آل إبراهيم ومن إبراهيم ، ولا سيّما قد أضيف إليه آل محمّد.

وقضيّة كونه أفضل أن تكون الصّلاة المطلوبة أفضل من كلّ صلاة حصلت أو تحصل لغيره، وأجيب عن ذلك بأجوبة:

الجواب الأوّل: أنّه قال ذلك قبل أن يعلم أنّه أفضل من إبراهيم.

وقد أخرج مسلم من حديث أنس ، أنّ رجلاً قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: يا خير البريّة، قال: ذاك إبراهيم. أشار إليه ابن العربيّ ، وأيّده بأنّه سأل لنفسه التّسوية مع إبراهيم وأمر أمّته أن يسألوا له ذلك ، فزاده الله تعالى بغير سؤال أن فضّله على إبراهيم.

وتعقّب: بأنّه لو كان كذلك لغيّر صفة الصّلاة بعد أن علم أنّه أفضل.

الجواب الثّاني: أنّه قال ذلك تواضعاً وشرع ذلك لأمّته ليكتسبوا بذلك الفضيلة.

ص: 54

الجواب الثّالث: أنّ التّشبيه إنّما هو لأصل الصّلاة بأصل الصّلاة ، لا للقدر بالقدر ، فهو كقوله تعالى (إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) وقوله (كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم)، وهو كقول القائل: أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان. ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره، ومنه قوله تعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك).

ورجّح هذا الجوابَ القرطبيّ في " المفهم "

الجواب الرّابع: أنّ الكاف للتّعليل كما في قوله (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم) وفي قوله تعالى (فاذكروه كما هداكم)، وقال بعضهم: الكاف على بابها من التّشبيه ثمّ عدل عنه للإعلام بخصوصيّة المطلوب.

الجواب الخامس: أنّ المراد أن يجعله خليلاً كما جعل إبراهيم، وأن يجعل له لسان صدق كما جعل لإبراهيم مضافاً إلى ما حصل له من المحبّة، ويرِدُ عليه ما ورد على الأوّل.

وقرّبه بعضهم: بأنّه مثل رجلين يملك أحدهما ألفاً ويملك الآخر ألفين ، فسأل صاحب الألفين أن يعطى ألفاً أخرى نظير الذي أعطيها الأوّل ، فيصير المجموع للثّاني أضعاف ما للأوّل.

الجواب السّادس: أنّ قوله " اللهمّ صلِّ على محمّد " مقطوع عن التّشبيه ، فسيكون التّشبيه متعلقاً بقوله " وعلى آل محمّد ".

وتعقّب: بأنّ غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء ، فكيف

ص: 55

تطلب لهم صلاة مثل الصّلاة التي وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله؟.

ويمكن الجواب عن ذلك: بأنّ المطلوب الثّواب الحاصل لهم لا جميع الصّفات التي كانت سبباً للثّواب، وقد نقل العمرانيّ في " البيان " عن الشّيخ أبي حامد أنّه نقل هذا الجواب عن نصّ الشّافعيّ.

واستبعد ابن القيّم صحّة ذلك عن الشّافعيّ ، لأنّه مع فصاحته ومعرفته بلسان العرب لا يقول هذا الكلام الذي يستلزم هذا التّركيب الرّكيك المعيب من كلام العرب.

كذا قال، وليس التّركيب المذكور بركيكٍ ، بل التّقدير: اللهمّ صلِّ على محمّد وصل على آل محمّد كما صليت إلى آخره ، فلا يمتنع تعلّق التّشبيه بالجملة الثّانية.

الجواب السّابع: أنّ التّشبيه إنّما هو للمجموع بالمجموع ، فإنّ في الأنبياء من آل إبراهيم كثرة، فإذا قوبلت تلك الذّوات الكثيرة من إبراهيم وآل إبراهيم بالصّفات الكثيرة التي لمحمّدٍ ، أمكن انتفاء التّفاضل.

قلت: ويعكّر على هذا الجواب ، أنّه وقع في حديث أبي سعيد عند البخاري مقابلة الاسم فقط بالاسم فقط. ولفظه " اللهمّ صلِّ على محمّد كما صليت على إبراهيم ".

الجواب الثّامن: أنّ التّشبيه بالنّظر إلى ما يحصل لمحمّدٍ وآل محمّد من صلاة كلّ فرد فرد، فيحصل من مجموع صلاة المُصلِّين من أوّل التّعليم إلى آخر الزّمان أضعاف ما كان لآل إبراهيم.

ص: 56

وعبّر ابن العربيّ عن هذا بقوله: المراد دوام ذلك واستمراره.

الجواب التّاسع: أنّ التّشبيه راجع إلى المُصلِّي فيما يحصل له من الثّواب. لا بالنّسبة إلى ما يحصل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وهذا ضعيف ، لأنّه يصير كأنّه قال: اللهمّ أعطني ثواباً على صلاتي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما صليت على آل إبراهيم.

ويمكن أن يجاب: بأنّ المراد مثل ثواب المُصلِّي على آل إبراهيم.

الجواب العاشر: دفع المقدّمة المذكورة أوّلاً ، وهي أنّ المشبّه به يكون أرفع من المشبّه، وأنّ ذلك ليس مطّرداً، بل قد يكون التّشبيه بالمثل بل وبالدّون كما في قوله تعال (مثل نوره كمشكاة) ، وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟.

ولكن لَمّا كان المراد من المشبّه به أن يكون شيئاً ظاهراً واضحاً للسّامع حسن تشبيه النّور بالمشكاة، وكذا هنا لَمّا كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصّلاة عليهم مشهوراً واضحاً عند جميع الطّوائف حسن أن يطلب لمحمّدٍ وآل محمّد بالصّلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم.

ويؤيّد ذلك ختم الطّلب المذكور بقوله " في العالمين " أي: كما أظهرت الصّلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، ولهذا لَم يقع قوله " في العالمين " إلَاّ في ذكر آل إبراهيم دون ذكر آل محمّد ، على ما وقع في الحديث الذي ورد فيه ، وهو حديث أبي مسعود فيما أخرجه مالك ومسلم وغيرهما.

ص: 57

وعبّر الطّيبيّ عن ذلك بقوله: ليس التّشبيه المذكور من باب إلحاق النّاقص بالكامل ، بل من باب إلحاق ما لَم يشتهر بما اشتهر.

وقال الْحَلِيميّ: سبب هذا التّشبيه أنّ الملائكة قالت في بيت إبراهيم (رحمةُ الله وبركاته عليكم أهلَ البيت إنّه حميد مجيد)، وقد علم أنّ محمّداً وآل محمّد من أهل بيت إبراهيم فكأنّه قال: أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك في محمّد وآل محمّد كما أجبتها عندما قالوها في آل إبراهيم الموجودين حينئذٍ، ولذلك ختم بما ختمت به الآية ، وهو قوله " إنّك حميد مجيد ".

وقال النّوويّ بعد أن ذكر بعض هذه الأجوبة:

أحسنها ما نُسب إلى الشّافعيّ ، والتّشبيه لأصل الصّلاة بأصل الصّلاة أو للمجموع بالمجموع.

وقال ابن القيّم بعد أن زيّف أكثر الأجوبة إلَاّ تشبيه المجموع بالمجموع:

وأحسن منه أن يقال: هو صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، وقد ثبت ذلك عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) قال: محمّد من آل إبراهيم ، فكأنّه أمرنا أن نُصلِّي على محمّد وعلى آل محمّد خصوصاً بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموماً ، فيحصل لآله ما يليق بهم ويبقى الباقي كلّه له، وذلك القدر أزيد ممّا لغيره من آل إبراهيم قطعاً، ويظهر حينئذٍ فائدة التّشبيه، وأنّ المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من

ص: 58

المطلوب بغيره من الألفاظ.

الجواب الحادي عشر: وجدت في مصنّف لشيخنا مجد الدّين الشّيرازيّ اللّغويّ جواباً آخر نقله عن بعض أهل الكشف ، حاصله أنّ التّشبيه لغير اللفظ المشبّه به لا لعينه، وذلك أنّ المراد بقولنا " اللهمّ صلِّ على محمّد " اجعل من أتباعه من يبلغ النّهاية في أمر الدّين كالعلماء بشرعه بتقريرهم أمر الشّريعة " كما صليت على إبراهيم " بأن جعلت في أتباعه أنبياء يقرّرون الشّريعة.

والمراد بقوله " وعلى آل محمّد " اجعل من أتباعه ناساً محدّثين - بالفتح - يخبرون بالمغيّبات كما صليت على إبراهيم بأن جعلت فيهم أنبياء يخبرون بالمغيّبات. والمطلوب حصول صفات الأنبياء لآل محمّد وهم أتباعه في الدّين كما كانت حاصلة بسؤال إبراهيم.

وهذا محصّل ما ذكره، وهو جيّد إن سلم أنّ المراد بالصّلاة هنا ما ادّعاه، والله أعلم

الجواب الثاني عشر: نحو هذه الدّعوى: المراد. اللهمّ استجب دعاء محمّد في أمّته كما استجبت دعاء إبراهيم في بنيه.

ويعكّر على هذا عطف الآل في الموضعين.

قوله: (على آل إبراهيم) هم ذرّيّته من إسماعيل وإسحاق كما جزم به جماعة من الشّرّاح، وإن ثبت أنّ إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجر فهم داخلون لا محالة.

ثمّ إنّ المراد المسلمون منهم بل المتّقون، فيدخل فيهم الأنبياء

ص: 59

والصّدّيقون والشّهداء والصّالحون دون من عداهم، وفيه ما تقدّم في آل محمّد.

قوله: (وبارك) المراد بالبركة هنا الزّيادة من الخير والكرامة.

وقيل: المراد التّطهير من العيوب والتّزكية.

وقيل: المراد إثبات ذلك واستمراره من قولهم بركت الإبل. أي ثبتت على الأرض، وبه سُمّيت بركة الماء - بكسر أوّله وسكون ثانيه - لإقامة الماء فيها.

والحاصل أنّ المطلوب أن يعطوا من الخير أوفاه، وأن يثبت ذلك ويستمرّ دائماً. والمراد بالعالمين فيما رواه أبو مسعود في حديثه أصناف الخلق.

وفيه أقوال أخرى:

قيل: ما حواه بطن الفلك، وقيل: كلّ محدث، وقيل: ما فيه روح، وقيل: بقيد العقلاء، وقيل: الإنس والجنّ فقط.

قوله: (إنّك حميد مجيد) أمّا الحميد فهو فعيل من الحمد بمعنى محمود، وأبلغ منه. وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها.

وقيل: هو بمعنى الحامد. أي يحمد أفعال عباده.

وأمّا المجيد فهو من المجد. وهو صفة من كمل في الشّرف، وهو مستلزم للعظمة والجلال كما أنّ الحمد يدلّ على صفة الإكرام.

ومناسبة ختم هذا الدّعاء بهذين الاسمين العظيمين.

الأول: أنّ المطلوب تكريم الله لنبيّه وثناؤه عليه والتّنويه به وزيادة

ص: 60

تقريبه، وذلك ممّا يستلزم طلب الحمد والمجد ففي ذلك إشارة إلى أنّهما كالتّعليل للمطلوب.

الثاني: أو هو كالتّذييل له، والمعنى إنّك فاعل ما تستوجب به الحمد من النّعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك.

واستدل بهذا الحديث على إيجاب الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كلّ صلاة لِمَا وقع في هذا الحديث من الزّيادة في بعض الطّرق عن أبي مسعود، وهو ما أخرجه أصحاب السّنن وصحّحه التّرمذيّ وابن خزيمة والحاكم كلّهم من طريق محمّد بن إسحاق عن محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن محمّد بن عبد الله بن زيد عنه بلفظ " فكيف نُصلِّي عليك إذا نحن صلّينا عليك في صلاتنا؟.

وقال الدّارقطنيّ: إسناده حسن متّصل.

وقال البيهقيّ: إسناده حسن صحيح.

وتعقّبه ابن التّركمانيّ: بأنّه قال في " باب تحريم قتل ما له روح " بعد ذكر حديث فيه ابن إسحاق: الحفّاظ يتوقّون ما ينفرد به.

قلت: وهو اعتراض متّجه ، لأنّ هذه الزّيادة تفرّد بها ابن إسحاق، لكن ما ينفرد به. وإن لَم يبلغ درجة الصّحيح فهو في درجة الحسن إذا صرّح بالتّحديث وهو هنا كذلك، وإنّما يصحّح له من لا يفرّق بين الصّحيح والحسن ، ويجعل كلّ ما يصلح للحجّة صحيحاً. وهذه طريقة ابن حبّان ومن ذكر معه.

وقد احتجّ بهذه الزّيادة جماعةٌ من الشّافعيّة كابن خزيمة والبيهقيّ

ص: 61

لإيجاب الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد بعد التّشهّد وقبل السّلام.

وتعقّب: بأنّه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنّما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلَّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد.

وعلى تقدير أن يدلّ على إيجاب أصل الصّلاة فلا يدلّ على هذا المحلّ المخصوص، ولكن قرّب البيهقيّ ذلك بما تقدّم أنّ الآية لَمّا نزلت. وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد علَّمهم كيفيّة السّلام عليه في التّشهّد، والتّشهّد داخل الصّلاة فسألوا عن كيفيّة الصّلاة فعلمهم، فدلَّ على أنّ المراد بذلك إيقاع الصّلاة عليه في التّشهّد بعد الفراغ من التّشهّد الذي تقدّم تعليمه لهم.

وأمّا احتمال أن يكون ذلك خارج الصّلاة فهو بعيدٌ كما قال عياض وغيره.

وقال ابن دقيق العيد: ليس فيه تنصيص على أنّ الأمر به مخصوص بالصّلاة، وقد كثر الاستدلال به على وجوب الصّلاة، وقرّر بعضهم الاستدلال: بأنّ الصّلاة عليه واجبة بالإجماع ، وليست الصّلاة عليه خارج الصّلاة واجبة بالإجماع ، فتعيّن أن تجب في الصّلاة.

قال: وهذا ضعيف؛ لأنّ قوله لا تجب في غير الصّلاة بالإجماع إن أراد به عيناً فهو صحيح ، لكن لا يفيد المطلوب ، لأنّه يفيد أن تجب في أحد الموضعين لا بعينه.

وزعم القرافيّ في " الذّخيرة " أنّ الشّافعيّ هو المستدلّ بذلك، وردّه بنحو ما ردّ به ابن دقيق العيد.

ص: 62

ولَم يصب في نسبة ذلك للشّافعيّ.

والذي قاله الشّافعيّ في " الأمّ ": فرض الله الصّلاة على رسوله بقوله (إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً) فلم يكن فرض الصّلاة عليه في موضع أولى منه في الصّلاة، ووجدنا الدّلالة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك: أخبرنا إبراهيم بن محمّد حدّثني صفوان بن سليمٍ عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن عن أبي هريرة ، أنّه قال: يا رسولَ الله كيف نُصلِّي عليك - يعني في الصّلاة؟ قال: تقولون اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم " الحديث، أخبرنا إبراهيم بن محمّد حدّثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عُجْرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنّه كان يقول في الصّلاة: اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم " الحديث.

قال الشّافعيّ: فلمّا روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم التّشهّد في الصّلاة، وروي عنه أنّه علَّمهم كيف يصلّون عليه في الصّلاة، لَم يجز أن نقول التّشهّد في الصّلاة واجب والصّلاة عليه فيه غير واجبة.

وقد تعقّب بعضُ المخالفين هذا الاستدلال من أوجهٍ:

أحدها: ضعف إبراهيم بن أبي يحيى. والكلام فيه مشهور.

الثّاني: على تقدير صحّته فقوله في الأوّل " يعني في الصّلاة " لَم يصرّح بالقائل. يعني ".

الثّالث: قوله في الثّاني: إنّه كان يقول في الصّلاة " ، وإن كان

ص: 63

ظاهره أنّ الصّلاة المكتوبة ، لكنّه يحتمل أن يكون المراد بقوله في الصّلاة ، أي: في صفة الصّلاة عليه، وهو احتمال قويّ؛ لأنّ أكثر الطّرق عن كعب بن عُجْرة كما قدّم تدلّ على أنّ السّؤال وقع عن صفة الصّلاة لا عن محلها.

الرّابع: ليس في الحديث ما يدلّ على تعيّن ذلك في التّشهّد خصوصاً بينه وبين السّلام من الصّلاة.

وقد أطنب قومٌ في نسبة الشّافعيّ في ذلك إلى الشّذوذ، منهم أبو جعفر الطّبريّ وأبو جعفر الطّحاويّ وأبو بكر بن المنذر والخطّابيّ، وأورد عياض في " الشّفاء " مقالاتهم ، وعاب عليه ذلك غير واحد ، لأنّ موضوع كتابه يقتضي تصويب ما ذهب إليه الشّافعيّ ، لأنّه من جملة تعظيم المصطفى.

وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته ، مع أنّ الأكثر على خلافه ، لكنّه استجاده لِمَا فيه من الزّيادة في تعظيمه.

وانتصر جماعة للشّافعيّ ، فذكروا أدلة نقليّة ونظريّة، ودفعوا دعوى الشّذوذ. فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم.

وأصحّ ما ورد في ذلك عن الصّحابة والتّابعين.

ما أخرجه الحاكم بسندٍ قويٍّ عن ابن مسعود قال: يتشهّد الرّجل ، ثمّ يُصلِّي على النّبيّ ، ثمّ يدعو لنفسه.

وهذا أقوى شيء يحتجّ به للشّافعيّ، فإنّ ابن مسعود ذكر أنّ النّبيّ

ص: 64

- صلى الله عليه وسلم علمهم التّشهّد في الصّلاة. وأنّه قال: ثمّ ليتخيّر من الدّعاء ما شاء. فلمّا ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصّلاة عليه قبل الدّعاء دلَّ على أنّه اطّلع على زيادة ذلك بين التّشهّد والدّعاء، واندفعتْ حجّة من تمسّك بحديث ابن مسعود في دفع ما ذهب إليه الشّافعيّ مثل ما ذكر عياض. قال: وهذا تشهّد ابن مسعود الذي علّمه له النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليس فيه ذكر الصّلاة عليه.

وكذا قول الخطّابيّ إنّ في آخر حديث ابن مسعود " إذا قلتَ هذا فقد قضيتَ صلاتك " ، لكن ردّ عليه بأنّ هذه الزّيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على أنّ مشروعيّة الصّلاة عليه وردت بعد تعليم التّشهّد.

ويتقوّى ذلك بما أخرجه التّرمذيّ عن عمر موقوفاً: الدّعاء موقوف بين السّماء والأرض لا يصعد منه شيء حتّى يُصلِّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال ابن العربيّ: ومثل هذا لا يقال من قِبَل الرّأي. فيكون له حكم الرّفع. انتهى

وورد له شاهد مرفوع في " جزء الحسن بن عرفة " ، وأخرج العمريّ في " عمل يوم وليلة " عن ابن عمر بسندٍ جيّد ، قال: لا تكون صلاة إلَاّ بقراءةٍ وتشهّدٍ وصلاة عليّ.

وأخرج البيهقيّ في " الخلافيّات " بسندٍ قويٍّ عن الشّعبيّ - وهو من كبار التّابعين - قال: من لَم يصلِّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد ، فليعد

ص: 65

صلاته.

وأخرج الطّبريّ بسندٍ صحيح عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير - وهو من كبار التّابعين - قال: كنّا نعلم التّشهّد ، فإذا قال: وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله يحمد ربّه ويثني عليه ثمّ يُصلِّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ يسأل حاجته.

وأمّا فقهاء الأمصار فلم يتّفقوا على مخالفة الشّافعيّ في ذلك بل جاء عن أحمد روايتان، وعن إسحاق الجزم به في العمد ، فقال: إذا تركها يعيد.

والخلاف أيضاً عند المالكيّة ذكرها ابن الحاجب في سنن الصّلاة ، ثمّ قال: على الصّحيح، فقال شارحه ابن عبد السّلام: يريد أنّ في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن الموّاز منهم.

وأمّا الحنفيّة. فألزم بعض شيوخنا مَن قال بوجوب الصّلاة عليه كما ذكر كالطّحاويّ. ونقله السّروجيّ في " شرح الهداية " عن أصحاب " المحيط " و " العقد " و " التّحفة " و " المغيث " من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التّشهّد لتقدّم ذكره في آخر التّشهّد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك ، لكن لا يجعلونه شرطاً في صحّة الصّلاة.

وروى الطّحاويّ ، أنّ حرملة انفرد عن الشّافعيّ بإيجاب ذلك بعد التّشهّد وقبل سلام التّحلّل ، قال: لكنّ أصحابه قبلوا ذلك وانتصروا له وناظروا عليه. انتهى.

واستدل له ابن خزيمة ومن تبعه: بما أخرجه أبو داود والنّسائيّ

ص: 66

والتّرمذيّ وصحّحه، وكذا ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد ، قال: سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لَم يحمد الله ، ولَم يصلِّ على النّبيّ ، فقال: عَجِل هذا، ثمّ دعاه ، فقال: إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه والثّناء عليه ، ثمّ يصلِّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثمّ يدعو بما شاء.

وهذا ممّا يدلّ على أنّ قول ابن مسعود المذكور قريباً مرفوع فإنّه بلفظه.

وقد طعن ابن عبد البرّ في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب ، فقال: لو كان كذلك لأمر المُصلِّي بالإعادة كما أمر المسيء صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم.

وأجيب: باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه ، ويكفي التّمسّك بالأمر في دعوى الوجوب.

وقال جماعة منهم الجرجانيّ من الحنفيّة: لو كانت فرضاً للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنّه علمهم التّشهّد ، وقال " فيتخيّر من الدّعاء ما شاء " ولَم يذكر الصّلاة عليه.

وأجيب: باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذٍ.

وقال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": قد ورد هذا في الصّحيح بلفظ " ثمّ ليتخيّر " و " ثمّ " للتّراخي فدلَّ على أنّه كان هناك شيء بين التّشهّد والدّعاء.

واستدل بعضهم بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة

ص: 67

رفعه: إذا فرغ أحدكم من التّشهّد الأخير ، فليستعذ بالله من أربع. الحديث.

وعلى هذا عوّل ابن حزم في إيجاب هذه الاستعاذة في التّشهّد ، وفي كون الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مستحبّة عقب التّشهّد لا واجبة، وفيه ما فيه، والله أعلم.

وقد انتصر ابن القيّم للشّافعيّ ، فقال: أجمعوا على مشروعيّة الصّلاة عليه في التّشهّد، وإنّما اختلفوا في الوجوب والاستحباب، وفي تمسّك من لَم يوجبه بعمل السّلف الصّالح نظرٌ ، لأنّ عملهم كان بوفاقه، إلَاّ إن كان يريد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأنّ ذلك ليس بواجبٍ وأنّى يوجد ذلك؟.

قال: وأمّا قول عياض: إنّ النّاس شنّعوا على الشّافعيّ. فلا معنى له، فأيّ شناعة في ذلك ، لأنّه لَم يخالف نصّاً ولا إجماعاً ولا قياساً ولا مصلحة راجحة؟. بل القول بذلك من محاسن مذهبه. وأمّا نقله للإجماع فقد تقدّم ردّه.

وأمّا دعواه أنّ الشّافعيّ اختار تشهّد ابن مسعود ، فيدلّ على عدم معرفة باختيارات الشّافعيّ ، فإنّه إنّما اختار تشهّد ابن عبّاس.

وأمّا ما احتجّ به جماعة من الشّافعيّة من الأحاديث المرفوعة الصّريحة في ذلك فإنّها ضعيفة كحديث سهل بن سعد وعائشة وأبي مسعود وبريدة وغيرهم.

وقد استوعبها البيهقيّ في " الخلافيّات " ولا بأس بذكرها للتّقوية

ص: 68

لا أنّها تنهض بالحجّة.

قلت: ولَم أر عن أحد من الصّحابة والتّابعين التّصريحَ بعدم الوجوب إلَاّ ما نقل عن إبراهيم النّخعيّ، ومع ذلك فلفظ المنقول عنه كما تقدّم يشعر بأنّ غيره كان قائلاً بالوجوب ، فإنّه عبّر بالإجزاء.

واستدل بهذا الحديث على تعين هذا اللفظ الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في امتثال الأمر. سواء قلنا بالوجوب مطلقاً أو مقيداً بالصلاة.

وأما تعينه في الصلاة فعن أحمد في رواية، والأصح عند أتباعه لا تجب.

واختلف في الأفضل: فعن أحمد: أكمل ما ورد، وعنه: يتخير، وأما الشافعية فقالوا: يكفي أن يقول " اللهم صل على محمد ".

واختلفوا: هل يكفي الإتيان بما يدل على ذلك. كأن يقوله بلفظ الخبر فيقول: صلى الله على محمد مثلاً.

والأصح إجزاؤه. وذلك أن الدعاء بلفظ الخبر آكد فيكون جائزا بطريق الأولى. ومن منع وقف عند التعبد. وهو الذي رجحه ابن العربي. بل كلامه يدل على أنَّ الثواب الوارد لِمن صلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحصل لمن صلى عليه بالكيفية المذكورة.

واتفق أصحابنا على أنه لا يجزئ أن يقتصر على الخبر. كأن يقول الصلاة على محمد، إذ ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى.

واختلفوا في تعين لفظ محمد، لكن جوزوا الاكتفاء بالوصف دون

ص: 69

الاسم كالنبي ورسول الله ، لأنَّ لفظ محمد وقع التعبد به فلا يجزئ عنه إلَاّ ما كان أعلى منه، ولهذه قالوا لا يجزئ الإتيان بالضمير ولا بأحمد مثلاً في الأصح فيهما مع تَقدُّم ذكره في التشهد بقوله النبي ، وبقوله محمد.

وذهب الجمهور: إلى الاجتزاء بكل لفظ أدى المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

حتى قال بعضهم: ولو قال في أثناء التشهد الصلاة والسلام عليك أيها النبي أجزأ، وكذا لو قال أشهد أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بخلاف ما إذا قدم عبده ورسوله.

وهذا ينبغي أنْ ينبني على أنَّ ترتيب ألفاظ التشهد لا يشترط وهو الأصح، ولكن دليل مقابله قوي لقولهم " كما يعلمنا السورة " وقول ابن مسعود " عدهنَّ في يدي "(1). ورأيتُ لبعض المتأخرين فيه تصنيفاً.

وعمدة الجمهور في الاكتفاء بما ذكر أن الوجوب ثبت بنص القرآن بقوله تعالى (صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً) فلمَّا سأل الصحابةُ عن

(1) أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني "(1582) من طريق أبي إسحاق، قال: أتيتُ الأسود بن يزيد فقلت: إنَّ أبا الأحوص قد زاد في خطبة: الصلوات والمباركات. قال: فأتِه فقل له: إنَّ الأسود ينهاك ، ويقول لك: إنَّ علقمة بن قيس تعلمهنَّ من عبد الله كما يتعلَّم السورة من القرآن ، عدهنَّ عبد الله في يده ، ثم ذكر تشهُّدَ عبد الله.

قلت: وتشهُّد عبدِ الله تقدَّم مرفوعاً برقم (124).

وظاهر كلام الشارح أنَّ العدَّ حصل بيد ابن مسعود رضي الله عنه من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أره مرفوعاً صريحاً. والله أعلم.

ص: 70

الكيفية وعلَّمها لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلف النقل لتلك الألفاظ اقتصر على ما اتفقت عليه الروايات ، وترك ما زاد على ذلك كما في التشهد، إذ لو كان المتروك واجباً لَما سكت عنه انتهى.

وقد استشكل ذلك ابن الفركاح في " الإقليد " فقال: جعلهم هذا هو الأقل يحتاج إلى دليل على الاكتفاء بمسمى الصلاة، فإنَّ الأحاديث الصحيحة ليس فيها الاقتصار، والأحاديث التي فيها الأمر بمطلق الصلاة ليس فيها ما يشير إلى ما يجب من ذلك في الصلاة، وأقل ما وقع في الروايات " اللهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم ".

ومن ثَمَّ حكى الفورانيُّ عن صاحب الفروع في إيجاب ذكر إبراهيم وجهين.

واحتج لمن لم يوجبه بأنه ورد بدون ذكره في حديث زيد بن خارجة عند النسائي بسند قوي ولفظه " صلوا عليَّ وقولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد.

وفيه نظرٌ. لأنه من اختصار بعض الرواة ، فإنَّ النسائيَّ أخرجه من هذا الوجه بتمامه، وكذا الطحاوي.

واختلف في إيجاب الصلاة على الآل. ففي تعينها أيضاً عند الشافعية والحنابلة روايتان، والمشهور عندهم لا، وهو قول الجمهور. وادعى كثير منهم فيه الإجماع ، وأكثر من أثبت الوجوب من الشافعية

ص: 71

نسبوه إلى التُربُجي (1).

ونقل البيهقي في " الشعب " عن أبي إسحاق المروزي - وهو من كبار الشافعية - قال: أنا أعتقد وجوبها.

قال البيهقي: وفي الأحاديث الثابتة دلالةٌ على صحة ما قال.

قلت: وفي كلام الطحاوي في " مشكله " ما يدلُّ على أنَّ حرملة نقله عن الشافعي ، واستدل به على مشروعية الصلاة على النبي وآله في التشهد الأول ، والمصحح عند الشافعية استحباب الصلاة عليه فقط ، لأنه مبني على التخفيف وأما الأول فبناه الأصحاب على حكم ذلك في التشهد الأخير إن قلنا بالوجوب.

قلت: واستدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه؛ لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل ، ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة فطريق البر أن يأتي بذلك. هكذا صوبه النووي في " الروضة " بعد ذِكر حكاية الرافعي عن إبراهيم المروزي أنه قال: يبَرُّ إذا قال: كلَّما ذكره الذاكرون، وكلَّما سها عن ذكره الغافلون.

قال النووي: وكأنه أخذ ذلك من كون الشافعي ذكر هذه الكيفية.

قلت: وهي في خطبة الرسالة، لكن بلفظ غفل بدل سها.

(1) قال النووي في " المجموع "(3/ 465): بمثناه من فوق مضمومة ثم راء ساكنة ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ. انتهى

ص: 72

وقال الأذرعي: إبراهيم المذكور كثيرُ النقل من تعليقة القاضي حسين، ومع ذلك فالقاضي قال: في طريق البر يقول: اللهمَّ صلِّ على محمَّد كما هو أهله ومستحقه، وكذا نقله البغوي في تعليقه.

قلت: ولو جمع بينها فقال ما في الحديث. وأضاف إليه أثر الشافعي ، وما قاله القاضي لكان أشمل.

ويحتمل أن يقال: يعمد إلى جميع ما اشتملت عليه الروايات الثابتة فيستعمل منها ذكراً يحصل به البر.

وذكر شيخنا مجد الدين الشيرازي في جزء له في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض العلماء أنه قال: أفضل الكيفيات أن يقول: اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأزواجه وذريته وسلّم عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. وعن آخر نحوه ، لكن قال: عدد الشفع والوتر وعدد كلماتك التامة. ولم يُسم قائلها.

والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة لقوله صلى الله عليه وسلم: من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلَّى علينا فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم " الحديث (1) والله أعلم.

تنبيه: إن كان مستند المروزي ما قاله الشافعي فظاهر كلام الشافعي أن الضمير لله تعالى، فإن لفظه " وصلَّى الله على نبيه كلَّما

(1) أخرجه أبو داود (982). وقد تقدَّم كلام الشارح عليه ضمن شرح الحديث.

ص: 73

ذكره الذاكرون " فكان حق من غير عبارته أن يقول: اللهمَّ صلّ على محمد كلَّما ذكرك الذاكرون .. إلخ.

واستدل به على جواز الصلاة على غير الأنبياء.

واستدل به على أن الواو لا تقتضي الترتيب ، لأنَّ صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله تعالى (صلُّوا عليه وسلّموا) وقدم تعليم السلام قبل الصلاة كما قالوا " علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك ".

واستدل به على رد قول النخعي: يجزئ في امتثال الأمر بالصلاة قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته في التشهد؛ لأنه لو كان كما قال لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى ذلك ولَما عدل إلى تعليمهم كيفية أخرى.

واستدلّ به على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره ، وكذا العكس؛ لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة كما تقدم. فأفرد التسليم مدة في التشهد قبل الصلاة عليه.

وقد صرح النووي بالكراهة، واستدل بورود الأمر بهما معا في الآية، وفيه نظر.

نعم: يكره أن يفرد الصلاة ، ولا يسلم أصلاً. أمَّا لو صلَّى في وقت وسلَّم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلاً.

واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة ورود الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها. وقد ورد في التصريح

ص: 74

بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئاً.

منها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه " من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا " وله شاهد عن أنس عند أحمد والنسائي وصحَّحه ابن حبان.

وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات، ولفظ أبي بردة " من صلَّى عليَّ من أمتي صلاة مخلصاً من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ، ورفعه بها عشر درجات ، وكتب له بها عشر حسنات ، ومحا عنه عشر سيئات " ولفظ أبي طلحة عنده نحوه ، وصحَّحه ابن حبان.

ومنها حديث ابن مسعود رفعه " إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة " وحسنه الترمذي وصحَّحه ابن حبان، وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ " صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة " ولا بأس بسنده.

وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس. وهو عند أحمد وأبي داود وصحَّحه ابن حبان والحاكم، ومنها حديث " البخيل من ذُكرت عنده فلم يصلِّ علي " أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسماعيل القاضي ، وأطنب في تخريج طرقه وبيان الاختلاف فيه من حديث علي ، ومن حديث ابنه الحسين ، ولا يقصر عن درجة الحسن.

ص: 75

ومنها حديث " من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة " أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس ، والبيهقي في " الشعب " من حديث أبي هريرة ، وابن أبي حاتم من حديث جابر ، والطبراني من حديث حسين بن علي، وهذه الطرق يشدُّ بعضها بعضاً.

وحديث " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي " أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ " من ذكرت عنده ولم يصلِّ علي فمات فدخل النار فأبعده الله " وله شاهد عنده، وصحَّحه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني ، وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة ، وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة ، ومن حديث مالك بن الحويرث ، ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني ، ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي.

وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ " بعد من ذكرت عنده فلم يصلّ عليَّ " وعند الطبراني من حديث جابر رفعه " شقى عبد ذكرت عنده فلم يصل عليَّ " وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة " من الجفاء أن أُذكر عند رجل فلا يصلي علي ".

ومنها حديث أبي بن كعب " أن رجلا قال: يا رسول الله إني أكثر الصلاة فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت. قال: الثلث؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير " إلى أن قال " أجعل لك كل صلاتي؟ قال: إذا تكفى همك " الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن.

ص: 76

فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك.

قال الحليمي: المقصود بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التقرب إلى الله بامتثال أمره وقضاء حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا.

وتبعه ابن عبد السلام فقال: ليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لَمَّا علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه.

وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يُصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة صلى الله عليه وسلم، وقد تمسك بالأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر؛ لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد والوعيد على الترك من علامات الوجوب، ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه وإحسانه مستمر فيتأكد إذا ذكر وتمسكوا أيضا بقوله (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) فلو كان إذا ذكر لا يصلى عليه لكان كآحاد الناس. ويتأكد ذلك إذا كان المعنى بقوله (دعاء الرسول) الدعاء المتعلق بالرسول.

ص: 77

وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة:

منها: أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين فهو قول مخترع، ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن ، وكذا سامعه وللزم القارئ إذا مر ذكره في القرآن ، وللزم الداخل في الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ، ولكان في ذلك من المشقة ، والحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به.

وقد أطلق القدوري وغيره من الحنفية ، أن القول بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله؛ لأنه لا يُحفظ عن أحدٍ من الصحابة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى.

وأجابوا عن الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه. وفي حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا.

وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرر ذلك بتكرر ذكره صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد.

واحتج الطبري لعدم الوجوب أصلاً - مع ورود صيغة الأمر بذلك - بالاتفاق من جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأُمَّة على أن ذلك غير لازم فرضاً حتى يكون تاركه عاصياً.

قال: فدل ذلك على أن الأمر فيه للندب ويحصل الامتثال لمن قاله ولو كان خارج الصلاة.

ص: 78

وما ادعاه من الإجماع مُعارَض بدعوى غيره الإجماع على مشروعية ذلك في الصلاة. إما بطريق الوجوب. وإما بطريق الندب.

ولا يعرف عن السلف لذلك مخالف إلَاّ ما أخرجه ابن أبي شيبة والطبري عن إبراهيم ، أنه كان يرى أنَّ قول المصلي في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته يجزئ عن الصلاة.

ومع ذلك لم يخالف في أصل المشروعية ، وإنما ادعى إجزاء السلام عن الصلاة، والله أعلم.

ومن المواطن التي اختلف في وجوب الصلاة عليه فيها.

التشهد الأول ، وخطبة الجمعة وغيرها من الخطب ، وصلاة الجنازة.

ومما يتأكد ووردت فيه أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جيدة.

عقب إجابة المؤذن ، وأول الدعاء وأوسطه وآخره. وفي أوله آكد ، وفي آخر القنوت ، وفي أثناء تكبيرات العيد ، وعند دخول المسجد والخروج منه ، وعند الاجتماع والتفرق ، وعند السفر والقدوم ، وعند القيام لصلاة الليل ، وعند ختم القرآن ، وعند الهم والكرب ، وعند التوبة من الذنب ، وعند قراءة الحديث تبليغ العلم والذكر وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضاً في أحاديث ضعيفة ، وعند استلام الحجر ، وعند طنين الأذن ، وعند التلبية ، وعقب الوضوء ، وعند الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضاً.

وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح عند أبي

ص: 79

داود والنسائي ، وصحَّحه ابن خزيمة وغيره عن أوس بن أوس رفعه. في فضل يوم الجمعة: فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه. فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ ، قالوا: يا رسول الله. وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أَرمْت؟ قال: إنَّ الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.

ص: 80