الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والتسعون
141 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة. والإمام يخطب ، فقد لغوت. (1)
قوله: (إذا قلت لصاحبك) المراد بالصّاحب من يخاطبه بذلك مطلقاً، وإنّما ذكر الصّاحب لكونه الغالب.
قوله: (أنصت) قال الأزهريّ: يقال أنصت ونصت وانتصت.
قال ابن خزيمة: المراد بالإنصات السّكوت عن مكالمة النّاس دون ذكر الله.
وتعقّب: بأنّه يلزم منه جواز القراءة والذّكر حال الخطبة، فالظّاهر أنّ المراد السّكوت مطلقاً ، ومن فرّق احتاج إلى دليل، ولا يلزم من تجويز التّحيّة لدليلها الخاصّ جواز الذّكر مطلقاً.
قوله: (يوم الجمعة) مفهومه أنّ غير يوم الجمعة (2) بخلاف ذلك،
(1) أخرجه البخاري (892) ومسلم (851) من طريق عُقيل عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولمسلم (851) عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه مثله.
(2)
قال العراقي في طرح التثريب (4/ 117): تقييد الخطبة بكونها يوم الجمعة يخرج خطبة غير الجمعة كالعيد والكسوف والاستسقاء فلا يجب الإنصات لها ، ولا يحرم الكلام والإمام فيها ، واستماعها مستحب فقط لأنها غير واجبة ، وقد صرَّح بذلك أصحابنا وغيرهم ، وحكاه ابن عبد البر عن عطاء ، قال: يحرم الكلام ما كان الإمام على المنبر ، وإن كان قد ذهب في غير ذكر الله ، قال: ويوم عرفة والعيدين كذلك في الخطبة.
وفيه بحثٌ.
قوله: (والإمام يخطب) أشار البخاري في ترجمته (1) إلى الرّدّ على من جعل وجوب الإنصات من خروج الإمام، لأنّ قوله في الحديث " والإمام يخطب " جملة حاليّة ، يخرج ما قبل خطبته من حين خروجه وما بعده إلى أن يشرع في الخطبة ، لأنَّ الاستماع لا يتجه إلَاّ إذا تكلم: نعم الأولى أن ينصت.
وقالت الحنفية: يحرم الكلام من ابتداء خروج الإمام. وورد فيه حديث ضعيف. (2)
وأمّا حال الجلوس بين الخطبتين.
فحكى صاحب " المغني " عن العلماء فيه قولين. بناءً على أنّه غير خاطب، أو أنّ زمن سكوته قليل فأشبه السّكوت للتّنفّس
قوله: (فقد لغوت) قال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه، وقال ابن عرفة: اللغو السّقط من القول، وقيل: الميل عن الصّواب، وقيل: اللغو الإثم كقوله تعالى (وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً).
وقال الزين بن المنير: اتّفقت أقوال المفسّرين على أنّ اللغو ما لا يحسن من الكلام.
(1) ترجم عليه البخاري (باب الانصات يوم الجمعة والإمام يخطب).
(2)
انظر حديث جابر الماضي في قصة سليك رضي الله عنه.
وأغرب أبو عبيد الهرويّ في " الغريب " فقال: معنى لغا تكلم، كذا أطلق. والصّواب التّقييد.
وقال النّضر بن شميلٍ: معنى لغوت خبت من الأجر، وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، وقيل: صارت جمعتك ظهراً.
قلت: أقوال أهل اللّغة متقاربة المعنى.
ويشهد للقول الأخير ما رواه أبو داود وابن خزيمة من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: ومن لغا وتخطّى رقاب النّاس كانت له ظهراً. قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأت عنه الصّلاة ، وحُرِم فضيلة الجمعة.
ولأحمد من حديث عليّ مرفوعاً: مَن قال صهٍ فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له.
ولأبي داود نحوه، ولأحمد والبزّار من حديث ابن عبّاسٍ مرفوعاً: من تكلَّم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت ليست له جمعة.
وله شاهد قويّ في جامع حمّاد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً.
قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة. للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه.
وحكى ابن التّين: عن بعض من جوّز الكلام في الخطبة أنّه تأوّل قوله " فقد لغوت " أي: أمرت بالإنصات من لا يجب عليه.
وهو جمود شديد، لأنّ الإنصات لَم يختلف في مطلوبيّته. فكيف
يكون من أمر بما طلبه الشّرع لاغياً؟ بل النّهي عن الكلام مأخوذ من حديث الباب بدلالة الموافقة، لأنّه إذا جعل قوله " أنصت " مع كونه أمراً بمعروفٍ لغواً فغيره من الكلام أولى أن يسمّى لغواً.
وقد وقع عند أحمد من رواية الأعرج عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث بعد قوله " فقد لغوت ، عليك بنفسك ".
واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حقّ من سمعها، وكذا الحكم في حقّ من لا يسمعها عند الأكثر. قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة.
وأغرب ابن عبد البرّ. فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعها إلَاّ عن قليل من التّابعين.
ولفظه: لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها في الجمعة. وأنّه غير جائز أن يقول لمن سمعه من الجهّال يتكلم والإمام يخطب: أنصت، ونحوها، أخذاً بهذا الحديث. وروي عن الشّعبيّ وناسٍ قليلٍ أنّهم كانوا يتكلَّمون إلَاّ في حين قراءة الإمام في الخطبة خاصّة.
قال: وفعلهم في ذلك مردودٌ عند أهل العلم، وأحسن أحوالهم أن يقال: إنّه لَم يبلغهم الحديث.
قلت: للشّافعيّ في المسألة قولان مشهوران ، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أنّ الخطبتين بدلٌ عن الرّكعتين أم لا؟.
فعلى الأوّل يحرم. لا على الثّاني، والثّاني هو الأصحّ عندهم، فمن
ثمّ أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام حتّى شنّع عليهم من شنّع من المخالفين.
وعن أحمد: أيضاً روايتان.
وعنهما: أيضاً التّفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها.
ولبعض الشّافعيّة: التّفرقة بين من تنعقد بهم الجمعة ، فيجب عليهم الإنصات دون من زاد. فجعله شبيهاً بفروض الكفاية.
واختلف السّلف إذا خطب بما لا ينبغي من القول، وعلى ذلك يُحمل ما نُقل عن السّلف من الكلام حال الخطبة.
والذي يظهر: أنّ من نفى وجوبه أراد أنّه لا يشترط في صحّة الجمعة، بخلاف غيره. ويدلّ على الوجوب في حقّ السّامع أنّ في حديث عليٍّ المشار إليه آنفاً " ومن دنا فلم ينصت ، كان عليه كفلان من الوزر " ، لأنّ الوزر لا يترتّب على من فعل مباحاً. ولو كان مكروهاً كراهة تنزيه.
وأمّا ما استدلَّ به من أجاز مطلقاً من قصّة السّائل في الاستسقاء (1) ونحوه. ففيه نظرٌ. لأنّه استدلال بالأخصّ على الأعمّ، فيمكن أن يخصّ عموم الأمر بالإنصات بمثل ذلك كأمرٍ عارض في مصلحة عامّة، كما خصّ بعضهم منه ردّ السّلام لوجوبه.
ونقل صاحب " المغني " الاتّفاق على أنّ الكلام الذي يجوز في
(1) انظر حديث أنس رضي الله عنه الآتي برقم (156)