الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث المائة وثلاثة
152 -
عن أبي مسعودٍ - عقبة بن عمرٍو الأنصاريّ البدريّ رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله ، يخوّف الله بهما عباده ، وإنّهما لا ينخسفان لموت أحدٍ من النّاس ولا لحياته ، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلّوا ، وادعوا حتّى ينكشف ما بكم. (1)
قوله: (آيتان) أي: علامتان
قوله: (من آيات الله) أي: الدّالة على وحدانيّة الله وعظيم قدرته ، أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيّده قوله تعالى (وما نرسل بالآيات إلَاّ تخويفاً).
قوله: (يخوّف الله بهما عباده) فيه ردّ على من يزعم من أهل الهيئة أنّ الكسوف أمر عاديّ لا يتأخّر ولا يتقدّم، إذ لو كان كما يقولون لَم يكن في ذلك تخويف ويصير بمنزلة الجزر والمدّ في البحر.
وقد ردّ ذلك عليهم ابن العربيّ وغير واحد من أهل العلم. بما في حديث أبي موسى الآتي حيث قال: فقام فَزِعاً يخشى أن تكون السّاعة ". قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لَم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لَم يكن للأمر بالعتق والصّدقة والصّلاة والذّكر معنىً، فإنّ
(1) أخرجه البخاري (994 ، 1008 ، 3032) ومسلم (911) من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود رضي الله عنه.
ظاهر الأحاديث أنّ ذلك يفيد التّخويف، وأنّ كلّ ما ذكر من أنواع الطّاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف.
وممّا نقضَ ابن العربيّ وغيره: أنّهم يزعمون أنّ الشّمس لا تنكسف على الحقيقة، وإنّما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين.
فقال: هم يزعمون أنّ الشّمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الصّغير الكبير إذا قابله، أم كيف يظلم الكثير بالقليل، ولا سيّما وهو من جنسه؟. وكيف تحجب الأرض نور الشّمس وهي في زاوية منها؟ ، لأنّهم يزعمون أنّ الشّمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفاً.
وقد وقع في حديث النّعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة ، وهو ما أخرجه أحمد والنّسائيّ وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة والحاكم بلفظ " إنّ الشّمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته ، ولكنّهما آيتان من آيات الله، وإنّ الله إذا تجلَّى لشيءٍ من خلقه خشع له ".
وقد استشكل الغزاليّ هذه الزّيادة. وقال: إنّها لَم تثبت فيجب تكذيب ناقلها. قال: ولو صحّت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعيّة لا تصادم أصلاً من أصول الشّريعة.
قال ابن بزيزة: هذا عجبٌ منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ، ويزعم أنّها لا تصادم الشّريعة مع أنّها مبنيّة على أنّ العالَم كرويّ
الشّكل ، وظاهر الشّرع يعطي خلاف ذلك ، والثّابت من قواعد الشّريعة أنّ الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النّور متى شاء والظّلمة متى شاء من غير توقّف على سبب أو ربط باقترابٍ.
والحديث الذي ردّه الغزاليّ قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضاً، لأنّ النّوريّة والإضاءة من عالم الجمال الحسّيّ، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته. ويؤيّده قوله تعالى (فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكّاً). انتهى.
ويؤيّد هذا الحديث ما رويناه عن طاوسٍ ، أنّه نظر إلى الشّمس - وقد انكسفت - فبكى حتّى كاد أن يموت ، وقال: هي أخوف لله منّا.
وقال ابن دقيق العيد: ربّما يعتقد بعضهم. أنّ الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله " يخوّف الله بهما عباده " وليس بشيءٍ ، لأنّ لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كلّ سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسبّبات بعضها عن بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوّة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة ، وأنّه يفعل ما يشاء. إذا وقع شيءٌ غريبٌ حدث عندهم الخوف لقوّة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها.
وحاصله أنّ الذي يذكره أهل الحساب حقّاً في نفس الأمر لا ينافي
كون ذلك مخوّفاً لعباد الله تعالى.
قوله: (وإنّهما لا ينكسفان لموت أحدٍ من النّاس. ولا لحياته) في حديث أبي بكرة عند البخاري بيان سبب هذا القول. ولفظه " وذلك أنّ ابناً للنّبيّ صلى الله عليه وسلم يقال له إبراهيم مات ، فقال النّاس في ذلك ".
وفي رواية ابن حبّان " فقال النّاس: إنّما كسفت الشّمس لموت إبراهيم ". ولأحمد والنّسائيّ وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان من رواية أبي قلابة عن النّعمان بن بشير قال: انكسفت الشّمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فزعاً يجرّ ثوبه حتّى أتى المسجد، فلم يزل يُصلِّي حتّى انجلت، فلمّا انجلت قال: إنّ النّاس يزعمون أنّ الشّمس والقمر لا ينكسفان إلَاّ لموت عظيم من العظماء، وليس كذلك " الحديث.
وفي الباب (1) عن جابر عند مسلم ، وعن عبد الله بن عمرو والنعمان بن بشير وقبيصة وأبي هريرة كلها عند النسائي وغيره ، وعن ابن مسعود وسمرة بن جندب ومحمود بن لبيد كلها عند أحمد وغيره ، وعن عقبة بن عامر وبلال عند الطبراني وغيره.
فهذه عدّة طرق غالبها على شرط الصّحّة، وهي تفيد القطع عند من اطّلع عليها من أهل الحديث بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قاله، فيجب تكذيب من زعم أنّ الكسوف علامة على موت أحد أو حياة أحد.
(1) سوى الأحاديث التي في الباب مما اتفق الشيخان عليها.
وقد رواه أيضاً أبو بكرة والمغيرة وابن عبّاس وابن عمر وغيرهم. وكلها في الصحيح.
وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهليّة يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الاستسقاء " يقولون مطرنا بنوء كذا ".
قال الخطّابيّ: كانوا في الجاهليّة يعتقدون أنّ الكسوف يوجب حدوث تغيّر في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه اعتقاد باطل، وأنّ الشّمس والقمر خلقان مسخّران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدّفع عن أنفسهما.
وفيه ما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه من الشّفقة على أمّته ، وشدّة الخوف من ربّه.
قوله: (فإذا رأيتم منها شيئاً) وللبخاري " فإذا رأيتموها " أي: الآية، وله أيضاً " رأيتموهما " بالتّثنية، وكذا في رواية الإسماعيليّ ، والمعنى إذا رأيتم كسوف كلّ منهما لاستحالة وقوع ذلك فيهما معاً في حالة واحدة عادة ، وإن كان ذلك جائزاً في القدرة الإلهيّة.
واستدل به على مشروعيّة الصّلاة في كسوف القمر، ووقع في رواية ابن المنذر " حتّى ينجلي كسوف أيّهما انكسف ". وهو أصرح في المراد.
وفي ذلك ردّ على مَن قال: لا تندب الجماعة في كسوف القمر، وفرّق بوجود المشقّة في الليل غالباً دون النّهار.
ووقع عند ابن حبّان من وجه آخر ، أنّه صلى الله عليه وسلم صلَّى في كسوف القمر ، ولفظه من طريق النّضر بن شميلٍ عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة
في هذا الحديث (1)" صلَّى في كسوف الشّمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم ". وأخرجه الدّارقطنيّ أيضاً.
وفي هذا ردّ على من أطلق كابن رشيد ، أنّه صلى الله عليه وسلم لَم يصلِّ فيه، ومنهم من أوّل قوله " صلَّى " أي: أمر بالصّلاة، جمعاً بين الرّوايتين.
وقال صاحب الهدي: لَم يُنقل أنّه صلَّى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبّان في " السّيرة " له ، أنّ القمر خسف في السّنة الخامسة فصلَّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف ، وكانت أوّل صلاة كسوف في الإسلام.
وهذا - إن ثبت - انتفى التّأويل المذكور، وقد جزم به مغلطاي في سيرته المختصرة. وتبعه شيخنا في نظمها.
وأفاد أبو عوانة ، أنّ في بعض الطّرق ، أنّ ذلك كان يوم مات إبراهيم، وهو كذلك في مسند الشّافعيّ، وهو يؤيّد ما قدّمناه من اتّحاد القصّة.
قوله: (فصلوا وادعوا الله) وللبخاري " فقوموا فصلّوا ".
استدل به على أنّه لا وقت لصلاة الكسوف معيّن، لأنّ الصّلاة عُلّقت برؤيته، وهي ممكنة في كلّ وقت من النّهار، وبهذا قال
(1) أي: حديث أبي بكرة. الذي أخرجه البخاري في " صحيحه "(1040 - 1048 وغيرها) من طرق عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجرُّ رداءه حتى دخل المسجد، فدخلنا، فصلَّى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ، فإذا رأيتموهما، فصلّوا، وادعوا حتى يكشف ما بكم.
الشّافعيّ ومن تبعه.
واستثنى الحنفيّة أوقات الكراهة. وهو مشهور مذهب أحمد.
وعن المالكيّة. وقتها من وقت حلّ النّافلة إلى الزّوال، وفي رواية. إلى صلاة العصر.
ورَجَحَ الأوّل. بأنّ المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء.
وقد اتّفقوا على أنّها لا تقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود.
ولَم أقف في شيء من الطّرق مع كثرتها على أنّه صلى الله عليه وسلم صلاّها إلَاّ ضُحى (1) ، لكنّ ذلك وقع اتّفاقاً. ولا يدلّ على منع ما عداه.
واتّفقت الطّرق على أنّه بادر إليها.
(1) وقع في المطبوع (الأضحى) ولعلَّ الصواب ما أثبتُّه. وسيأتي في الحديث بعده التصريح في كون الصلاة وقعت ضُحى. كما في البخاري.