الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث المائة وتسعة
158 -
عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوّات بن جبيرٍ عمّن صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ذات الرّقاع ، صلاة الخوف: أنّ طائفةً صفّت معه ، وطائفةً وجاه العدوّ ، فصلَّى بالذين معه ركعةً ، ثمّ ثبت قائماً ، وأتمّوا لأنفسهم ، ثمّ انصرفوا ، فصفّوا وجاه العدوّ ، وجاءت الطّائفة الأخرى ، فصلَّى بهم الرّكعة التي بقيت ، ثمّ ثبت جالساً ، وأتمّوا لأنفسهم ، ثمّ سلَّم بهم. (1)
قال المصنِّف: الرجل الذي صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو سهل بن أبي حثمة.
قوله: (عن يزيد بن رومان) بضم الراء.
قوله: (عن صالح بن خوّاتٍ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو وآخره مثنّاة. أي: ابن جبير بن النّعمان الأنصاريّ.
وصالح تابعيّ ثقة ليس له في البخاريّ إلَاّ هذا الحديث الواحد.
وأبوه أخرج له البخاريّ في الأدب المفرد، وهو صحابيّ جليل أوّل مشاهده أحدٌ ، ومات بالمدينة سنة أربعين.
قوله: (صلاة ذات الرّقاع) هذه الغزوة اختلف فيها متى كانت؟
(1) أخرجه البخاري (3900) عن قتيبة بن سعيد ، مسلم (842) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن يزيد بن رومان به.
وأخرجه البخاري (3902) ومسلم (842) من طرق عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوَّات عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
، واختلف في سبب تسميتها بذلك.
وقد جنح البخاريّ: إلى أنّها كانت بعد خيبر، واستدلَّ لذلك بحديث أبي موسى: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسمِّيت غزوة ذات الرقاع، لِمَا كنا نعصب من الخرق على أرجلنا. متفق عليه.
وهو استدلال صحيح، والدّليل عليه أنّ أبا موسى إنّما قدم من الحبشة بعد فتح خيبر. ففي البخاري في حديث طويل " قال أبو موسى: فوافقنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر " وإذا كان كذلك. ثبت أنّ أبا موسى شهد غزوة ذات الرّقاع.
ومع ذلك فذكرها البخاري قبْل خيبر ، فلا أدري هل تعمّد ذلك تسليماً لأصحاب المغازي أنّها كانت قبلها؟. أو أنّ ذلك من الرّواة عنه؟.
أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرّقاع اسماً لغزوتين مختلفتين. كما أشار إليه البيهقيّ.؟
على أنّ أصحاب المغازي - مع جزمهم بأنّها كانت قبل خيبر - مختلفون في زمانها، فعند ابن إسحاق. أنّها بعد بني النّضير وقبل الخندق سنة أربع.
قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النّضير شهر ربيع وبعض جمادى - يعني من سنته - وغزا نجداً يريد بني محارب
وبني ثعلبة من غطفان، حتّى نزل نخلاً وهي غزوة ذات الرّقاع.
وعند ابن سعد وابن حبّان. أنّها كانت في المحرّم سنة خمس.
وأمّا أبو معشر. فجزم بأنّها كانت بعد بني قريظة والخندق، وهو موافق لصنيع البخاري، وقد ذكرنا أنّ غزوة قريظة كانت في ذي القعدة سنة خمس فتكون ذات الرّقاع في آخر السّنة وأوّل التي تليها.
وأمّا موسى بن عقبة. فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرّقاع، لكن تردّد في وقتها ، فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها أو قبل أحد أو بعدها.
وهذا التّردّد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنّها بعد غزوه بني قريظة، لأنّ صلاة الخوف في غزوة الخندق لَم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرّقاع فدلَّ على تأخّرها بعد الخندق.
وقد قيل إنّ الغزوة التي شهدها أبو موسى - وسمّيت ذات الرّقاع - غير غزوة ذات الرّقاع التي وقعت فيها صلاة الخوف، لأنّ أبا موسى قال في روايته " إنّهم كانوا ستّة أنفس " والغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف كان المسلمون فيها أضعاف ذلك.
والجواب عن ذلك: أنّ العدد الذي ذكره أبو موسى محمولٌ على من كان موافقاً له من الرّماة. لا أنّه أراد جميع من كان مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، واستدل على التّعدّد أيضاً بقول أبي موسى إنّها سُمّيت ذات الرّقاع " لِمَا لفّوا في أرجلهم من الخرق ".
وأهل المغازي ذكروا في تسميتها بذلك أموراً غير هذا.
قال ابن هشام وغيره: سُمّيت بذلك لأنّهم رقّعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجرٍ بذلك الموضع يقال له ذات الرّقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرّقاع، وقيل: لأنّ خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبّان.
وقال الواقديّ: سُمّيت بجبلٍ هناك فيه بقعٌ، وهذا لعله مستند ابن حبّان ، ويكون قد تصحّف جبلٌ بخيلٍ.
وبالجملة. فقد اتّفقوا على غير السّبب الذي ذكره أبو موسى، لكن ليس ذلك مانعاً من اتّحاد الواقعة ولازماً للتّعدّد، وقد رجّح السّهيليّ السّبب الذي ذكره أبو موسى، وكذلك النّوويّ ، ثمّ قال: ويحتمل أن تكون سُمّيت بالمجموع.
وأغرب الدّاوديّ ، فقال: سُمّيت ذات الرّقاع لوقوع صلاة الخوف فيها. فسمّيت بذلك لترقيع الصّلاة فيها.
وممّا يدلّ على التّعدّد. أنّه لَم يتعرّض أبو موسى في حديثه إلى أنّهم صلوا صلاة الخوف ولا أنّهم لقوا عدوّاً، ولكنّ عدم الذّكر لا يدلّ على عدم الوقوع، فإنّ أبا هريرة في ذلك نظير أبي موسى ، لأنّه إنّما جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلم ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر، ومع ذلك فقد ذكر في حديثه ، أنّه صلَّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في غزوة نجد.
وكذلك عبد الله بن عمر ذكر أنّه صلَّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بنجدٍ، وقد تقدّم أنّ أوّل مشاهده الخندق ، فتكون ذات الرّقاع بعد
الخندق.
قوله: (عمّن صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري " عمّن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قيل: إنّ اسم هذا المُبهم سهل بن أبي حثمة، لأنّ القاسم بن محمّد روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوّاتٍ عن سهل بن أبي حثمة، وهذا هو الظّاهر من رواية البخاريّ.
ولكنّ الرّاجح أنّه أبوه خوّات بن جبير، لأنّ أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رومان - شيخ مالك فيه- فقال: عن صالح بن خوّاتٍ عن أبيه. أخرجه ابن منده في " معرفة الصّحابة " من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقيّ من طريق عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمّد عن صالح بن خوّاتٍ عن أبيه.
وجزم النّوويّ في تهذيبه. بأنّه خوّات بن جبير. وقال: إنّه محقّق من رواية مسلم وغيره.
قلت: وسبقه لذلك الغزّاليّ ، فقال: إنّ صلاة ذات الرّقاع في رواية خوّات بن جبير.
وقال الرّافعيّ في شرح الوجيز: اشتهر هذا في كتب الفقه، والمنقول في كتب الحديث رواية صالح بن خوّات عن سهل بن أبي حثمة وعمّن صلَّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: فلعل المبهم هو خوّات والد صالح.
قلت: وكأنّه لَم يقف على رواية خوّات التي ذكرتها. وبالله التّوفيق.
ويحتمل: أنّ صالحاً سمعه من أبيه ومن سهل بن أبي حثمة. فلذلك
يُبهمه تارة ويُعيّنه أخرى، إلَاّ أنّ تعيين كونها كانت ذات الرّقاع إنّما هو في روايته عن أبيه ، وليس في رواية صالح عن سهل أنّه صلَّاها مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وينفع هذا من استبعاد أن يكون سهل بن أبي حثمة كان في سنّ من يخرج في تلك الغزاة، فإنّه لا يلزم من ذلك أن لا يرويها فتكون روايته إيّاها مرسل صحابيّ، فبهذا يقوى تفسير الذي صلَّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخوّاتٍ. والله أعلم.
قوله: (وطائفة وجاه العدوّ) وجاه بكسر الواو وبضمّها ، أي: مقابل.
قوله: (فصلَّى بالتي معه ركعة ، ثمّ ثبت قائماً وأتمّوا لأنفسهم) هذه الكيفيّة تخالف الكيفيّة التي في حديث جابرٍ في عدد الرّكعات (1)، وتوافق الكيفيّة التي في حديث ابن عبّاس (2) في ذلك، لكن تخالفها في كونه صلى الله عليه وسلم ثبت قائماً حتّى أتمّت الطّائفة لأنفسها ركعة أخرى، وفي أنّ الجميع استمرّوا في الصّلاة حتّى سلَّموا بسلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم
فقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في صفة صلاة الخوف كيفيّات.
حملها بعض العلماء على اختلاف الأحوال.
وحملها آخرون على التّوسّع والتّخيير.
(1) حديث جابر هو الآتي بعد هذا إن شاء الله.
(2)
حديث ابن عباس. أخرجه البخاري في صحيحه (944) قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم، وقام الناس معه، فكبَّر وكبَّروا معه ، وركع وركع ناسٌ منهم معه، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية، فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم ، وأتت الطائفة الأخرى، فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً.
وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفيّة ، وافقه الشّافعيّ وأحمد وداود على ترجيحها. لسلامتها من كثرة المخالفة ، ولكونها أحوط لأمر الحرب، مع تجويزهم الكيفيّة التي في حديث ابن عمر.
ونُقل عن الشّافعيّ: أنّ الكيفيّة التي في حديث ابن عمر منسوخة ، ولَم يثبت ذلك عنه. وظاهر كلام المالكيّة عدم إجازة الكيفيّة التي في حديث ابن عمر.
واختلفوا في كيفيّة رواية سهل بن أبي حثمة في موضعٍ واحدٍ.
وهو أنّ الإمام. هل يسلم قبل أن تأتي الطّائفة الثّانية بالرّكعة الثّانية؟ أو ينتظرها في التّشهّد ليسلّموا معه؟.
فبالأوّل قال المالكيّة، وزعم ابن حزمٍ ، أنّه لَم يرد عن أحدٍ من السّلف القول بذلك. والله أعلم.
ولَم تفرّق المالكيّة والحنفيّة. حيث أخذوا بالكيفيّة التي في هذا الحديث بين أن يكون العدوّ في جهة القبلة أم لا.
وفرّق الشّافعيّ والجمهور. فحملوا حديث سهلٍ على أنّ العدوّ كان في غير جهة القبلة. فلذلك صلَّى بكل طائفةٍ وحدها جميع الرّكعة.
وأمّا إذا كان العدوّ في جهة القبلة فعلى ما في حديث ابن عبّاسٍ ، أنّ الإمام يُحرم بالجميع ويركع بهم، فإذا سجد سجد معه صفٌّ وحرس صفٌّ. إلخ.
ووقع عند مسلمٍ من حديث جابرٍ " صفّنا صفّين والمشركون بيننا وبين القبلة ".
وقال السّهيليّ: اختلف العلماء في التّرجيح.
فقالت طائفةٌ: يعمل منها بما كان أشبه بظاهر القرآن.
وقالت طائفةٌ: يجتهد في طلب الأخير منها فإنّه النّاسخ لِمَا قبله.
وقالت طائفة: يؤخذ بأصحّها نقلاً وأعلاها رواة.
وقالت طائفة: يؤخذ بجميعها على حساب اختلاف أحوال الخوف، فإذا أشتدّ الخوف أخذ بأيسرها مؤنةً، والله أعلم.
قوله: (الرجل الذي صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سهل بن أبي حثمة) بفتح المهملة وسكون المثنّاة. واسمه عبد الله ، وقيل: عامر ، وقيل: اسم أبيه عبد الله وأبو حثمة جدّه. واسمه عامر بن ساعدة، وهو أنصاريّ من بني الحارث بن الخزرج.
اتّفق أهل العلم بالأخبار على أنّه كان صغيراً في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، إلَاّ ما ذكر ابن أبي حاتم عن رجلٍ من ولد سهلٍ ، أنّه حدّثه أنّه بايع تحت الشّجرة ، وشهد المشاهد إلَاّ بدراً ، وكان الدّليل ليلة أحدٍ.
وقد تعقّبَ هذا جماعةٌ من أهل المعرفة ، وقالوا: إنّ هذه الصّفة لأبيه، وأمّا هو فمات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين، وممّن جزم بذلك الطّبريّ وابن حبّان وابن السّكن وغير واحد.
وعلى هذا فتكون روايته لقصّة صلاة الخوف مرسلة ، ويتعيّن أن يكون مراد صالح بن خوّاتٍ ممّن شهد مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف غيره، والذي يظهر أنّه أبوه كما تقدّم. والله أعلم.