الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
165 -
عن عبد الله بن عبّاسٍ رضي الله عنه ، قال: بينما رجلٌ واقفٌ بعرفة ، إذ وقع عن راحلته ، فوقصته. أو قال: فأوقصته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماءٍ وسدرٍ ، وكفّنوه في ثوبين. ولا تُحنّطوه ، ولا تُخمّروا رأسه. فإنّه يبعث يوم القيامة مُلبّياً. (1)
وفي روايةٍ: ولا تُخمّروا وجهه ولا رأسه. (2)
قال المصنِّف: الوقص: كسر العنق.
قوله: (بينما رجلٌ) وللبخاري " كان رجلٌ واقفٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فوقع عن راحلته ". قوله " واقف " صفة لرجلٍ، وكان تامّة. أي: حصل رجل واقف.
ولَم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية الْمُحرِم المذكور.
وقد وهِمَ بعض المتأخّرين ، فزعم أنّ اسمه واقد بن عبد الله ، وعزاه لابن قتيبة في ترجمة عمر من كتاب " المغازي ".
وسبب الوهم. أنّ ابن قتيبة لَمّا ذكر ترجمة عمر ، ذكر أولاده ومنهم عبد الله بن عمر، ثمّ ذكر أولاد عبد الله بن عمر ، فذكر فيهم واقد بن عبد الله بن عمر ، فقال: وقع عن بعيره وهو محرِم فهلك، فظنّ هذا المتأخّر أنّ لواقد بن عبد الله بن عمر صحبةً ، وأنّه صاحب القصّة
(1) أخرجه البخاري (1206 ، 1207 ، 1208 ، 1209 ، 1742 ، 1751 ، 1753) ومسلم (1206) من طرقٍ عدّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(2)
أخرجه مسلم (1206) من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
التي وقعت في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس كما ظنّ ، فإنّ واقداً المذكور لا صحبة له ، فإنّ أمّه صفيّة بنت أبي عبيد إنّما تزوّجها أبوه في خلافة أبيه عمر. واختلف في صحبتها، وذكرها العجليّ وغيره في التّابعين.
ووجدت في الصّحابة واقد بن عبد الله آخر ، لكن لَم أر في شيء من الأخبار أنّه وقع عن بعيره فهلك، بل ذكر غير واحد منهم ابن سعد ، أنّه مات في خلافة عمر، فبطل تفسير المبهم بأنّه واقد بن عبد الله من كلّ وجه.
قوله: (واقف) استدل به على إطلاق لفظ الواقف على الرّاكب. وكان وقوع المحرم المذكور عند الصّخرات من عرفة.
قوله: (بعرفة) وللبخاري من وجه آخر " ونحن مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ".
قوله: (فوقصته، أو قال فأوقصته) وللبخاري " فأقصعته " شكّ من الرّاوي، والمعروف عند أهل اللّغة الأوّل ، والذي بالهمز شاذّ.
والوقص كسر العنق، ويحتمل: أن يكون فاعل وقصته الوقعة ، أو الرّاحلة بأن تكون أصابته بعد أن وقع والأوّل أظهر.
وقال الكرمانيّ: فوقصته. أي: راحلته فإن كان الكسر حصل بسبب الوقوع فهو مجاز، وإن حصل من الرّاحلة بعد الوقوع فحقيقة.
وقوله " فأقصعته " أي هشّمته ، يقال: أقصع القملة إذا هشّمها، وقيل: هو خاصّ بكسر العظم، ولو سلم فلا مانع أن يستعار لكسر الرّقبة. وفي رواية مسلم بتقديم العين على الصّاد، والقعص القتل في الحال ، ومنه قعاص الغنم وهو موتها.
قوله: (اغسلوه بماءٍ وسدر) تقدم الكلام عليه مستوفي في الحديث قبله.
قوله: (وكفّنوه في ثوبين) أشار البخاري إلى أنّ الثّلاث في حديث عائشة ليست شرطاً في الصّحّة، وإنّما هو مستحبّ. وهو قول الجمهور.
واختلف فيما إذا شحّ بعض الورثة بالثّاني أو الثّالث، والمرجّح أنّه لا يلتفت إليه. وأمّا الواحد السّاتر لجميع البدن فلا بدّ منه بالاتّفاق.
واستدل به على إبدال ثياب المحرم ، وليس بشيءٍ ففي الصحيحين بلفظ " في ثوبيه " وللنّسائيّ من طريق يونس بن نافع عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس " في ثوبيه اللذين أحرم فيهما ".
وقال المحبّ الطّبريّ: إنّما لَم يزده ثوباً ثالثاً تكرمة له كما في الشّهيد حيث قال " زمّلوهم بدمائهم ".
واستدل به على أنّ الإحرام لا ينقطع بالموت كما سيأتي، وعلى ترك النّيابة في الحجّ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لَم يأمر أحداً أن يكمل عن هذا المحرم أفعال الحجّ (1). وفيه نظرٌ لا يخفى.
وقال ابن بطّال: وفيه أنّ من شرع في عمل طاعة ثمّ حال بينه وبين
(1) ممن استدل به البخاري في " صحيحه ". فقال في كتاب جزاء الصيد " باب المحرم يموت بعرفة ، ولَم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُؤدَّى عنه بقية الحج " ثم أورد حديث ابن عبّاس هذا ، ولَم يتكلَّم عليه الشارح بشي ، بل أحاله على شرحه في الجنائز. وغفل عنه أيضاً في الجنائز.
إتمامه الموت رجي له أنّ الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل.
قوله: (ولا تحنّطوه) وهو من الحنوط بالمهملة والنون ، وهو الطيب الذي يصنع للميت ، وفي رواية لهما " ولا تمسوه بطيب " بضم أوله وكسر الميم من أمسّ ، ثمّ علَّل بأنّه يبعث ملبّياً، فدلَّ على أنّ سبب النّهي أنّه كان محرماً، فإذا انتفت العلة انتفى النّهي.
وكأنّ الحنوط للميّت كان مقرّراً عندهم. وكذا قوله " لا تخمّروا رأسه " أي: لا تغطّوه.
قال البيهقيّ: فيه دليل على أنّ غير المحرم يحنّط كما يخمّر رأسه، وأنّ النّهي إنّما وقع لأجل الإحرام خلافاً لمَن قال من المالكيّة وغيرهم: إنّ الإحرام ينقطع بالموت فيصنع بالميّت ما يصنع بالحيّ.
قال ابن دقيق العيد: وهو مقتضى القياس، لكنّ الحديث بعد أن ثبت يقدّم على القياس.
وقد قال بعض المالكيّة: إثبات الحنوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من منع الحنوط للمحرم، ولكنّها واقعة حال يتطرّق الاحتمال إلى منطوقها فلا يستدلّ بمفهومها.
وقال بعض الحنفيّة: هذا الحديث ليس عامّاً بلفظه ، لأنّه في شخص معيّن، ولا بمعناه ، لأنّه لَم يقل يبعث ملبّياً ، لأنّه محرم فلا يتعدّى حكمه إلى غيره إلَاّ بدليلٍ منفصل.
وقال ابن بزيزة: وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث. بأنّ هذا مخصوص بذلك الرّجل لأنّ إخباره صلى الله عليه وسلم بأنّه يبعث ملبّياً شهادة بأنّ
حجّه قُبل، وذلك غير محقّق لغيره.
وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ هذه العلة إنّما ثبتت لأجل الإحرام فتعمّ كلّ محرم، وأمّا القبول وعدمه فأمر مغيّب.
واعتلَّ بعضهم: بقوله تعالى (وأن ليس للإنسان إلَاّ ما سعى) وبقوله صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلَاّ من ثلاث (1). وليس هذا منها فينبغي أن ينقطع عمله بالموت.
وأجيب: بأنّ تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحيّ بعده كغسله والصّلاة عليه فلا معنى لِمَا ذكروه.
وقال ابن المنير في الحاشية: وقد قال صلى الله عليه وسلم في الشّهداء: زمّلوهم بدمائهم. مع قوله: والله أعلم بمن يُكلَم في سبيله. فعمّم الحكم في الظّاهر بناء على ظاهر السّبب فينبغي أن يعمّم الحكم في كلّ محرم، وبين الْمُجاهد والْمُحرم جامع ، لأنّ كلاً منهما في سبيل الله.
وقد اعتذر الدّاوديّ عن مالك ، فقال: لَم يبلغه هذا الحديث.
وأورد بعضهم: أنّه لو كان إحرامه باقياً لوجب أن يكمل به المناسك. ولا قائل به.
وأجيب: بأنّ ذلك ورد على خلافه الأصل فيقتصر به على مورد النّصّ ، ولا سيّما وقد وضح أنّ الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشّهيد.
(1) أخرجه مسلم (4310) من حديث أبي هريرة. وتمامه " من صدقةٍ جاريةٍ ، أو علمٍ ينتفع به ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له.
قوله: (فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً) أي: على هيئته التي مات عليها ، ولمسلم " ملبداً " بدالٍ بدل التّحتانيّة، والتّلبيد جمع الشّعر بصمغٍ أو غيره ليخف شعثه، وكانت عادتهم في الإحرام أن يصنعوا ذلك.
وقد أنكر عياض هذه الرّواية ، وقال: ليس للتّلبيد معنًى.
وللبخاري بلفظ " فإنه يبعث يهلّ " ورواه النّسائيّ بلفظ " فإنّه يبعث يوم القيامة محرماً " لكن ليس قوله ملبّداً فاسد المعنى ، بل توجيهه ظاهر.
واستدل بذلك على بقاء إحرامه خلافاً للمالكيّة والحنفيّة.
وقد تمسّكوا من هذا الحديث بلفظةٍ اختلف في ثبوتها وهي قوله " ولا تخمّروا وجهه " فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه، مع أنّهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرماً.
وأمّا الجمهور. فأخذوا بظاهر الحديث ، وقالوا: إنّ في ثبوت ذكر الوجه مقالاً، وتردّد ابن المنذر في صحّته.
وقال البيهقيّ: ذِكْر الوجه غريبٌ ، وهو وهم من بعض رواته.
وفي كلّ ذلك نظرٌ. فإنّ الحديث ظاهره الصّحّة ، ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزّبير كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس فذكر الحديث. قال منصور:" ولا تغطّوا وجهه "، وقال أبو الزّبير:" ولا تكشفوا وجهه ".
وأخرجه النّسائيّ من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير
بلفظ " ولا تخمّروا وجهه ولا رأسه ".
وأخرجه مسلم أيضاً من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا يمسّ طيباً خارج رأسه " قال شعبة: ثمّ حدّثني به بعد ذلك ، فقال " خارج رأسه ووجهه " انتهى.
وهذه الرّواية تتعلق بالتّطيّب لا بالكشف والتّغطية، وشعبة أحفظ من كلّ من روى هذا الحديث، فلعل بعض رواته انتقل ذهنه من التّطيّب إلى التّغطية.
وقال أهل الظّاهر: يجوز للمحرم الحيّ تغطية وجهه ، ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملاً بالظّاهر في الموضعين.
وقال آخرون: هي واقعة عين لا عموم فيها ، لأنّه علَّل ذلك بقوله " لأنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً " وهذا الأمر لا يتحقّق وجوده في غيره فيكون خاصّاً بذلك الرّجل؛ ولو استمرّ بقاؤه على إحرامه لأَمر بقضاء مناسكه. وقد ترجم البخاري بنفي ذلك. (1)
وقال أبو الحسن بن القصّار: لو أريد تعميم الحكم في كلّ محرم لقال " فإنّ المحرم " كما جاء " أنّ الشّهيد يبعث وجرحه يثعب دماً ".
وأجيب: بأنّ الحديث ظاهر في أنّ العلة في الأمر المذكور كونه كان في النّسك وهي عامّة في كلّ محرم، والأصل أنّ كلّ ما ثبت لواحدٍ في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت لغيره حتّى يتّضح التّخصيص.
واختلف في الصّائم يموت. هل يبطل صومه بالموت حتّى يجب
(1) انظر التعليق السابق.
قضاء صوم ذلك اليوم عنه أو لا يبطل؟.
وقال النّوويّ: يتأوّل هذا الحديث على أنّ النّهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز تغطية وجهه بل هو صيانة للرّأس، فإنّهم لو غطّوا وجهه لَم يؤمن أن يغطّي رأسه. انتهى.
وروى سعيد بن منصور من طريق عطاء قال: يغطّي المحرم من وجهه ما دون الحاجبين. أي من أعلى. وفي رواية: ما دون عينيه. وكأنّه أراد مزيد الاحتياط لكشف الرّأس. والله أعلم.
قال ابن المنذر: في حديث ابن عبّاس. إباحة غسل المحرم الحيّ بالسّدر خلافاً لمن كرهه له، وأنّ الوتر في الكفن ليس بشرطٍ في الصّحّة، وأنّ الكفن من رأس المال لأمره صلى الله عليه وسلم بتكفينه في ثوبيه ، ولَم يستفصل هل عليه دين يستغرق أم لا؟.
وفيه استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأنّ إحرامه باقٍ، وأنّه لا يكفّن في المخيط. وفيه التّعليل بالفاء لقوله فإنّه.
وفيه التّكفين في الثّياب الملبوسة، وفيه استحباب دوام التّلبية إلى أن ينتهي الإحرام وأنّها لا تنقطع بالتّوجّه لعرفة، وأنّ الإحرام يتعلق بالرّأس لا بالوجه.
وتقدّم الكلام على ما وقع في مسلم بلفظ " ولا تخمّروا وجهه ".
وأغرب القرطبيّ. فحكى عن الشّافعيّ: أنّ المحرم لا يُصلَّى عليه، وليس ذلك بمعروفٍ عنه.، وفيه جواز غسل المحرم بالسّدر ونحوه ممّا لا يعدّ طيباً.
وحكى المزنيّ عن الشّافعيّ. أنّه استدل على جواز قطع سدر الحرم بهذا الحديث لقوله فيه " واغسلوه بماءٍ وسدر " والله أعلم.
فائدةٌ: يحتمل: اقتصاره له على التّكفين في ثوبيه لكونه مات فيهما ، وهو متلبّس بتلك العبادة الفاضلة.
ويحتمل: أنّه لَم يجد له غيرهما.