المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثامن والثمانون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٣

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌باب التشهُّد

- ‌الحديث الخامس والسبعون

- ‌الحديث السادس والسبعون

- ‌الحديث السابع والسبعون

- ‌الحديث الثامن والسبعون

- ‌الحديث التاسع والسبعون

- ‌باب الوتر

- ‌الحديث الثمانون

- ‌الحديث الواحد والثمانون

- ‌الحديث الثاني والثمانون

- ‌باب الذكر عقب الصّلاة

- ‌الحديث الثالث والثمانون

- ‌الحديث الرابع والثمانون

- ‌الحديث الخامس والثمانون

- ‌الحديث السادس والثمانون

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌الحديث السابع والثمانون

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌الحديث الثامن والثمانون

- ‌باب الجمعة

- ‌الحديث التاسع والثمانون

- ‌الحديث التسعون

- ‌الحديث الواحد والتسعون

- ‌الحديث الثاني والتسعون

- ‌الحديث الثالث والتسعون

- ‌الحديث الرابع والتسعون

- ‌الحديث الخامس والتسعون

- ‌الحديث السادس والتسعون

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌الحديث السابع والتسعون

- ‌الحديث الثامن والتسعون

- ‌الحديث التاسع والتسعون

- ‌الحديث المائة

- ‌الحديث المائة وواحد

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌الحديث المائة واثنان

- ‌الحديث المائة وثلاثة

- ‌الحديث المائة وأربعة

- ‌الحديث المائة وخمسة

- ‌باب صلاة الاستسقاء

- ‌الحديث المائة وستة

- ‌الحديث المائة وسبعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌الحديث المائة وثمانية

- ‌الحديث المائة وتسعة

- ‌الحديث المائة وعشرة

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

الفصل: ‌الحديث الثامن والثمانون

‌الحديث الثامن والثمانون

137 -

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، قال: صحِبتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السّفر على ركعتين ، وأبا بكرٍ وعمر وعثمان كذلك. (1)

قوله: (فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) في رواية لهما " صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر " ، والمقصود أنّه مطلق ، أي: يتنفّل الرّواتب التي قبل الفريضة وبعدها، وذلك مستفاد من قوله في رواية الباب " وكان لا يزيد في السّفر على ركعتين ".

قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ يحتمل: أن يريد أن لا يزيد في عدد ركعات الفرض فيكون كناية عن نفي الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر، ويحتمل: أن يريد لا يزيد نفلاً، ويمكن أن يريد ما هو أعمّ من ذلك.

قلت: ويدلّ على هذا الثّاني رواية مسلم. ولفظه: عن حفص بن

(1) أخرجه البخاري (1051) ومسلم (689) من طريق عيسى بن حفص بن عاصم عن أبيه ، أنه سمع ابن عمر. فذكره. واللفظ للبخاري.

وأخرجه مسلم مطولاً: عن حفص بن عاصم قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلَّى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلَّى، فرأى ناساً قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مُسبّحاً لأتممت صلاتي، يا ابن أخي. إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وقد قال الله:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} .

ص: 177

عاصم قال: صحِبتُ ابن عمر في طريق مكّة فصلَّى لنا الظّهر ركعتين، ثمّ أقبل وأقبلنا معه حتّى جاء رحلَه وجلسنا معه، فحانتْ منه التفاتة ، فرأى ناساً قياماً ، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبّحون. قال: لو كنت مسبّحاً لأتممت. فذكر المرفوع.

قال النّوويّ: أجابوا عن قول ابن عمر هذا. بأنّ الفريضة محتّمة، فلو شرعت تامّة لتحتّم إتمامها، وأمّا النّافلة فهي إلى خيرة المُصلِّي، فطريق الرّفق به أن تكون مشروعة ويخيّر فيها. انتهى.

وتعقّب: بأنّ مراد ابن عمر بقوله " لو كنت مسبّحاً لأتممت " يعني: أنّه لو كان مخيّراً بين الإتمام وصلاة الرّاتبة لكان الإتمام أحبّ إليه، لكنّه فهم من القصر التّخفيف، فلذلك كان لا يُصلِّي الرّاتبة ولا يتمّ.

قوله: (وأبا بكر) معطوف على قوله " صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

قوله: (وعمر وعثمان) أي: أنّه كذلك صحبهم، وكانوا لا يزيدون في السّفر على ركعتين.

وفي ذِكْر عثمان إشكال لأنّه كان في آخر أمره يتمّ الصّلاة (1).

(1) أخرج البخاري (1028) ومسلم (694) نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبي بكر، وعمر. ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها. ولمسلم (694) عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلَّى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان ركعتين صدراً من خلافته، ثم أتَمَّها أربعاً.

وأخرج البخاري (1090) ومسلم (685) عن الزهري عن عروة عن عائشة ، أنَّ الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرّت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر. =

ص: 178

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت كما تأول عثمان

قال الحافظ في " الفتح "(2/ 736): هذا فيه ردٌ على من زعم أنَّ عثمان إنما أتَمَّ لكونه تأهَّل بمكة، أو لأنه أمير المؤمنين وكل موضع له دار، أو لأنه عزم على الإقامة بمكة، أو لأنه استجد له أرضاً بمنى، أو لأنه كان يسبق الناس إلى مكة، لأنَّ جميع ذلك منتف في حق عائشة ، وأكثره لا دليل عليه ، بل هي ظنون ممَن قالها.

ويردُّ الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بزوجاته وقصر.

والثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك.

والثالث: أنَّ الإقامة بمكة على المهاجرين حرام كما في حديث العلاء بن الحضرمي في البخاري.

والرابع والخامس: لَم ينقلا. فلا يكفي التخرص في ذلك.

والأول: وإن كان نقل. وأخرجه أحمد والبيهقي من حديث عثمان ، وأنه لَمَّا صلَّى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه ، فقال: إني تأهَّلت بمكة لَمَّا قدمت ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهَّل ببلدة فإنه يُصلِّي صلاة مقيم ". فهذا الحديث لا يصح ، لأنه منقطع. وفي رواته من لا يحتج به.

ويرده قول عروة: إن عائشة تأوَّلت ما تأوَّل عثمان، ولا جائز أن تتأهَّل عائشة أصلاً. فدلَّ على وَهْن ذلك الخبر. ثم ظهر لي أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله " كما تأوَّل عثمان " التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما، ويقوّيه أنَّ الأسباب اختلفت في تأويل عثمان فتكاثرت، بخلاف تأويل عائشة.

والمنقول: أنَّ سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم.

والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لَمَّا قدم علينا معاوية حاجاً صلَّى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان ، فقالا: لقد عبت أمرَ ابنِ عمك ، لأنه كان قد أتم الصلاة. قال: وكان عثمان حيث أتمَّ الصلاة إذا قدم مكة صلَّى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة.

وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك ، أنَّ عثمان وعائشة كانا يريان أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر ، لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة. انتهى.

وهذا رجَّحه جماعةٌ من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب.

وأما ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، أنَّ عثمان إنما أتم الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج. فهو مرسل، وفيه نظرٌ ، لأنَّ الإقامة بمكة على المهاجرين حرام كما في حديث العلاء بن الحضرمي.

وصحَّ عن عثمان ، أنه كان لا يودِّع النساء إلَاّ على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته. وثبت عن عثمان ، أنه قال لَمَّا حاصروه ، وقال له المغيرة: اركب رواحلك إلى مكة ، قال: لن أفارق دار هجرتي.

ومع هذا النظر في رواية معمر عن الزهري ، فقد روى أيوب عن الزهري ما يخالفه، فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري قال: إنما صلَّى عثمان بمنى أربعاً ، لأنَّ الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام. فأحبَّ أن يعلّمهم أن الصلاة أربع.

وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان ، أنه أتم بمنى ثم خطب ، فقال: إنَّ القصر سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طَغَام - يعني بفتح الطاء والمعجمة - فخفت أن يستنّوا. وعن ابن جريج ، أنَّ أعرابياً ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين.

وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترته بل يقويه من حيث إن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلَقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان.

وأما عائشة. فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحاً، وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، أنها كانت تصلِّي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليتِ ركعتين، فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي. إسناده صحيح.

وهو دالٌّ على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل.

ويدل على اختيار الجمهور. ما رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة ، أنه سافر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكلُّهم كان يُصلِّي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير وفي المقام بمكة.

ص: 179

فيحمل على الغالب. أو المراد به أنّه كان لا يتنفّل في أوّل أمره ولا في آخره، وأنّه إنّما كان يتمّ إذا كان نازلاً، وأمّا إذا كان سائراً فيقصر، فلذلك قيّده في هذه الرّواية بالسّفر، وهذا أولى.

ص: 180

مسائل:

المسألة الأولى: أخذ بظاهر قول عائشة: فرض الله الصلاةَ حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرِّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر " متفق عليه. الحنفيةُ وبنوا عليه أنَّ القصر في السفر عزيمة لا رخصة. ووافقهم القاضي إسماعيل من المالكية وهي رواية عن مالك وعن أحمد.

قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أنه على الاختيار والقصرُ عنده أفضل، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين.

واحتج الشافعي على عدم الوجوب بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلى أربعاً باتفاقهم، ولو كان فرضه القصر لَم يأتَمَّ مسافرٌ بمقيم.

وقال الطحاوي: لما كان الفرض لا بد لمن هو عليه أن يأتي به ، ولا يتخير في الإتيان ببعضه. وكان التخيير مختصاً بالتطوع دلَّ على أنَّ المصلي لا يتخير في الاثنتين والأربع.

وتعقبه ابن بطال: بأنا وجدنا واجباً يتخير بين الإتيان بجميعه أو ببعضه وهو الإقامة بمنى. انتهى

ونقل الداودي عن ابن مسعود ، أنه كان يرى القصر فرضاً.

وفيه نظر. فروى الشيخان عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلَّى بنا عثمان بن عفان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود. فاسترجع ، ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين،

ص: 181

وصليت مع أبى بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظِّي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.

وهذا يدلُّ على أنه كان يرى الإتمام جائزاً. وإلَاّ لَمَا كان له حظ من الأربع ولا من غيرها. فإنها كانت تكون فاسدة كلها.

وإنما استرجع ابن مسعود لِما وقع عنده من مخالفة الأولى.

ويؤيده ما روى أبو داود ، أنَّ ابن مسعود صلَّى أربعا، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً؟!. فقال: الخلاف شر. وفي رواية البيهقي " إني لأكره الخلاف " ولأحمد من حديث أبي ذر مثل الأول.

وهذا يدل على أنه لَم يكن يعتقد أنَّ القصر واجب.

واحتج مخالفوهم بقوله سبحانه وتعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) لأنَّ نفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه. ويدل على أنه رخصة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم.

وأجابوا عن حديث الباب: بأنه من قول عائشة غير مرفوع ، وبأنها لَم تشهد زمان فرض الصلاة، قاله الخطابي وغيره.

وفي هذا الجواب نظر.

أما أولاً: فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع.

وأما ثانياً: فعلى تقدير تسليم أنها لَم تُدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة؛ لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن صحابي آخر أدرك ذلك.

ص: 182

وأما قول إمام الحرمين: لو كان ثابتاً لنقل متواتراً. ففيه أيضاً نظر؛ لأنَّ التواتر في مثل هذا غير لازم.

وقالوا أيضاً: يعارض حديث عائشة هذا حديث ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين. أخرجه مسلم.

والجواب: أنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس كما سيأتي فلا تعارض.

وألزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابي روايته بأنهم يقولون: العبرة بما رأى لا بما روى، وخالفوا ذلك هنا، فقد ثبت عن عائشة أنها كانت تُتم في السفر. فدلَّ ذلك على أنَّ المروي عنها غير ثابت.

والجواب عنهم: أنَّ عروة الراوي عنها قد قال لَمَّا سئل عن إتمامها في السفر: إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان، فعلى هذا لا تعارض بين روايتها وبين رأيها، فروايتها صحيحة ورأيها مبنيٌ على ما تأوَّلت.

والذي يظهر لي - وبه تجتمع الأدلة السابقة - أنَّ الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلَاّ المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة عقِب الهجرة إلَاّ الصبح، كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة. قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأنَّ زِيْد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار. انتهى.

ص: 183

ثم بعد أن استقرَّ فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة وهي قوله تعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة). ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند. أنَّ قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره أنَّ نزول آية الخوف كان فيها.

وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية. ذكره الدولابي ، وأورده السهيلي بلفظ " بعد الهجرة بعام أو نحوه.

وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوماً.

فعلى هذا المراد بقول عائشة " فأقرت صلاة السفر " أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أنَّ القصر عزيمة.

ويظهر أثر الخلاف فيما إذا قام إلى الثالثة عمداً فصلاته عند الجمهور صحيحة، وعند الحنفية فاسدة ما لَم يكن جلس للتشهد.

المسألة الثانية:

قال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ لمن يريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها. واختلفوا فيما قبل الخروج عن البيوت: فذهب الجمهور. إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت. وذهب بعض الكوفيين. إلى أنه إذا أراد السفر يُصلي ركعتين ولو كان في منزله. ومنهم من قال: إذا ركب قصر إن شاء.

ورجّح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت

ص: 184

، واختلفوا فيما قبل ذلك، فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أنَّ له القصر. قال: ولا أعلم النبي صلى الله عليه وسلم قصر في شيء من أسفاره إلا بعد خروجه عن المدينة.

المسألة الثالثة:

اختلف السلف في المقيم بِمنىً هل يقصر أو يتم، بناء على أنَّ القصر بها للسفر أو للنسك؟ واختار الثاني مالك.

وتعقبه الطحاوي: بأنه لو كان كذلك لكان أهل منى يتمون ولا قائل بذلك.

وقال بعض المالكية: لو لَم يجز لأهل مكة القصر بِمنىً. لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أَتِمُّوا، وليس بين مكة ومِنىً مسافة القصر، فدلَّ على أنهم قصروا للنسك.

وأجيب: بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين ، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة ركعتين ، ويقول: يا أهل مكة أَتِمُّوا فإنا قوم سفر.

وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة.

قلت: وهذا ضعيف، لأنَّ الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، ولو صحَّ فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة الوداع، وكان لا بدَّ من بيان ذلك لبُعد العهد.

ولا يخفى أنَّ أصل البحث مبنيٌ على تسليم أنَّ المسافة التي بين مكة ومنى لا يقصر فيها، وهو من محالِّ الخلاف.

ص: 185