الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والثمانون
138 -
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ جاءَ منكم الجمعةَ فليغتسل. (1)
قوله: (من جاء منكم الجمعة) وللبخاري من رواية نافع عن ابن عمر " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل "
قوله: (فليغتسل) الفاء للتّعقيب، وظاهره أنّ الغسل يعقب المجيء، وليس ذلك المراد وإنّما التّقدير إذا أراد أحدكم.
وقد جاء مصرّحاً به في رواية الليث عن نافع عند مسلم. ولفظه " إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل "
ونظير ذلك قوله تعالى (إذا ناجيتم الرّسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقةً) ، فإنّ المعنى إذا أردتم المناجاة بلا خلاف.
ويقوّي رواية الليث حديث أبي هريرة الآتي قريباً بلفظ " من اغتسل يوم الجمعة ثمّ راح "(2) فهو صريح في تأخير الرّواح عن الغسل، وعرف بهذا فساد قول من حمله على ظاهره.
(1) أخرجه البخاري (854 ، 877) ومسلم (844) من طرق عن الزهري عن سالم (زاد مسلمٌ وعبد الله بن عبد الله بن عمر) عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال وهو قائم على المنبر. فذكره. لفظ مسلم.
وأخرجه البخاري (837) من طريق مالك ، ومسلم (844) من طريق الليث كلاهما عن نافع عن ابن عمر.
(2)
سيأتي إن شاء الله رقم (143)
واحتجّ به على أنّ الغسل لليوم لا للصّلاة، لأنّ الحديث واحد ومخرّجه واحد، وقد بيّن الليث في روايته المراد، وقوّاه حديث أبي هريرة.
ورواية نافع عن ابن عمر لهذا الحديث مشهورة جدّاً. فقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في " صحيحه ". فساقه من طريق سبعين نفساً رووه عن نافع.
وقد تتبّعت ما فاته ، وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد لغرضٍ اقتضى ذلك ، فبلغتْ أسماء من رواه عن نافع مائةً وعشرين نفساً.
فما يستفاد منه هنا ذكر سبب الحديث.
ففي رواية إسماعيل بن أُميَّة عن نافع عند أبي عوانة وقاسم بن أصبغ: كان النّاس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاءوا وعليهم ثياب متغيّرة، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من جاء منكم الجمعة فليغتسل.
ومنها ذكر محلّ القول.
ففي رواية الحكم بن عتيبة عن نافع عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعواد هذا المنبر بالمدينة يقول. أخرجه يعقوب الجصّاص في " فوائده " من رواية اليسع بن قيس عن الحكم.
وطريق الحكَم عند النّسائيّ وغيره من رواية شعبة عنه. بدون هذا السّياق ، بلفظ حديث الباب إلَاّ قوله " جاء " فعنده " راح " وكذا
رواه النّسائيّ من رواية إبراهيم بن طهمان عن أيّوب ومنصور ومالك ثلاثتهم عن نافع.
ومنها ما يدلّ على تكرار ذلك.
ففي رواية صخر بن جويرية عن نافع عند أبي مسلم الكجّيّ بلفظ " كان إذا خطب يوم الجمعة قال. الحديث.
ومنها زيادة في المتن.
ففي رواية عثمان بن واقد عن نافع عند أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبّان في صحاحهم بلفظ: من أتى الجمعة من الرّجال والنّساء فليغتسل، ومن لَم يأتها فليس عليه غسل.
ورجاله ثقات، لكن قال البزّار: أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه.
ومنها زيادة في المتن والإسناد أيضاً.
أخرجه أبو داود والنّسائيّ وابن خزيمة وابن حبّان وغيرهم من طرق عن مفضّل بن فضالة عن عيّاش بن عبّاسٍ القتبانيّ عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ عن نافع عن ابن عمر عن حفصة ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجمعة واجبة على كلّ محتلم، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل.
قال الطّبرانيّ في " الأوسط ": لَم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلَاّ بكير، ولا عنه إلَاّ عيّاش تفرّد به مفضّل.
قلت: رواته ثقات - فإن كان محفوظاً فهو حديث آخر - ولا مانع
أن يسمعه ابن عمر من النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن غيره من الصّحابة، ففي الصحيحين من رواية ابن عمر عن أبيه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا سيّما مع اختلاف المتون.
قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة، واستدل به لمالكٍ في أنّه يعتبر أن يكون الغسل متّصلاً بالذّهاب، ووافقه الأوزاعيّ والليث.
والجمهور قالوا: يجزئ من بعد الفجر.
ويشهد لهم حديث ابن عبّاسٍ: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم. وإن لَم تكونوا جنباً. أخرجه البخاري. وطلوع الفجر أول اليوم شرعاً.
وقال الأثرم: سمعت أحمد سئل عمّن اغتسل ثمّ أحدث. هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم. ولَم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزى.
يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عن سعيد بن عبد الرّحمن بن أبزى عن أبيه - وله صحبة - أنّه كان يغتسل يوم الجمعة ، ثمّ يحدث فيتوضّأ ، ولا يعيد الغسل.
ومقتضى النّظر أن يقال: إذا عرف أنّ الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة والتّنظيف رعاية الحاضرين من التّأذّي بالرّائحة الكريهة، فمن خشي أن يصيبه في أثناء النّهار ما يزيل تنظيفه استحبّ له أن يؤخّر الغسل لوقت ذهابه، ولعل هذا هو الذي لحظه مالك. فشرط اتّصال
الذّهاب بالغسل ليحصل الأمن ممّا يغاير التّنظيف. والله أعلم
قال ابن دقيق العيد: ولقد أبعد الظّاهريّ إبعاداً يكاد أن يكون مجزوماً ببطلانه. حيث لَم يشترط تقدّم الغسل على إقامة صلاة الجمعة حتّى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده ، تعلّقاً بإضافة الغسل إلى اليوم، يعني كما تقدّم في حديث ابن عباس.
وقد تبيّن من بعض الرّوايات أنّ الغسل لإزالة الرّوائح الكريهة. كما روى البخاري في حديث عائشة ، قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا.
قال: وفهم منه أنّ المقصود عدم تأذّي الحاضرين. وذلك لا يتأتّى بعد إقامة الجمعة، وكذلك أقول لو قدّمه بحيث لا يتحصّل هذا المقصود لَم يعتدّ به. والمعنى إذا كان معلوماً كالنّصّ قطعاً أو ظنّاً مقارناً للقطع فاتّباعه وتعليق الحكم به أولى من اتّباع مجرّد اللفظ.
قلت: وقد حكى ابن عبد البرّ الإجماع على أنّ من اغتسل بعد الصّلاة لَم يغتسل للجمعة ولا فعل ما أمر به.
وادّعى ابن حزم أنّه قول جماعة من الصّحابة والتّابعين. وأطال في تقرير ذلك بما هو بصدد المنع، والرّدّ يفضي إلى التّطويل بما لا طائل تحته.
ولَم يُورد عن أحدٍ ممّن ذكر التّصريح بإجزاء الاغتسال بعد صلاة
الجمعة، وإنّما أورد عنهم ما يدلّ على أنّه لا يشترط اتّصال الغسل بالذّهاب إلى الجمعة، فأخذ هو منه أنّه لا فرق بين ما قبل الزّوال أو بعده. والفرق بينهما ظاهر كالشّمس، والله أعلم
واستدل من مفهوم الحديث على أنّ الغسل لا يشرع لمن لَم يحضر الجمعة، وقد تقدّم التّصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع، وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة، وبه قال الجمهور خلافاً لأكثر الحنفيّة.
وقوله فيه " الجمعة " المراد به الصّلاة أو المكان الذي تقام فيه، وذكر المجيء لكونه الغالب ، وإلا فالحكم شامل لمن كان مجاوراً للجامع أو مقيماً به.
واستدل بقوله " واجب "(1).
وهو القول الأول: على فرضيّة غسل الجمعة.
وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمّار بن ياسرٍ وغيرهما، وهو قول أهل الظّاهر وإحدى الرّوايتين عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجمعٍ جمٍّ من الصّحابة ومن بعدهم، ثمّ ساق الرّواية عنهم ، لكن ليس فيها عن أحد منهم التّصريح بذلك إلَاّ نادراً، وإنّما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد: ما كنت أظنّ مسلماً يدع غسل
(1) أي. ما أخرجه البخاري (879) ومسلم (846) من حديث أبي سعيد ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم.
وكذا في رواية من حديث ابن عمر. كما ذكره الشارح قبل قليل.
يوم الجمعة.
وحكاه ابن المنذر والخطّابيّ عن مالك، وقال القاضي عياض وغيره: ليس ذلك بمعروفٍ في مذهبه.
قال ابن دقيق العيد: قد نصّ مالك على وجوبه ، فحَمَلَه مَن لَم يمارس مذهبه على ظاهره ، وأبى ذلك أصحابه. انتهى
والرّواية عن مالك بذلك في التّمهيد. وفيه أيضاً من طريق أشهب عن مالك أنّه سئل عنه. فقال: حسن ، وليس بواجبٍ.
وحكاه بعض المتأخّرين عن ابن خزيمة من أصحابنا، وهو غلطٌ عليه. فقد صرّح في " صحيحه " بأنّه على الاختيار، واحتجّ لكونه مندوباً بعدّة أحاديث في عدّة تراجم.
وحكاه شارح الغنية لابن سريج قولاً للشّافعيّ. واستغرب.
وقد قال الشّافعيّ في الرّسالة بعد أن أورد حديثَي ابن عمر وأبي سعيد:
احتمل قوله " واجب " معنيين، الظّاهر منهما أنّه واجبٌ فلا تجزي الطّهارة لصلاة الجمعة إلَاّ بالغسل. واحتمل: أنّه واجبٌ في الاختيار وكرم الأخلاق والنّظافة.
ثمّ استدل للاحتمال الثّاني بقصّة عثمان مع عمر (1).
(1) أخرجها البخاري (878) ومسلم (1992) عن ابن عمر رضي الله عنه: أنَّ عمر بن الخطاب، بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة. إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت فقال: والوضوء أيضاً، وقد علمتَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل.
قال: فلمّا لَم يترك عثمان الصّلاة للغسل ، ولَم يأمره عمر بالخروج للغسل دلَّ ذلك على أنّهما قد علما أنّ الأمر بالغسل للاختيار. انتهى.
وعلى هذا الجواب عوّل أكثر المصنّفين في هذه المسألة. كابن خزيمة والطّبريّ والطّحاويّ وابن حبّان وابن عبد البرّ وهلمّ جرّاً.
وزاد بعضهم فيه: أنّ من حضر من الصّحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعاً منهم. على أنّ الغسل ليس شرطاً في صحّة الصّلاة ، وهو استدلال قويّ.
وقد نقل الخطّابيّ وغيره الإجماع على أنّ صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة، لكن حكى الطّبريّ عن قوم: أنّهم قالوا بوجوبه ، ولَم يقولوا إنّه شرط ، بل هو واجبٌ مستقلٌّ تصحّ الصّلاة بدونه ، كأنّ أصله قصد التّنظيف وإزالة الرّوائح الكريهة التي يتأذّى بها الحاضرون من الملائكة والنّاس، وهو موافق لقول مَن قال: يحرم أكل الثّوم على من قصد الصّلاة في الجماعة.
ويردّ عليهم: أنّه يلزم من ذلك تأثيم عثمان.
والجواب: أنّه كان معذوراً ، لأنّه إنّما تركه ذاهلاً عن الوقت.
مع أنّه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أوّل النّهار، لِمَا ثبت في صحيح مسلم عن حمران ، أنّ عثمان لَم يكن يمضي عليه يوم حتّى يفيض عليه الماء، وإنّما لَم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التّأخّر ، لأنّه لَم يتّصل غسله بذهابِه إلى الجمعة كما هو الأفضل.
القول الثاني: عن بعض الحنابلة: التّفصيل بين ذي النّظافة وغيره، فيجب على الثّاني دون الأوّل نظراً إلى العلة، حكاه صاحب الهدي.
وحكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه. أنّ قصّة عمر وعثمان تدلّ على وجوب الغسل لا على عدم وجوبه ، من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رءوس النّاس، فلو كان ترك الغسل مباحاً لَمَا فعل عمر ذلك، وإنّما لَم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت ، إذ لو فعل لفاتته الجمعة ، أو لكونه كان اغتسل كما تقدّم.
القول الثالث: قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة ، وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظّاهر، وقد أوّلوا صيغة الأمر على النّدب وصيغة الوجوب على التّأكيد كما يقال: إكرامك عليّ واجبٌ، وهو تأويل ضعيف إنّما يصار إليه إذا كان المعارض راجحاً على هذا الظّاهر.
وأقوى ما عارضوا به هذا الظّاهر حديث " من توضّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل " ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث، قال: وربّما تأوّلوه تأويلاً مستكرهاً كمن حمل لفظ الوجوب على السّقوط. انتهى.
فأمّا الحديث فعوّل على المعارضة به كثيرٌ من المصنّفين، ووجه الدّلالة منه قوله " فالغسل أفضل " ، فإنّه يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء.
ولهذا الحديث طرق.
أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السّنن الثّلاثة وابن خزيمة وابن حبّان، وله علتان:
إحداهما: أنّه من عنعنة الحسن. والأخرى: أنّه اختلف عليه فيه.
وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطّبرانيّ من حديث عبد الرّحمن بن سمرة، والبزّار من حديث أبي سعيد، وابن عديّ من حديث جابر. وكلّها ضعيفة.
وعارضوا أيضاً بأحاديث.
منها حديث أبي سعيد ، قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد. أخرجه البخاري. فإنّ فيه " وأن يستنّ، وأن يمسّ طيباً ".
قال القرطبيّ: ظاهره وجوب الاستنان والطّيب لذكرهما بالعاطف، فالتّقدير الغسل واجبٌ والاستنان والطّيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتّفاقاً، فدلَّ على أنّ الغسل ليس بواجبٍ، إذ لا يصحّ تشريك ما ليس بواجبٍ مع الواجب بلفظٍ واحد. انتهى.
وقد سبق إلى ذلك الطّبريّ والطّحاويّ.
وتعقّبه ابن الجوزيّ: بأنّه لا يمتنع عطف ما ليس بواجبٍ على الواجب، لا سيّما ولَم يقع التّصريح بحكم المعطوف.
وقال ابن المنير (1) في الحاشية: إن سلم أنّ المراد بالواجب الفرض لَم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجبٍ عليه ، لأنّ للقائل أن يقول: أخرج بدليلٍ فبقي ما عداه على الأصل، وعلى أنّ دعوى الإجماع في الطّيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في " جامعه " عن أبي هريرة ، أنّه كان يوجب الطّيب يوم الجمعة. وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظّاهر.
ومنها حديث أبي هريرة مرفوعاً: من توضّأ فأحسن الوضوء ، ثمّ أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له. أخرجه مسلم.
قال القرطبيّ: ذكر الوضوء وما معه مرتّباً عليه الثّواب المقتضي للصّحّة، فدلَّ على أنّ الوضوء كافٍ.
وأجيب: بأنّه ليس فيه نفي الغسل. وقد ورد من وجه آخر في الصّحيحين بلفظ " من اغتسل " ، فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدّم غسله على الذّهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء.
ومنها حديث ابن عبّاسٍ ، أنّه سئل عن غسل يوم الجمعة أواجبٌ هو؟ فقال: لا، ولكنّه أطهر لمن اغتسل، ومن لَم يغتسل فليس بواجبٍ عليه. وسأخبركم عن بدء الغسل: كان النّاس مجهودين يلبسون الصّوف ويعملون، وكان مسجدهم ضيّقاً، فلمّا آذى بعضهم بعضاً قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّها النّاس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا ، قال ابن عبّاسٍ: ثمّ جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصّوف، وكُفُوا العمل،
(1) هو علي بن محمد الاسكندراني ، سبق ترجمته (2/ 378)
ووسع المسجد. أخرجه أبو داود والطّحاويّ. وإسناده حسنٌ.
لكنّ الثّابت عن ابن عبّاسٍ خلافه كما سيأتي قريباً.
وعلى تقدير الصّحّة فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدّالة على الوجوب، وأمّا نفي الوجوب. فهو موقوف لأنّه من استنباط ابن عبّاسٍ، وفيه نظرٌ. إذ لا يلزم من زوال السّبب زوال المسبّب كما في الرّمل والجمار، على تقدير تسليمه فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسّك به.
ومنها حديث طاوسٍ ، قلت لابن عبّاسٍ: زعموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رءوسكم إلَاّ أن تكونوا جنباً. الحديث.
قال ابن حبّان بعد أن أخرجه: فيه أنّ غسل الجمعة يجزئ عنه غسل الجنابة، وأنّ غسل الجمعة ليس بفرضٍ، إذ لو كان فرضاً لَم يجز عنه غيره. انتهى.
وهذه الزّيادة " إلَاّ أن تكونوا جنباً " تفرّد بها ابن إسحاق عن الزّهريّ، وقد رواه شعيب عن الزّهريّ بلفظ " وإن لَم تكونوا جنباً " وهذا هو المحفوظ عن الزّهريّ كما أخرجه البخاري.
ومنها حديث عائشة عند البخاري " كان الناس مهنة أنفسهم ، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم ، فقيل لهم: لو اغتسلتم ".
ففيه عرض وتنبيهٌ لا حتم ووجوب.
وأجيب: بأنّه ليس فيه نفي الوجوب، وبأنّه سابقٌ على الأمر به والإعلام بوجوبه.
ونقل الزين بن المنير بعد قول الطّحاويّ لَمّا ذكر حديث عائشة: فدلَّ على أنّ الأمر بالغسل لَم يكن للوجوب، وإنّما كان لعلةٍ ثمّ ذهبت تلك العلة فذهب الغسل، وهذا من الطّحاويّ يقتضي سقوط الغسل أصلاً ، فلا يعدّ فرضاً ولا مندوباً ، لقوله: زالت العلة إلخ، فيكون مذهباً ثالثاً في المسألة. انتهى.
ولا يلزم من زوال العلة سقوط النّدب تعبّداً، ولا سيّما مع احتمال وجود العلة المذكورة. ثمّ إنّ هذه الأحاديث كلّها لو سلمت لَمَا دلَّت إلَاّ على نفي اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرّد كما تقدّم.
وأمّا ما أشار إليه ابن دقيق العيد. من أنّ بعضهم أوّله بتأويلٍ مستكره ، فقد نقله ابن دحية عن القدوريّ من الحنفيّة ، وأنّه قال: قوله " واجب " أي: ساقط، وقوله " على " بمعنى عن، فيكون المعنى أنّه غير لازمٍ.
ولا يخفى ما فيه من التّكلّف.
وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللّغة السّقوط، فلمّا كان في الخطاب على المكلف عِبءٌ ثقيل كان كلّ ما أكّد طلبه منه يسمّى واجباً كأنّه سقط عليه، وهو أعمّ من كونه فرضاً أو ندباً.
وهذا سبقه ابن بزيزة إليه، ثمّ تعقّبه: بأنّ اللفظ الشّرعيّ خاصّ بمقتضاه شرعاً لا وضعاً.
وكأنّ الزّين استشعر هذا الجواب فزاد أنّ تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادثٌ.
وأجيب: بأنّ " وجب " في اللّغة لَم ينحصر في السّقوط، بل ورد بمعنى مات، وبمعنى اضطرب، وبمعنى لزم وغير ذلك. والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنّها بمعنى لزم، لا سيّما إذا سيقت لبيان الحكم.
وقد تقدّم في بعض طرق حديث ابن عمر " الجمعة واجبة على كلّ محتلم " وهو بمعنى اللّزوم قطعاً ، ويؤيّده أنّ في بعض طرق حديث الباب " واجب كغسل الجنابة " أخرجه ابن حبّان من طريق الدّراورديّ عن صفوان بن سليمٍ، وظاهره اللّزوم.
وأجاب عنه بعض القائلين: بالنّدبيّة بأنّ التّشبيه في الكيفيّة لا في الحكم.
وقال ابن الجوزيّ: يحتمل أن تكون لفظة " الوجوب " مغيّرة من بعض الرّواة أو ثابتة ونسخ الوجوب.
وردّ: بأنّ الطّعن في الرّوايات الثّابتة بالظّنّ الذي لا مستند له لا يقبل، والنّسخ لا يصار إليه إلَاّ بدليلٍ، ومجموع الأحاديث يدلّ على استمرار الحكم، فإنّ في حديث عائشة ، أنّ ذلك كان في أوّل الحال حيث كانوا مجهودين، وأبو هريرة وابن عبّاسٍ إنّما صحبا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن حصل التّوسّع بالنّسبة إلى ما كانوا فيه أوّلاً، ومع ذلك فقد سمع كلٌّ منهما منه صلى الله عليه وسلم الأمر بالغسل والحثّ عليه والتّرغيب فيه.
فكيف يدعى النّسخ بعد ذلك؟.
فائدةٌ: حكى ابن العربيّ وغيره أنّ بعض أصحابهم ، قالوا: يجزئ عن الاغتسال للجمعة التّطيّب ، لأنّ المقصود النّظافة.
وقال بعضهم: لا يشترط له الماء المطلق ، بل يجزئ بماء الورد ونحوه.
وقد عاب ابن العربيّ ذلك ، وقال: هؤلاء وقفوا مع المعنى وأغفلوا المحافظة على التّعبّد بالمعيّن، والجمع بين التّعبّد والمعنى أولى. انتهى.
وعكس ذلك قول بعض الشّافعيّة بالتّيمّم، فإنّه تعبّد دون نظر إلى المعنى، أمّا الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود ، لأنّها عبادة لثبوت التّرغيب فيها فيحتاج إلى النّيّة ولو كان لمحض النّظافة لَم تكن كذلك. والله أعلم.
تكميلٌ: بوَّب عليه البخاري " باب فضل الغسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء ".
اعترض أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التين على هذا الشق الثاني من الترجمة ، فقال: ترجم. هل على الصبي أو النساء جمعة؟ وأورد " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وليس فيه ذكر وجوب شهود ولا غيره.
وأجاب ابن التين: بأنه أراد سقوط الوجوب عنهم، أما الصبيان فبالحديث الثالث في الباب حيث قال " على كل محتلم " فدلَّ على أنها
غير واجبة على الصبيان.
قال: وقال الداودي: فيه دليل على سقوطها عن النساء ، لأنَّ الفروض تجب عليهن في الأكثر بالحيض لا بالاحتلام.
وتعقب: بأن الحيض في حقهن علامة للبلوغ كالاحتلام، وليس الاحتلام مختصاً بالرجال ، وإنما ذكر في الخبر لكونه الغالب ، وإلا فقد لا يحتلم الإنسان أصلاً ، ويبلغ بالإنزال أو السن. وحكمه حكم المحتلم.
وقال الزين بن المنير: إنما أشار إلى أنَّ غسل الجمعة شرع للرواح إليها كما دلت عليه الأخبار، فيحتاج إلى معرفة من يطلب رواحه فيطلب غسله، واستعمل الاستفهام في الترجمة للإشارة إلى وقوع الاحتمال في حق الصبي في عموم قوله " أحدكم " لكن تقيده بالمحتلم في الحديث الآخر يخرجه.
وأما النساء فيقع فيهن الاحتمال بأن يدخلن في " أحدكم " بطريق التبع، وكذا احتمال عموم النهي في منعهن المساجد، لكن تقيده بالليل يخرج الجمعة. انتهى.
ولعلَّ البخاري أشار بذكر النساء إلى ما تقدَّم قريباً في بعض طرق حديث نافع، وإلى الحديث المصرِّح " بأن لا جمعة على امرأة ولا صبي " لكونه ليس على شرطه ، وإن كان الإسناد صحيحاً ، وهو عند أبي داود من حديث طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورجاله ثقات.
لكن قال أبو داود: لَم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم إلَاّ أنه رآه.
انتهى. وقد أخرجه الحاكم في " المستدرك " من طريق طارق عن أبي موسى الأشعري.
قال الزين بن المنير: ونقل عن مالك أنَّ من يحضر الجمعة من غير الرجال إن حضرها لابتغاء الفضل شرع له الغسل وسائر آداب الجمعة، وإن حضرها لأمر اتفاقي فلا.