الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ تَعَالَى:
(أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)
.
فعل (أتى) يتعدى بنفسه ويتعدى بحرف، ويجيء لازما، ويختلف معناه حسب سياقه، فمن عزله عن تركيبه الذي ورد فيه، ووقف على مدلوله اللغوي منفردا، وانصرف عن تأثيره في جواره وتأثره، وأغفل معاني الأسلوب ومغازي التركيب، منصرفا عن ديباجته غير مكترث بعبارته، فعندها تندرس بصماته، وتضيع على المتفرس ملامح وجهه، فكيف عند رسومه الميتة نطلب تفجير ماء الحياة؟! فالتركيب يعطيه شخصيته، ويكشف عن مراده.
ففي مجيئه لازما: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) أي دنا واقترب.
(وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) أي يظهر. أو يخرج وفي تعديته: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي تعطيه.
(وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى) أي يؤدونها.
(أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ) أي تلوطون.
(أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) و (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي تمارسون.
(فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) أي هذمه.
(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) أي ادخلوها.
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا) أي يفاجئهم.
(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أي يستقبله.
وهكذا يتلفت لفظ (أتى) على مسرح هذه التراكيب وفي مناحيها ليطلب لنفسه المعنى الذي يناسبه ويستسيغه، ويُجلي عن خفي معناه.
لنستعرض بعض أقوال المفسرين:
قوله تعالى: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ): تضمن إتيان السحر معنى اتباعه كما ذكر الجلالين أو حضوره كما ذكر الزمخشري أو قبوله كما ذكر الطبري، والبروسوي.
اقول: إن فقدان الشعور بالمسؤولية يجعل حياة الأمة فارغة مريضة، تسيطر عليها روح الاستهتار، فتلهو في مواقع الجد، وتهزل في مواطن الخطر، يصفون القرآن بالسحر والشعر وأضغاث أحلام، فيقول الظالمون منهم:(أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ). إنها صورة شائهة تستحيل فيها الحياة إلى حالة من الانحلال لا تصلح لأداء واجب أو قيام بتكليف، يلجؤون إلى مقاومة تأثير الرسول بأنه بشر فكيف تؤمنون لبشر؟ وإنما جاء به السحر فكيف تتبعونه أو تقبلونه وفيكم عيون تبصر؟! وهكذا من طلب المعنى من وراء اللفظ معزولا عن نظمه وحصر (الإتيان) بمعنى (المجيء) وقصره على معناه المعجمي، كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته وفتح أبواب الشَّين على نفسه، وإنَّمَا اللفظ في العربية طبيعة تعمل في طبيعة، وليست ألفاظا عمياء تتوجه بطبيعة غير مدركة، وحين خفي على بعضهم هذا، قالوا؛ الإتيان معناه المجيء وحسب، ولعمري إنه في اللغة كما ذكروا غير أنه في هذا الموضع لا يُراد به ما ذكروا.
نعم تختلف دلالة اللفظ حسب سياقه الذي ينتظم فيه، وموقعه والقرينة التي توجه مساره، فتضمين (أتى) معنى (اتبع) كما أشار الجلالين، أو معنى
(حضر) كما ذكر الزمخشري وأبو حيان تكشف عن بعض المراد، ولكن لا تجلي عنه، وإنما القصد في الإتيان: القبول كما قال الطبري، والآلوسي يعللون أثر القرآن المزلزل في نفوسهم بشتى العلل حائرين.
أتقبلون السحر وترضوْنه وأنتم أصحاب عقول؟ فالذي جاءكم به إنما هو بشر فكيف تأتون السحر أي تقبلونه وتتبعونه وتعتقدونه؟ فتضمين الإتيان معنى القبول والاتباع والاعتقاد يكشف عن حقيقة هؤلاء الظالمين المنحلين العابثين بالقيم. كلما جاءهم من القرآن جديد تلقوه باللهو والاستهتار، واستمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم، فرغت من القداسة فانتهت إلى التفاهة، تلهو بالمقدسات ولا تضطلع بواجبات.
إنها صور بشرية تتردد في كل زمان، مريضة لا هدف ولا قِوام.
ويبقى على اللسان سؤال: لم قال (تأتون) بدلا من (تقبلون)؟ وأجيب: اللفظ في كتاب اللَّه مشع فلو قال: تقبلون السحر لحصر المعنى في قبوله لا غير، وإنما تريد الآية أن يكون القبول واحداً من دلالات الفعل كما مر:
تقبلونه، وتتبعونه، وتعتقدونه، و
…
فكيف تصرفت الحال فالاتساع فاشٍ في مناحي القول فيه، وللعرب ألفاظ متشعبة في دلالتها تقضي بها حوائجها. ثم كيف تأتي أمرا ما تحضر مجلسه وتُقبل عليه، إن لم تكن على قناعة به وقبول؟! فجمع التضمين المعنيين الإقبال عليه
…
وقبوله
…
، وفاز بالحسنيين.
وإذا السؤال مع النَّوال بَذَلته
…
أعطاكه سَلِساً بغير مَطالِ
* * *
قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)(1).
ذكر الطبري عن مجاهد: لقنَّاها إبراهيم وبصرناه إياها وعرفناه على قومه.
وذكر أبو السعود: علمناه إياها، ومثله البروسوي: أرشدناه وعلمناه وكذلك الجلالين: أرشدناه لها، وقال أبو البقاء نقله الجمل: آتيناها إبراهيم مستعلية على قومه قاهرة لها.
وقال الآلوسي: آتينا تضمن معنى الغلبة ويتعلق به (على قومه).
وقال أبو حيان: ويجوز أن يكون مع موضع الحال وحذف المضاف أي آتيناها إبراهيم مستعلية على حجج قومه قاهرة لها.
أقول: لعل تضمين الإتيان معنى التزويد والتسويد معا أي الحجة التي زودناه إياها فسودناه على قومه ليدحض بها حجتهم أقرب للسياق، سياق الحجج والبراهين، فغالب أو مغلوب. فتضمين (آتى) معنى زود وسود أدنى إلى نفحات مدلول النص، جَعَلَت إبراهيم يسود بهذا الزاد على قومه ويكشف عن وهن ما هم عليه فـ (آتيناها) وما أومأت إليه وعقدت غرضها عليه من قوة
الحجة؛ جعلت إبراهيم ينهزم الباطلُ أمامه: قوة ليس معها ضعف، ثقة ليس معها تردد، أمن ليس معه خوف، واطمئنان ليس معه قلق
…
يعلو بهذه