الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إتقان الصنعة وحُسْنِها (فيما صنع وسوَّى وأبدع) فيرقى إلى حد الجمال والكمال: جمال الصورة وكمال التكوين في كل ما خلق مع تناسق الكل في هذا الوجود. تلفتنا الآية في كل ما حواه التضمين من هذه اللطائف إلى الاستمتاع بها ليتتبع القلب اليقظ مواطن الحسن والجمال في هذا الوجود.
ولا يدرك القلب هذا النعيم إلا حين يستيقظ من الإلْفَة، ويبصر بنور اللَّه الأشياء كما أبدعها الصانع، فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع، فيزيد شعوره بجمال ما يرى ويحس. إن هذا الوجود جميل، وإن جماله لا ينفد، هذه الفراشة
…
هذه الوردة
…
هذه النجمة
…
تلك الغيوم
…
في هذا الوجود متناسقة لا عوج فيها ولا فطور. يلفتنا كتاب ربنا إليها لنتملاها وهو يقول: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ليوقظ القلب فيتتبع مواطن الحسن والجمال في هذا الوجود.
إنه التضمين كلما زدته فكراً زادني معنى، أتعرف أسراره ليفتح القلب على لطائفَ من هذه اللغة الشريفة.
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)
(2).
أحسن يتعدى بـ (إلى). قال: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
وقد يتعدى بالباء (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ولا يتعدق الجار والمجرور بـ إحسانا لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ذكر ذلك أبو حيان والعكبري: وقد يكون ضمن (أحسن) معنى (لطف). وقيل: المفعول محذوف أي (صنعه).
قال السيوطي: أحسن بي: أي (إليَّ) أفاد معنى الغاية. أ. هـ. وذكر الزمخشري: يقال أحسن إليه وبه وكذلك أساء إليه وبه. قال زهير:
* إذا قوم بأنفسهم أساؤوا *
وأساء في تعديته مثل أحسن. وقال كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
…
لدينا ولا مقلية إن تقلَّت
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن ".
وقال الآلوسي: حمله بعضهم على تضمين أحسن معنى لطف ولا يخفى ما فيه من اللطف، والمعروف في الاستعمال تعديه بالباء، وبه صرح في الأساس وعليه المعول (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) وفي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم:
" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله ". وقيل الباء بمعنى إلى.
وقيل المفعول محذوف. أي أحسن صنعه بي فالباء متعلقة بالمفعول المحذوف، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو ممنوع عند البصريين. وفرق الزركشي بين الحرفين وأكد أن الباء أليق بيوسف لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد الغاية التي صار إليها.
أقول: إذا كان الفعل أحسن يتعدى بالباء فلا تضمين. وما دام الخلاف قائما فتضمينه معنى (لطف) المتعدي بالباء كما مر يستنيم إليه السياق، فاللطف فرع من الإحسان، والإحسان أعم منه وأشمل.
وفي قول يوسف عليه السلام غاية الأدب وكمال الاعتراف بالجميل حين عبر (بالباء) بدلا من (إلى) لأن ألطاف اللَّه مسَّته فما كان أشد بها أُنْسه، إنها زهور تفوح بالعطر حين لصقت به محاسنه، فلم يجعل محاسن اللَّه وألطافه خارجة عنه، بعيدة منه، تصل إليه بـ (إلى) كما جاء في قوله تعالى:
(كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) مخاطبا قارون بلسان قومه أن يحسن إلى الناس كما أحسن اللَّه إليه. وأي إحسان أعز وأشرف من الجاه والسلطان! ومن كمال أدبه لم يذكر الجب مراعاة لمشاعر إخوته.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا)(1).
قال النحاة: الجملة الخبرية إذا خلت من فائدة الخبر أفادت معنى التعجب إذا اقتضى المقام ذلك. وعليه يكون؛ قد أحسن: أي ما أحسن رزقهم وما أعظمه. قال الزمخشري: فيه معنى التعجب والتعظيم. وقال الجمل: أي رزقا عظيما عجيبا فيه تعجب وتعظيم لما رُزقوا من الثواب.
قال البروسوي: ولا يبعد أن يكون (له) بمعنى (إليه). أ. هـ. أي على مذهب أهل الكوفة في تضمين الحروف.
أقول: الأوْلى أن نضمن (أحسن) معنى (أعد) والمتعدي باللام. فهو