الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَزُر منه حظك وتخلفتْ عنه مرتبتك، فمرتقاه صعب، ومسلكه شاق، ومطلبه عسير.
* وظهر الأرض من دونه وعْرُ *
وبعدُ إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ.
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا)
(1).
قال أبو حيان: عُدِّي اركبوا ب (في) لتضمنه معنى: صيروا فيها أو ادخلوا فيها، وقيل:(في) زائدة للتوكيد أي اركبوها. وقيل: اركبوا الماء فيها. ثم نقل عن بعض المحققين قولهم: الركوب: العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه، واستعماله هاهنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن، فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى، بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك.
وقد فرَّق الجمل وفقل فقال: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا) لغير الإنس وقال: (ارْكَبُوا فِيهَا) للإنس.
واستعماله كلمة (في) ليس لأجل أن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظُن فإن أظهر الروايات أنه جعل الوحوش ونظائرها في جوفها والأنعام في وسطها وركب ومَن معه في الأعلى، بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك، والسر فيه أن معنى الركوب: العلو على شيء له حركة إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة، ففي الأول: ركبت الفرس (وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) وفي الثاني: يلؤح بمحلية المفعول بكلمة (في)(رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) و (رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا) وقد نقل الآلوسي هذه الأقوال وأضاف: قيل التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا.
أ. هـ. ونقل الرازي قول الحوفي: ولفظة (في) في قوله (اركبوا فيها) لا يجوز أن تكون صلة الركوب لأنه يقال: ركبت السفينة، لا في السفينة بل الوجه أن يقال: مفعول اركبوا محذوف والتقدير: اركبوا في السفينة وأيضا: يجوز أن يكون فائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها، فلو قال اركبوها لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهرها.
أقول: هذا نوح عليه السلام يقول للخِيَرة من قومه اركبوا فيها
…
إنه التعبير عن الاستسلام للمشيئة الإلهية في الركوب والجريان والرسو
…
فماذا يملك نوح في هذه اللُّجة الطاغية؟!.
الموج كالجبال يطغى على الذرى والوديان
…
إنه مشهد العاصفة المدمرة في الطبيعة الصامتة.
الركوب هنا تضمن في سياق الآية معنى الحظ والمتعدي بـ في.
فلْيحطوا فيها يتابعوه ولا يعصوه فيما أمر حيث لا عاصم ولا حامٍ ولا واقٍ من أمر اللَّه إلا من رحِم، فقد جمع التضمين الركوب مع المتابعة
والاستسلام، مع عدم العصيان فيما أمرهم به عليه السلام فكان إلى الإيجاز أميل، وبه أعنى، وفيه أرغب. وهذا مما أهملته المعاجم أما ما قيل من زيادة (في) فمنسوب إلى سوء التأمل. وأما تضمين اركبوا معنى: صيروا أو ادخلوا أو انزلوا فمستكره. فترفق بهذه الحروف بالملاينة في التأويل والتلطف بحسن الصنعة لتنال منها مرامك وتأوي إلى سداد، وتؤول إلى ثقة.
* * *
قَالَ تَعَالَى (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ)(1).
جاء في كتاب الأفعال: ركض ركضا: مشى، وفي الأمر: فعله ماشيا أو جالسا، والأرضَ ضربها برجله، والدابةَ استحثها، والطائر والفرسَ: أسرعا والصواب ركض الفرس.
والجوهري: الركض: تحريك الرجل ومنه (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ).
وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو. وقال الفراء: (إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ) يهربون وينهزمون ويفرون.
وقال الزجاج: يهربون من العذاب. وقال البروسوي: يهربون مسرعين راكضين دوابهم. ومثله البيضاوي فالفعل يتعدى بالباء وبفي ولا يتعدى بمن إلا على التضمين كما قال الفراء والزجاج أي يهربون وينهزمون منها وذكر الآلوسي: والركض كناية عن الهرب وجوّز أن يكون استعارة تبعية.
أقول: (من) هذه هي التي آذنتنا بما تضمنه فعلها من معنى الهزيمة
والفرار حين تعدى بغير حرفه المعتاد وحملناه على حقيقته من غير دل إلى المجاز. إنها صورة حسية تشخص حالتهم النفسية، وقد أظلمت عليهم نفوسهم، ودُمِّرت عليهم ديارهم، فهم من بأس النازلة وهولها يضطربون كالفئران في المصيدة، حركات عشوائية بلا تفكير ولا شعور، يطلبون سبيل النجاة. فالركض على سعته وتناشره، اغترق جميع مداليله.
إنها الهزيمة من باس الله وعذابه، وإنه الدمار يحل بالقرى الظالم أهلها، وحسبوا أن الركض ينجيهم من العذاب، والهرب والفرار يخلصهم من الدمار، وأنهم أسرع من إدراكه لهم، ولكنها الغفلة. ثم تلسعهم لذعة التهكم المرير:(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ). وعندها يستحسرون .... يا ويلنا! إنا كنا ظالمين ..... ولات ساعة مَندم.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)(3).
رجّح العكبري: (غير تخسير) الأقوى في المعنى أن يكون (غير) هنا استثناء في المعنى وهو مفعول ثانٍ لتزيدونني أي: فما تزيدونني إلا تخسيرا.
ويضعف أن تكون صفة لمحذوف في تزيدونني شيئا غير تخسير وهو ضد المعنى.
أما أبو السعود فقال: (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي) إذاً باستتباعكم إياي أي لا تفيدونني - إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه منه - غير تخسير أي تجعلونني خاسرا بإبطال أعمالي
وتعريضي لسخط اللَّه تعالى. وقد نقل الآلوسي عن ابن عطية قوله: المعنى فما تُعطونني فيما أقتضيه منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم. وعن مجاهد ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا. وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان قد سألهم الإيمان. وقال الزمخشري: غير تخسير يعني: تخسرون أعمالي وتبطلونها أو غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران.
أقول: أتدعونا أن نترك آلهة آبائنا إلى عبادة إله واحد؟ يا لخيبة الرجاء فيك يا صالح! ويجيبهم: ماذا يكون يا قوم إن قصرت في إبلاغكم دعوة ربي احتفاظا برجائكم فيَّ؟ إن مراعاته لرجائهم فيه، سيعطيه خسارة فوق خسارة، خسارة الوقوع في غضب اللَّه لتقصيره في تبليغهم دعوة ربه، وخسارة الحرمان من شرف الرسالة التي شرفه اللَّه بها. سيزيدونه إذاً خسارة الدنيا فوق خسارة الآخرة.
وإنما غالب أمرهم، ومجموع غرضهم أن يكص عن دعوته إلى التوحيد.
وعلى أسلوب من الملامحة لهذا الغرض جاء معنى الزيادة في خسارته، إذ ليس هو من الخسران في شيء حتى يزيدوه منه.
إن الداعية إلى اللَّه يستعلي بإيمانه أمام قوى الجاهلية، يقف من أنظمتها وأجهزتها موقف المفاصلة، فلا مهادنة ولا ملاينة، فالتضمين جعل الفعل (زاد) والمتعدي لمفعول واحد متعديا لمفعولين وهو موحٍ جدا في هذا السياق لأنهم سيخسرون خسارتين: خسارة الدنيا فوق خسارة الآخرة. فمن غفل عن تضمين زاد، فقد بخسه حقه، وأبطل مزيته، وضيَّع خالصه ولُبّه.
* * *