الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال صلوات اللَّه عليه: " ألا من ولي يتيما له مال فلْيتجر فيه ".
إنه التضمين خفقة تكشف عن حقيقة، ولمحة تحمل صورة تتفتح عن رصيدها المذخور وإيحائها المتجدد.
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
(2).
يرى الزمخشري: بأن رضيته لكم يعني اخترته لكم. وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده.
وقال الطبري: رضيت لكم الاستسلام لأمري والانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده، دينا: يعني طاعة منكم لي.
أما الجمل (5): فيرى أن في رضي وجهين: أحدهما: أنه متعدٍ لواحد وهو الإسلام، ودينا حال والثاني: مضمن معنى (صير وجعل) فيتعدى لاثنين أحدهما متعلق برضي والثاني متعلق بمحذوف حال من الإسلام لكنه قدم عليه.
وقال الآلوسي: رضيت لكم: اخترته لكم من بين الأديان وقد نظر في الرضى معنى الاختيار ولذا عدي باللام. ومنهم من جعل الجار صفة لـ (دين) قدم عليه فانتصب حالا، و (الإسلام) و (دينا): مفعولا رضيَ إن ضُمن معنى صير، أو: دينا منصوب على الحالية من الإسلام، أو تمييز من لكم، والجملة مستأنفة معطوفة على أكملت، وإلا فإنه لم يرضَ لهم الإسلام قبل
ذلك اليوم دينا وليس كذلك. ويكرر أبو حيان قول الزمخشري وابن عطية.
ويقول القرطبي: أعلمتكم برضاي به لكم دينا وقيل: رضيت عنكم، ويحتمل رضيت إسلامكم دينا باقيا.
أقول: تضمين (الرضا) معنى (التصيير والجعل) غير سديد يتجافى عنه السياق، فما معنى أن يصير الإسلام دينا، وماذا كان قبل تصييره؟ وتضمين (رضي) معنى (اختار) لا يستقيم لأنه لا يتعدى إلى مفعولين وعندها يصبح الدين فضلة ما دام حالاً، ولعل تضمين (رضي) معنى (وهب) أسوغ وآنس وأحكم فهو يتعدى لمفعولين، فالمنعم أتم عليهم نعمه حين وهب لهم الإسلام دينا، فهذه الهبة الربانية من تمام النعمة وكمالها، وهي رمز الرضا وعنوان المحبة، إذ كيف يهب لهم هذا الدين وهو غير راضٍ لهم إياه؟! وهل يخصني أحد بهبة غالية نفيسة إلا إذا كان في منتهى الرضا عني! جاء النص من أن هذا الدين الذي وهبه لهذه الأمة قد ارتضاه بعد أن أتمه وأكمله. ولم يدع السياق أمر الطاعة والاتباع مجملاً، بل نص على وجوب الحكم بما أنزل نصاً، وإلا فهو الكفر
…
والظلم
…
والفسق.
وما كان تعدي (رضي) باللام إلا صرفا لوهم السامع عن أن يقف عند حدود الرضا وحسب، بل من وراء الرضا هذه الجوهرة السنية والمنحة الإلهية والهبة الربانية
…
إنها الإسلام العظيم وإنها الدين القويم. فاللَّه العليم الحكيم اختار لفظ (رضيت) وعداه باللام ليضمّ إلى عبير الهبة وشذاها، نسيم الرضا وألطافه فتروعنا بهجته، ويؤنسنا بوجهه، فتكون هذه الهبة الفوّاحة (الإسلام) ما تتمثّل به نفوسهم دينا قِيمًا وعقيدة ترسو في تصورهم ومنهجاً
يتحكم في كل شؤون حياتهم الفردية والاجتماعية والدولية. يستحقون به رضا مولاهم.
إنه التضمين
…
على ضروب البيان
…
لم يشتفِ بمثيل
* * *
قَالَ تَعَالَى: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ)(1).
قال الطبري: لعملها الذي عملت في الدنيا من طاعة ربها راضية وقيل: لثواب سعيها في الآخرة راضية.
وقال البيضاوي: اللام بمعنى الباء أي وجوه راضية بسعيها أي بعملها حين رأت ثوابه. وذهب أبو حيان: إلى أنها راضية بعملها في الدنيا بالطاعة. وأما الآلوسي فقد قال: اللام ليست للتعليل بل مثلها في رضيت بكذا أي بسعيها راضية أي اللام بمعنى الباء، وقيل: وفي الكلام مضاف مقدر أي (لثواب سعيها راضية) وجوز اللام للتعليل أي لأجل سعيها في طاعة القَه راضية، وذكر الزمخشري: رضيت بعملها لَمّا رأتْ ما أداهم من كرامة أقول: إنه رضا يفيض من الوجوه، وينبثق من النفس ويتشعب في حناياها، واطمئنان للقلب بهذا الشعور، شعور الرضا، ولا أروح للقلب من رضا المولى الكريم، وجوه ناعمة بما وجدت، حامدة بما عملت لأنها وجدت عقباه، وأحست بالراحة والطمأنينة لما قدمته. فـ (رضي) تضمن معنى
(ارتاح وسكن واطمأن) فتعدى باللام، والرضا يكون في المحابِّ كما يكون في المكاره، أما الراحة والسكن والطمأنينة فلا تكون إلا في المحاب.
فاللام ليست بمعنى الباء وهل يغني حرف عن حرف في تأدية المعنى الذي اختصه اللَّه واختار له من الحروف ما يُثريه ويُغنيه؟. وليست اللام للتعليل، وليس في الكلام مضاف مُقدَّر.
نعم جاءت اللام مع الرضا لتفيد فوق الرضا معنى الاطمئنان والراحة.
لقد جمع التضمين معنى الرضا إلى الراحة والسكينة والطمأنينة، ولا يتأتى هذا الثراء مع صرف الحرف إلى سواه ولا مع دعوى زيادته، وهذا نهج مأمومٌ عند عارفيه، ونظائره كثيرة فاشية، وليس أروح لقلب المؤمن من أن يطمئن إلى مسعاه ويرضى عاقبته ويستمتع بشعور الرضا عن عمله والاطمئنان له حين يرى رضوان اللَّه عنه، قد أشرقت له نفسه.
إنه التضمين
…
ورُبَّ طرف أفصح من لسان.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)(4)
ذكر القرطبي: أن رضي له قولا: أي رضي قوله. فجعل اللام زائدة.
وقال أبو حيان: (له) معناه (لأجله) وكذا في (رضي له) أي (لأجله) ويكون (مَن) للمشفوع له، أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي إلا شفاعة من أذن له. أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز ورفع على لغة تميم.
وذهب الزمخشري، والبيضاوي، والجمل، والآلوسي: إلى أن أذن له ورضي له: أي لأجله.
أقول: والذي تطمئن إليه النفس هو أن (الرضا) تضمن معنى السمع ومعناه هنا القبول حين تعدى باللام. أما أن يكون الرضا لأجل قوله فما أراها منسجمة مع السياق. فاللَّه أذن له أن يشفع، ورضي له أن يقول، فالرضا حصل قبل أن يقول، وليس من أجل ما سوف يقول، فشفاعته هذه معلاة له، شاهدة بفضله، ورضوان اللَّه عنه، وقبوله شاهد على عُلو قدره في حضرة المليك حيث يغمر النفوسَ جلالُه، فتخشع له الأبصار، وتَعِقد الألسنةَ خشيتُه، ويُخيم الصمتُ الرهيب على الجميع، فالوجوه عانية، والألسنة تخافُتٌ والكلام بتحريك الشفاه همسٌ واستسرارٌ من هيبة الرحمن، فلا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن وقَبِلَ له أن يقول، وكتب له القبول.
فجمع التضمين المعنيين: الرضا وما فيه من العذوبة مصرحا به،