الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس المشاكلة اللفظية في تعدية الذلة بـ (على) مقابل تعدية العز بها، ولا من باب التقديم والتأخير، ولا من باب حمل النقيض على النقيض. وإنما معناه: فسوف يأتي اللَّه بقوم أحنة على المؤمنين، حَدِبين عليهم، مشفقين عاطفين.
وآثر الأسلوب الحكيم أذلة على أحنة وأحدبة لإغراء المؤمنين بالاتصاف بها دون سواها لما فيها من نسيان الذات وغياب الأنا، مع اللين واليسر والسماحة والود. إنها أُخوة ترفع الحواجز وتزيل الكُلف وتُصفِّي النفوس، ذلة ليس فيها مَهانة، ذلة ليس معها حساسية بالذات تجعله عصياً على أخيه.
أرأيت التضمين ما أذهبه في مسارح النظر! وغرضه الفحص عن حقائق التأويل، ليوقفنا على أسرار التنزيل فيزيل اللبْس - حين يتعدى الفعل بغير حرفه - مُفتقاً عن أكمام إعجازه جانياً من قطوف ثمراته.
هل يشبه الإعجاز تغريد البلابل في السحر؟!.
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)
(1).
حكى الزمخشري: في اجتماع الهمزة والباء على التعدية نظر لأنهما متعاقبتان وهو الذي اقتضى قوله: فعلوا الإذاعة، ليخرجها عن الباء المُعَاقِبة للهمزة وهو أبلغ من أذاعوه. وقال القرطبي: أفشوه وأظهروه قبل أن يقفوا على حقيقته لكن ما فائدة الباء إن جاءت مزيدة؟! قيل: الباء زائدة نقل ذلك
الجمل والعكبري، ولفظ قيل يدل على التضعيف والتمريض. وقال الآلوسي: أذاعوا به: أفشوه والباء مزيدة. وقال النسفي: الباء مزيدة.
وقال الجمل: قيل: ضمن أذاع: تحدث فعداه تعديته.
اقول: يا عجبا من سوء تصورات وكالات الأنباء وضعف مداركهم، فإن البوح بكل خبر يأتيهم والتحدث به، وإشاعته يدل على شخصية همجية، والقرآن يريد أن يعد شخصية المسلم إعداداً مخالفاً لمألوفه، شخصية حضارية تخضع لقيادة موحدة: تجمع وتحلل وتستنبط و
…
فلا بَوْحَ ولا حديث ولا إفشاء إلا بإذن.
نعم حين يصبح أمر الأمن أو الخوف حديث المجالس في القضايا الحربية فسوف يحدث خلخلة في الصف وبلبلة في النفوس الضعيفة، لا بد إذا من الوقوف على جليته وأن يُرَد إلى ذوي الاختصاص في تحليل الأخبار ليقف الذين يستنبطونه منهم على تحليله وتعليله ومعرفة مغزاه.
ونبقى مع الفعل أذل في سوء مزاج من هذه الباء إن لم نفهم الغرض من تعديته بها. أما القول بزيادتها فلا حفل به ولا شأن له، ويتشنّع علينا تَحَفُلُهُ.
ولعل تضمين الفعل يكشف عن غرضه، فتضمين (أذاع) معنى (باح أو تحدث) والمتعدي بالباء ينسجم مع السياق وإن كان يوحشنا بوجهه ولا
تروقنا طلعته لما يحمل في حالتي (الأمن أو الخوف) من خطرٍ على صفوف المجاهدين، فكيف بنا مع إذاعة كل نبأ وإشاعته ونشره على الملأ، إنه سيحمل إذاً وِزْر ما أحدث من تصدع في الصف، وخلخلة في المعسكر، بل ما يحدثه من أثر مدمّر في نفوس المجاهدين خاصة والمسلمين عامة.
فالتضمين جمع المعنيين: صرح بأخطرهما - الإذاعة - ليقطع الطريق على كل منافق أو معطّل، أو متشكك ألا يتجراً على إعلان خبر أو نشره، ووارى في جعبته أقلهما خطراً وهو البث والبَوْح بأي خبر يلهج به ضعيفٌ أو واهي العزيمة.
بعض من المهاجرين ضعفت نفوسهم عن تكاليف القتال، فلا نستبعد أن
نرى فيهم صفة الإذاعة - بأمر من الأمن أو الخوف - لأن هذه تدل على عدم
الدربة على النظام ولا تدل على النفاق.
فعلى الناظر في كتاب اللَّه أن يتجشم المشقة في إنعام النظر في هذه الحروف لمعرفة ما استودعه اللَّه في أفعالها المتعدية بها لأنها أدل على لطف المسلك، وأشهد للغرض، وأوفى بشرح العلة من وجه لا يفطن له إلا من أوتي النظر.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(1).
ذكر الآلوسي: خمسة وجوه في اللام.
أحدها: أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها وزيدت لتأكيد
معنى الإرادة لما في لام العلة من الإشعار والإرادة والقصد كما زيدت في: لا أبا لك.
ثانيها: للتعليل ومفعول يريدون محذوف (يريدون الإطفاء).
ثالثها: أن الفعل (يريدون) حال محل المصدر: مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة لإطفاء نظير - تسمع بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه -.
رابعها: أن اللام مصدرية بمعنى أن من غير تقدير والمصدر مفعول به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة.
خامسها: أن (يريدون) منزل منزلة اللازم لتاويله (يوقعون الإرادة) قيل: وفيه مبالغة لجعل كل إرادة لهم للإطفاء. أ. هـ.
وذكر الزمخشري: وكان هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك. وإطفاء نور اللَّه بأفواههم تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم: هذا سحر.
أقول: (يريدون) والإرادة شعور نفسي لا خطر فيه إن لم يظهر على السطح في قول أو عمل، كالحسد. لم تأت الآية (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ) وحَسب لأن الحسد متوفر لدى كثير من الناس بل جاءت (إِذَا حَسَدَ) أي إذا ظهر في صورة فعلية نحو محسوده.
واللام في قوله (لِيُطْفِئُوا) مع مجرورها: (المصدر المؤول لإطفاء)
متعلقان بفعل يريدون المتضمن معنى يسعون والمتعدي باللام الإرادة هي
النية، وتعديتها باللام تضمنت معنى السعي، والسعي عمل، فالتضمين جمع إلى
الإرادة السعي أي إلى النية العمل، ولا يغني أحدهما عن الآخر في قبول العمل
كما في قول اللَّه سبحانه: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ
مُؤْمِنٌ) فجمعت الآية الإرادة مع السعي.
فيهود يسعون في حرب الإسلام والمسلمين في شتى الوسائل حربا
مسعورة تجلت:
1 -
بالاتهام (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ).
2 -
بالدس والوقيعة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج.
3 -
بالانضمام إلى الأعداء في غزوة الأحزاب.
4 -
بالإشاعات الكاذبة في حديث الإفك: عبد اللَّه بن أُبي بن سلول.
5 -
بالإسرائيليات المدسوسة في السيرة والتفسير.
إنها صورة بائسة مضحكة، تدعونا إلى رثاء هؤلاء الأغبياء وهم يحاولون
جادِّين مجتهدين لإطفاء نور الله، ورغم ما يرصدونه من حرب وكيد في كل
بلد من ديار المسلمين، ما زال لهذا الدين دوره يؤديه مهما سعى أعداؤه
المهازيل في التشكليك والتضليل، وله أهله لا يخافون في اللَّه أحدا.
إنه التضمين يكشف عن وجه الإرادة فإذا هي المسعى الخبيث لإطفاء
نور اللَّه حاشاه أن يُطفِئَ نورَه أحدٌ.
أما ما جاء في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ
…
) فليست الإرادة هنا بمعنى الرغبة، وليست اللام كما ذكر