الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ تَعَالَى:
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)
(1).
ذكر أبو حيان: عُدي الرفث بـ (إلى) وإن كان أصله الباء لتضمنه معنى (الإفضاء). وقد ذهب ابن جني وغيره كابن الشجري والزركشي إلى أنها في معنى الإفضاء.
وأنت لا تقول رفثت إلى المرأة وإنما تقول: رفثت بها أو معها، ولكنه لما كان الرفث هنا بمعنى الإفضاء، وكنت تُعدي أفضيت بـ إلى، جئت بـ (إلى) مع الرفث إيذانا بأنه في معناه.
أقول: الرفث: الإفحاش. وهو بالفرج: الجماع وباللسان: المواعدة للجماع، فتضمين الرفث وهو مقدمات المباشرة أو المباشرة ذاتها معنى الإفضاء والمتعدي بـ (إلى) يمنح العلاقة بين الزوجين لمسة إنسانية تترفع بها عن عالم الحيوان، لمسة حانية فيها من الرفق والنداوة والشفافية مثلما ما فيها من سمّو المشاعر.
أما ما ذهب إليه ابن الجوزي: أن إلى بمعنى الباء فنُبُو عن فقاهة النظم وغضٌّ من نفاسته.
وتحسُرُ (إلى) هذه عن مَسافر وجهها الجميل لتحكي ما اشتملت عليه المشاعر حين جمعت الرفث إلى الإفضاء فيما أحلّ اللَّه للزوجين في شهر الصيام، لتَنْأى بهما عن عُرام الجسد والحبيس في الرغبات المكبوتة في
اللحم والدم بعد أن تستتْبع خلفها معنى السِتْر يتدثر به كل من الزوجين (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ). ولتتصل بأُفق أرفع من الأرض، وبغاية أسمى من اللذة، تَرِقُّ وترقى إلى معارج عُليا للتربية والعطاء
…
فيربط توجيه كل نشاط باللَّه عز وجل (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ).
ومن هنا ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم لترقية البشرية والاستعلاء بها، وقيمة المنهج الإسلامي للتربية حين يربط كل نشاط وكل حركة باللَّه عز وجل.
وحسب التضمين أنه جعل في لفظ الرفث نداوة يخضر بها ويرمي ظلاله، ولمسةً رفّافةً تنأى عن عُرام الجسد، تبتغي الإعفاف والإنجاب وتوقظ معنى الستر في هذا الحرف (إلى)، فجمع من صنوف البيان ما ذاع صيته على كل لسان.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي درجاتٍ بالتنوين وقرأ الباقون درجاتِ بالإضافة. ففي قراءة الأوائل وقع رفع الدرجات، على (مَن) لا على الدرجات. والرفع عند الباقين واقع على الدرجات.
ليس لنا أن نرد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها، فالقرآن نزل بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ كما قال صلوات اللَّه عليه.
ذكر أبو حيان: درجات ظرف أو مفعول ثانٍ. ضمن نرفع معنى ما يتعدى
إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات، أما الصلة (على قومه) فعلقها الآلوسي بـ آتيناها لتضمنه معنى الغلبة.
أقول: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) ألهمه اللَّه الحجة وأظهره على قومه، وبمقتضى حكمته منحه درجات عليَّة عَلَتْ بها حُجته وارتفع على قومه فكشف عن تفاهة تصورهم وزَيْف مُعتقدهم، وبمقتضى مشيئته خصَّه بهذه الدرجات من سائر خَلقه، إنه منطق المؤمن الواثق بربه، المدرك حقائق هذا الوجود، يجد اللَّه في نفسه وضميره، وخاطره، وفي الكون كله من حوله
…
اللفظ يختلف معناه حسْب انتظامه في عبارته. أين معنى الرفع في قوله سبحانه: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) من معناه في قوله: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) و (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ).
جاء الرفع للدرجات حين تعدى لمفعول واحد فهو سبحانه يزيده منها ما يشاء أما في التعدية لمفعولين فقد جاء الرفع لإبراهيم لا للدرجات تأليقا لمكانته وظهورا على قومه، فهي جائزة سنيّة، ومنحة ربانية، لا تفتح الأعين من أحلامها بل تفتح الأرواح على أحلامها.
جاء الرفع إذاً متعديا لمفعولين في قراءة عاصم وحمزة والكسائي ليُهيئ لإبراهيم عليه السلام فرصة الظهور على قومه، وليخلع عليه مِنحة من فضل ربه، تظهر فيها مزيتة على قومه في الحجة التي ألهمه إياها فتعلو، ويدحض حجتهم فتهوي ويرتفع على قومه عقيدةً ومنزلة وحجة. فجمع التضمين المعنيين: المنحة والظهور ليكون أبلغ في إعجاز الآية الكريمة.
ولو سألت: لم جاء التعبير ترفع بدل تمنح؟ أقول: وهل كل منح
يستلزم الظهور والرفع؟! إبراهيم عليه السلام .. هذا النمط الفريد من البشر، صنع اللَّه به ما صنع من الخوارق حين آتاه الحجة، ليتعامل بمقضياتها مع قومه في وعي والتزام تأخذنا روعته ..
* * *
قَالَ تَعَالَى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)(1).
قال السيوطي: عن بمعنى بعد وتساءل الزمخشري: فإن قلت فما محل (عن طبق)؟ قلت: صفة لـ طبق: طبقا مجاوزا عن طبق. أو حال من ضمير تركبن طبقا مجاوزين عن طبق. وقد ذهب الآلوسي: إلى أن المراد بالركوب الملاقاة أي لتلاقنَّ حالاً مجاوزة لحال أو كائنة بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، وقيل طبقات في الشدة بعد الموت من مواطن القيامة وأهوالها. وقيل: الطبق عشرون عاما، وروى القرطبي عن عكرمة: حالا بعد حال، وعن سعيد بن جبير: منزلة بعد منزلة. وعن الحسن: رُخاء بعد شدة، وغنى بعد فقر، وصحة بعد سقم.
أقول: السياق يصور الحالة النفسية في ركوب الأطباق، وينسقها مع إيقاع المشاهد الكونية في الآفاق. فالشفق الخاشع فيه معنى الوداع. والليل الحالك وفيه معنى الرهبة والخشية والجلال. والقمر الساحر يبدد نوره سُدْفة الليل البهيم، فيه معنى البهجة والأمل العريض.
لمحات كونية رائعة تخاطب القلب وتهز المشاعر مُلوحة بالقسم.
ويأتي جواب القسم .... لَتركبن. وأي ركوب هذا؟! إنه التعبير عن
المعاناة وما يلاقيه المسافر من مشقة الأسفار، وما يكشفه ركوبه عن سهول وجبال وآكام. بل وما يكشفه ركوبه من مجاهل النفس عن منازلَ وأحوالٍ كلما ارتقت منزلة سعت لأعلى منها، وكلما كشفت حقيقة جهدت لتدرك غيرها. ومن أحوال القلب عن تقلبات ومجاهدات ومكاشفات: من رقة بعد شدة ومطاوعة بعد إباء، واتصال بعد انقطاع، وقرب بعد ابتعاد. ومن أحوال الكون عما يأتي به الليل من ظلمة بعد نور، والقمر عن اكتمال بعد نقصان، ومن طوارق الليل والنهار، وعند الختام ما يكشفه من مواطن القيامة عن حال بعد حال.
الألفاظ في هذا الكتاب المعجز موحية وخلفها سر دفين، تُلمّح بالغرض ولا تصرح. فالتضمين جرى في (تركبن) ومراده (تكشفن) المتعدي بـ عن وجاء الركوب على طرف من الملامحة لأنه وسيلة من وسائل الكشف كما أسلفت. وفيه من اللمحات والسبحات ما يستجيش في القلب أقصى المشاعر تناغيه وتناجيه. فجلَّى التضمين وجه الحكمة في اختيار هذا الفعل
…
يستضيء به المعنى ويبدي لنا عن مكنونه.
جاء التضمين في ركوب الأطباق ليكشف صفحة عن هذه الكائنات تِلْوُ صفحة، وطوية عن عالم النفس إثْر طوية، ولو جاء التعبير: لتكشفن لخلا من معنى العَنَت والمشقة الموجودة في الركوب. ويبقى التضمين مصدر إثراء وعطاء في كتاب اللَّه الكريم، إن فزعت إليه حليت به وأنِقْت له. وإن تحاميته