الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خوف، وألا يقعدهم عنها أو يثبطهم صيحة مرجف أو لومة خائر
…
وأن يحتملوا متاعب هذا المقام الزلخ والطريق اللاحبة، لأنهم على مفرق طريق: سبيلِ المؤمنين وسبيلِ المجرمين.
إنه التضمين
…
لا يزال يفتر عن بديعة
…
ويفضي إلى لطيفة.
* * *
قَال تعالى:
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)
.
الاتباع: الاقتداء، أو الموالاة. ذهب أبو حيان وتبعه العكبري: إلى تضمين تبع معنى انحرف فعدي بـ (عَنْ)، وقال أبو البقاء في (عَمَّا جَاءَكَ) في موضع حال أي عادلا عما جاءك ولم يضمن (تبع) معنى ما تعدى بـ عن.
وهذا ليس بجيد لأن (عن) حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالا من الجثة، كما لا يصلح أن يكون خبرا، وإذا كان ناقصا فإنه يتعدى بكون مقيد، والكون المقيد لا يجوز حذفه، أو تضمين (تتبع) معنى (تتزحزح وتنحرف) كما ذكر الجمل. وكذلك ضمنه الزمخشري: معنى انحرف: لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم.
أقول: لقد تضمن النهي عن الاتباع معنى الصرف. لأنه يفي بالمراد وأدنى للسياق، فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصرف أهواءهم ويردها عما جاءه من
الحق لئلا يختلط باطلهم بحقه، فقد جعل اللَّه لأهل الحق شرعة ومنهاجا، ولأهل الباطل شرعتهم ومنهاجهم، ولا لقاء بينهما - (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6).
عرضت يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤمن له إذا تصالح معها على التسامح في أحكام خاصة كحكم الرجم. وتنزل هذه الآية لتقطع الطريق على كل رغبة في الاتباع أو حتى في التساهل في أمر دينه وشريعته لما يسمونه: وحدة الصف، وتأليف القلوب، والتطويع، ووحدة الأديان
…
إن شريعة اللَّه أغلى من أن تلتبس بالأهواء، وأبقى من أن يُضحى بحكم من أحكامها مسايرة لرغبة حاكم، أو رغبة في تأليف قلوب فرقة أو مذهب أو طائفة، أو ميلا إلى التساهل في بعض الأمور التي تبدو ليست من أساسيات الشريعة. فاللَّه قطع الطريق على هؤلاء جميعا حفظا لدينه بالحرف (عن) الذي أفاد معنى الصرف، صرف هؤلاء جميعا عن شرعه الحكيم، وردهم عن منهجه القويم، خشية أن يضل. ولو جاء الأمر بالصرف لانحصر في منظور ضيق لا يخرج عنه، ولضاع معنى النهي عن الاتباع والولاء، وهو منزلق الدعوات والدعاة.
فالتضمين جمع فأوعى في تحصين المعنى وتشريفه، والإبانة عنه وتصويره. ولو لجأنا إلى تقدير حال محذوفة - وهو بخالف أصول النحو - لذهبت الأنَسَة التي فيه والحسن الذي حواه، وتضمين (تبع) وهو متعد معنى (انحرف) كما مر وهو لازم يُضيِّق واسعا بحذف المفعول.
إنه التضمين
…
وإنه كنز دفين، من صبر عليه ذاق لذة الاستمتاع به.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)(1) روى البروسوي: أتبعه إتباعا إذا طلب الثاني اللحوق بالأول. وتبعه تبعاً: إذا: مرّ به ومضى معه. وذكر المالقي: أن الباء بمعنى مع، وكذلك المرادي، والسيوطي، وأورد الجمل: في تفسير الباء وجوهاً:
أحدها: أن تكون الباء للحال وذلك أن (أتبع) متعد لاثنين حذف ثانيهما
والتقدير: أتبعهم فرعون عقابه. وقدره الشيخ رؤساءه وحشمه والأول أحسن.
الثاني: الباء زائدة في المفعول الثاني، فأتبعهم فرعون جنوده كقوله:
(وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). وأتبع قد جاء متعديا لاثنين مصرحا بهما (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ).
والثالث: أنها المعدية، على أن أتبع قد يتعدى لواحد بمعنى تبع ويجوز
على هذا الواحد أن تكون الباء للحال أيضا، بل هو الأظهر.
وقال أبو السعود: تبعهم ومعه جنوده وقيل: أتبعهم فرعون نفسه فحذف المفعول الثاني وقيل: الباء زائدة.
أقول: ولعل تضمين (أتبع) معنى (ألحق). فألحقهم فرعون بجنوده
أسوغ من الزيادة في الحروف أو إبدالها، وليس إتباع فرعون بني إسرائيل إلا طلبا في اللحوق بهم للإجهاز عليهم فجمع التضمين المعنيين من غير إكراه ولا إغصاب. وحاز أسباب الإيجاز ونال سبيل الإعجاز، فاخلُدْ إليه وتعللْ به.
والعدول من لفظ إلى آخر يستضيء به المعنى ويتنبه على أسبابه. وفيه جمال خاطره وسِناد رأيه، وإقامة برهانه.
ويأتي السياق فيما أصاب فرعون وجنوده مجملا من غير تفصيل، ليكون وقعه في النفوس شاملا ومهولا. لقد تولت يد القدرة إدارة المعركة، بعد أن استعلن الإيمان في وجه الطغيان لا يخشاه ولا يرجوه:(فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) دون لجلجة ولا خوف
…
وهنا تدخلت يد القدرة لإعلان النصر
…
(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ).
إنه التضمين لا حذف ولا تقدير، ولكنه ملاطفة التأول، وفضل تأملٍ فيما أوحى إليه فِعْله وساغ من معانيه.
* كالمسك في نَشْره وفي عَبَقِه *
* * *
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)(3).
قال الآلوسي: كان استئذانه عليه السلام في اتباعه له مشروطا بالتعليم، والشرط مفهوم من (على) فقد قال الأصوليون: إن (على) تستعمل في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها، وذكر السرخسي: أنه معنى
حقيقي لها، لكن النحاة لم يتعرضوا له، وقد تردد السبكي في وروده، والحق أنه استعمال صحيح يشهد به الكتاب، حقيقة أو مجازا. ولا ينافي انفهام الشرطية تعلق الحرف بالفعل قبله، كما أنه لا ينافيه تعلقه بمحذوف حال: هل أتبعك باذلا تعليمك إياي؟ أقول: لقد تضمن الاتباع هنا معنى الطاعة، والطاعة مشروطة بالتعليم، والشرط مستفاد من الحرف (على) وقد أغفل النحاة هذا المعنى، وهو مثبت في كتاب اللَّه في الآية هذه وآيات أخر، وفي لغة العرب. فإذا مر بنا فعل ومعه حرف لا يألفه، ولا يأنس به، فلنحتكم إلى عِلل هذه اللغة الشريفة ولنترافعْ إلى طبيعة الصنعة فيها، وعندها نلقى في التضمين عونا على تجاوز العقبة، ففيه من الإيجاز ما جمع الاتباع والطاعة وهما من لوازم طلب العلم، ثم أتبعها بالصبر وهو من صفات طالب العلم، وأكدها بعدم العصيان قال تعالى:(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا). وهذا تناهٍ في البيان بهذا الأدب اللائق بنبي يستفهم ولا يجزم، يعجز عن وصفه اللسان. وأبلغ بيان ما سافر فيه النظر.
ولعل التأتي بين الألفاظ وملاءمة ذات بينها لإقرار التناسب هو سرُّها وجوهرها وتلك هي الصناعة الفنية: تتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتستدرك النقص فتتمه، وتكشف الجمال فتظهره.
* * *