الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ تَعَالَى:
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ)
.
(إلى) على بابها معناها الغاية ويكون الجمع في القبور، أو على تضمين (يجمع) معنى (يحشر) ويتعدى بـ (إلى) أو بمعنى (في) أو (مع). ذكر ذلك الزمخشري وأبو حيان، وذكر الرازي: ليجمعنكم في القبور إلى يوم القيامة أو ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم.
وحكى أبو السعود أنه قيل: (إلى) بمعنى (في)، وذكر ذلك الأشموني، والسيوطي، وابن هشام، والمرادي.
أقول: وقد يتضمن معنى ضم في سياق آخر. ففي الحديث: " حتى إذا قضى رسول اللَّه مقالته جمعتها إلى صدري "، وقد يتضمن معنى أنهى أو ألقى أو أتم أو ساق.
وهكذا تبقى (إلى) على أصلها ليست بمعنى (في) أو (مع) وإنما جرى التضمين في الفعل. ويتلوّن المعنى حسب السياق، فيكون بمعنى الحشر والمتعدي بـ (إلى)(فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)، أو الضم كما جاء في الحديث، أو السوق أو غير ذلك. ولعل الحشر أو السوق هنا أولى من سواه.
فتعريد من خشي اقتحام لجج هذه اللغة الشريفة، وتحاميه سبيل التنقيب عن أوضاعها، ينأى به عن تقصي عللها وتتبع مسالكها وإدراك مطالبها.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ)(2).
قال الزمخشري: أحببت مضمن معنى فعل يتعدى بـ (عَنْ)، كأنه قيل: أنبت حب الخير عن ذكر ربي، أو جعلت حب الخير مجزيا أو مغنيا عن ذكر ربي.
وذكر الهمذاني في كتاب التبيان: أن أحببت بمعنى لزمت. وقال ابن أبي حاتم: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) يقول: من ذكر ربي.
وذكر أبو حيان: وانتصب حب الخير على المفعول به لتضمن (أحببت) معنى (آثرت) قاله الفراء. وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي.
وقيل: عدي بـ (عَنْ) فضمن معنى أنبت أو جعلته منيبا عن ذكر ربي. وقال السيوطي: أحببت: أي (أردت) وضمن معنى (آثرت) فعدي بـ (عن).
وقال الرازي: التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن، وسليمان عليه
السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وقال: إنني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما لأمر اللَّه وتقوية دينه، وهو المراد بقوله: عن ذكر ربي، ثم إنه أمر بإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره، ثم أمر بردها فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض: تشريفها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
قال الطبري: أحببت حب الخير: أي أحببت حبا للخير ثم أضيف الحب إلى الخير، وعنى بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب تسمي الخيل: الخير، وتسمي المال: الخير، أحببت حب الخير حتى سهوت عن ذكر ربي وأداء فريضته، وقيل: إن ذلك كان صلاة العصر. حب الخير: مفعول به لأحببت المتضمن معنى (آثرت) قاله الفراء، وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي أي أحببت الخيل كحب الخير أي حبا كحب الخير، وقيل: عدي بـ (عَنْ) لأنه تضمن معنى فعل يتعدى بـ (عَنْ) أي أنبت حب الخير، عن ذكر ربي أو جعلت حب الخير منيبا عن ذكر ربي. وذهب أبو الفتح الهمذاني إلى
أن (أحببت) بمعنى (لزمت). وقالت فرقة: أحببت: سقطت إلى الأرض، مأخوذة من أحب البعير: إذا عيي وسقط أي عييت عن ذكر ربي حكاه أبو حيان ووافقه العكبري والزمخشري والجمل، وكذلك حكاه الرماني عن أبي عبيدة، وأورد البيضاوي: أصل أحببت أن يعدى بـ (على) لأنه بمعنى آثرت، لكن لما أنيب مناب أنبت عدي تعديته، وقيل: هو بمعنى تقاعدت من قوله:
* مثل بعير السوء إذ أحبا *
أي برك. وحب الخير مفعول له، والخير المال الكثير والمراد به الخيل
" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ".
وأورد الآلوسي: أن الإحباب: الإيثار على ما نقل عن الفراء فهو مما يتعدى بـ (على) لكن عدي هنا بـ (عَنْ) لتضمينه معنى الإنابة، وحب الخير مفعول به أي آثرت حب الخير منيبا له عن ذكر ربي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربي مؤثرا له.
وروى الزركشي: أنه قيل (عن) على بابها منصرفا عن ذكر ربي، فعن متعلقة باعتبار معنى التضمين أي تثبطت عن ذكر ربي وعلى هذا فحب الخير مفعول لأجله.
وقال الجمل: فيها أوجه: أحببت: آثرت، وتكون (عن) بمعنى (على).
أحببت: أنبت فلذلك تعدى بـ (عَنْ)، أحببت: لزمت - أجبت (من أحب البعير إذا برك من الإعياء) أي قعدت عن ذكر ربي. فحب الخير مفعول لأجله وعبارة الكرخي (أردت) أشار إلى أن أحببت مضمن معنى فعل يتعدى بـ (عَنْ) أي أردت حب الخير مجزيا أو مغنيا عن ذكر ربي.
أقول: أسلوب كتاب اللَّه الكريم يصيب بألفاظه مواقع الشعور، ويكشف ما تحتها من ظاهرها الملتبس، يلتمس المقيد فيطلقه، ويتشوف إلى الجمال فيظهره، أطلق الخير على الخيل ليستهوي إليها النفوس " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ".
وجاء لفظ الحب بصيغتين: صيغة الفعل ليفيد الحدوث والتجدد فيستولي
على قلوب من أحب الجهاد في كل عصر إلى قيام الساعة، وفي صيغة المصدر ليفيد الثبوت فلا تتحول عنه القلوب العاشقة للفداء فتميل إلى الدنيا.
وهاهو سليمان عليه السلام القائد العسكري - يستعرض خيوله التي أحب فيها الصفون والجَودة، وحبه لها كان تفسيرا لحقيقة وجوده، فيصل ما وراء الحياة بما له صلة بالحياة. أجل حبه لها صادر عن ذكر ربه فماذا وراء ذكر ربه؟ اللفظ المفرد في كتاب الله يتحول إلى قصة، واللمحة السريعة تكشف عن حقيقة، وتلك طريقة القرآن الكريم: يضع في اللفظ إشعاعا يضيء، يديره على طريقة يثير بها مكامن الخيال لتأخذ النفس منه ما تشاء وتترك.
وهكذا تبقى كل حقيقة: كالإيمان، والخير، وذكر الله، مع كثرة صورها الموحية بحاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان مبدعة.
فذكر ربه هو العمل بكتابه، وهو طاعته في جهاد عدوه، وهو الإعداد للمَهمَّة الضخمة لمواجهته، وهو استعراض ما لديه من قوى عسكرية لمنازلته، وكل ذلك لتكون كلمة اللَّه هي العليا، وإزالة دولة الباطل هي المبتغى، ويكون الباطل دوما ذليلا زهوقا.
ولن يفهم القرآن إلا من يتحرك في مثل حركته عليه السلام في مواجهة الباطل لتقرير حاكمية الله في الأرض ومطاردة كل حاكمية معتدية مغتصبة.
ويستمر العرض العسكري لخيوله عليه السلام فقد أمر الرائضين بإعدائها وتسييرها، وتبقى الأبصار معلقة بالمشهد المعروض والأعصاب مشدودة حتى توارت بالحجاب، غابت عن بصره، وعندها قال: ردوها عليَّ، لماذا؟ كأنها شبت في نفسه شبابا، وكَسَبَت روحه قوة، وصنعت في أعصابه صناعة فريدة، فراح يباركها، ويمسح على أعناقها وسوقها لاختبار أصالتها فلما كشف ذلك
مجرورها بحال محذوفة وتقدير هذه الحال يحتاج منا إلى فضل تأمل صالحا أن يدخل في أكثر من مقام، ومع كل مقام يختلف المعنى المصاحب له، فإن كان حبه لخيوله لهوى شخصي، أو لشهوة، أو لدنيا، أو لسلطة، أو رياسة فتقدير الحال (صارفا)، وإن كان حبه لها لطاعة أو عبادة أو جهاد أو نشر دعوة فتقدير الحال (صادرا)، والقرائن كلها تثير إلى التزامه بطاعة ربه وذلك:
1 -
حبه لها كحبه للخير فكيف تصرفه عن الخير؟!.
2 -
في استعراضه العسكري كان قائما في طاعة، مشغولا بعبادة فكيف تشغله عن ذكر ربه؟!
3 -
الخيل من وسائل جهاده المبارك فكيف يعقرها؟!
4 -
لا ورود لذكر الشمس في النص أصلا وهل يملك جنده أن يردوها عليه إن صح ما جاء على ألسنة كثير من المفسرين؟
لا شمس إذاً تغيب ولا صلاة تفوت ولا خيول تعقر وإنما هي إسرائيليات يستنكرها العقل والنقل. تدسَّت إلى بعض كتب التفاسير لتتلف وسائل الجهاد المبارك مما يتنافى مع عصمة الأنبياء، بل مع حكمة العقلاء.
وإلى اليوم تلاحق يهود كل جهاد ينهض لتقضي عليه أو تفتنَّ في
تشويهه: تطرف
…
عنف
…
إرهاب
…
خروج عن طاعة ولي الأمر. كما تنفق الكثير الكثير رغم شحها للقضاء عليه.
أما فتنة سليمان عليه السلام واستغفاره من ذنبه، فلسهوه عن تعليق قسمه بمشيئة ربه ففي الحديث الصحيح للبخاري: يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللَّه ولم يقل إن شاء اللَّه والذي نفسي بيده لو قال إن شاء اللَّه لجاهدوا في سبيل اللَّه فرسانا أجمعين ".
وبعدُ
…
إن لم تكن وسائل الجهاد فلا تنتظر الجهاد.
وإن لم تكن نفوس مهيأة للاستشهاد فلا تنتظر النصر.
وإن لم تكن معارك النصر فلا تنتظر قيام دولة الإسلام.
وإن لم تسطع شمس الإسلام فلن يقوم للحق في هذا الوجود كيان.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
قال البروسوي: حقيقة الاستحباب أن يتحرى الإنسان في الشيء ما يحبه، واقتضى تعديته بـ (على) معنى (الإيثار والاختيار) أي تضمن الإيثار.
واختيار الضلالة هو من عمى البصيرة. وقال صاحب الكشف في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة اللَّه هي المؤثرة فإن المحبة ليست اختيارية باتفاق؛ وإيثار العمى حبا وهو الاستحباب من الاختيارية. أ. هـ
وقال أبو حيان: فاستحبوا العمى على الهدى: أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
وقال ابن عطية: فاستحبوا: عبارة عن تكسبهم في العمل، يدلك على ذلك قوله:(بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وقال تاج الدين الحنفي ما قاله أبو حيان: أي اختاروا
…
وقال الزمخشري: استحبوا أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. ومثله قال الرازي.
أقول: ولعل تضمين (استحب) معنى (اصطفى) أسوغ من (اختار وآثر). لأن في الاصطفاء استقصاء ونخل مع الإيثار. فهؤلاء بعد اهتدائهم بآية الناقة ارتدوا إلى الضلال واستحبوا العمى، اصطفوه من أسوأ الموجود لانتكاس قلوبهم فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
أشد أنواع العمى هو الضلال بعد الهدى، والعمى بعد الاستبصار، وبذلك استحقوا صاعقة العذاب، وأي عذاب؟ عذاب الخزي والهون مما يليق مع استكبارهم. واختيار لفظ (استحب) بدلاً من (اصطفى) لأنه مدفوع بهوى النفس، ودليل على انطفاء نور القلب، وشاهد على تسلط الهوى عليه وإغلاق كل نافذة للتفكير لئلا تسترشد بضياء الحق وهذا من أشد العمى وأقبحه. ثم إن للتضمين مقاصد في اختيار اللفظ، وأسرارا في انتقاء العبارة يتوصل إليها بالفحص عنها والتأمل فيها وخيرها ما سافر فيها النظر.
* * *