الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقبول مدلولاً عليه بسياقه الشافع له؛ فأوحى بالغرضين وأثرى المعنى وأغناه وجمع شَعَاعه وأبدى عن مَكنونه. ولو جاء بغير هذه اللام لما خرج عن معنى فذ والذي هو الرضا وحسب.
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ)
(1).
ذهب الزمخشري وتبعه أبو حيان إلى أنْ تتهافت سائر الأنفس فيما تعرضت له أعز نفسٍ عند اللَّه من شدةٍ وهولٍ فضلا عن أن يضنُوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه صلوات اللَّه وسلامه عليه.
وقال القرطبي: لا يرضون لأنفسهم بالخفض والركد ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المشقة. يقال أرغبت عن كذا: أي ترفعت عنه؟ وذكر الجمل: أن الباء - بأنفسهم - للتعدية ويصح أن تكون للسببية أي بسبب صونها. ورغبت عنه أي أعرضت عنه. وذكر أبو السعود: في معنى (لا يرغبوا) أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصن عنه نفسه. بل يكابدون معه من الأهوال والخطوب. جاء الكلام في معنى النهي لان كان على صورة الخبر.
وذكر أستاذنا سعيد الأفغاني: (يرغبوا) تضمن معنى (يبخلوا).
أقول: تأنيب خفي لكنه موجع يستنكر مبدأ التخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمن يدعي صُحبته من الصفوة المختارة. فلا يحق لهم أن يُؤثروا أنفسهم عما يتحمله رسول اللَّه. ولا عذرَ لهم في أن يُشفقوا على أنفسهم عن مثل ما
تعرضت له نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل دعوته في الحر والبرد في الشدة
والعسْر يواجه أعباء الدعوة ولأواءها. إنه النذير، وإنه النكير على مَن تخلف
من أهل طيبة الطيبة ومَن حولها.
السياق إذاً سياق استنكار على أهالي المدينة المنورة أن يؤثروا أنفسهم على رسول الله، وهم أصحاب هذه الدعوة وهم قاعدتها الصُلبة. أيشفقون على أنفسهم ورسول اللَّه يواجه تكاليف دعوة ربه؟! فالرغبة عن نفس نبيهم تضمنت الضنانة بأنفسهم عنه، ولذلك جاء التأنيب (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) أي لا يليق بهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبخلوا بأنفسهم عنه. وهكذا يصير التضمين وسيلة كشفٍ عن خبايا النفوس، ليتفتح اللفظ عن رصيده حين يقع في السياق الذي يستدعيه فلا أزعج من أن يقال عن المتخلف: إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تفتديه الأنفس. وهو يزعم أنه جندي من جنود الدعوة، وأنه يتأسى بقائده الحكيم.
ويزعم أنه من جند
…
طه ويرغب عن مرافقة الحبيب!!
* * *
قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (2).
قال الطبري: فإذا فرغت من أمر الدنيا فاجعل رغبتك له فجعل (إلى) بمعنى (اللام). وقال الزمخشري: اجعل رغبتك إليه خصوصا وعنه نقل الجمل. وقال البيضاوي: فارغب بالسؤال ولا تسأل غيره.
أقول: حين يتعدى الفعل رغب بـ إلى يتضمن معنى الضراعة ففي حديث
الدعاء: " رغبة ورهبة إليك ". قال النمر بن تولب: -
ومتى تُصبك خصاصةْ فارجُ الفتى
…
وإلى الذي يعطي الرغائب فارغب
وتقول: إليك الرغباء ومنك النعماء فكأنما تضمنت الرغبة هنا معنى التضرع والتوجه والانصراف.
نعم الرغبة في هذا السياق حين تعدت بـ (إلى) تضمنت معنى التفرغ من شواغل الأرض للتجرد إلى اللَّه وحده، والتطلع إلى مستودع الزاد فينهل، ومورد الأنس فيعبّ ما وسعه من نَهَلِ وعَبّ.
وفي تضرعه هذا بين يديه ونصَبه، يمسح كل عناء أصابه أو مشقة أثقلت كاهله، فيخف حِمله وُيرفع عنه إصْره، ويُسرَّى عنه، وينشرح صدره، ويطمئن قلبه.
والرغبة أخيرا معناها هنا التوجه والتطلع إلى منابع التيسير كلما تعسرت مسيرة دعوته، وكاده الماكرون للانحراف بمنهجه، أو عرقلة خطاه، أو .... أو
…
أرأيت إلى هذه الحروف كم لها من أسرار خفية! لقد كانت (إلى) هذه صلة العسر باليسر، والمشقة بالراحة، والفناء بالبقاء، والعدم بالوجود. إنه التضمين وهذا من جنى ثمراته.
أما من جعل إلى بمعنى اللام أو الباء فليس بشيء ولا حظ له في إدراك المطلب وما أبعد الصواب عنه.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ)(1).
قال الطبري: راغبون في أن يُبدلنا من جنتينا خيراً منها أي تضمين إلى معنى في. وقال الرازي: طالبون منه الخير راجون لعفوه. وقال أبو حيان: أي طالبون إيصال الخير إلينا منه. وقال البيضاوي: عُدي بـ إلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنه معنى الرجوع ومثله قال الآلوسي: أقول: ولعل تضمين (راغبون) معنى (راجعون) يشي بجفاف الدلالة ويُبوس ظلالها، فليس رجوعهم إلى اللَّه كأيِّ رجوع ولكنه عودة مصحوبة بتوبة
وندم واستسلام. فلا أكرم من هذه (الرغبة) ما دام معها سُمو المطلب وتجديد العهد وتبييض الصفحة. فتضمين (راغبون) معنى (ضارعون ومبتهلون) أذهبُ بها في الدلالة على إسلام الوجه والنفس والقلب لله عز وجل، مع ضراعة وابتهال وتوسل. هذا التوجه إلى الله هو هداية الفطرة إلى بارئها، وهو ثمرة الإيمان وضمان سعادة الإنسان. إنه ميلاد تحرر الضمير من عبودية النظم والأشخاص والأساطير والأوهام.
أما تضمينها معنى (راجون) كما قال الرازي فلا يتعدى بـ إلى وما كنا لنقف على هذه الفوارد لو جاءت الآية: إنا إلى ربنا راجعون أو طالبون.
ويبقى التضمين من محاسن هذه اللغة الشريفة نُدلي إليه مُستسقين كلّما جفَّ الثرى وأجدبت أقوال الُمعربين.
* * *