الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ تَعَالَى:
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (1).
الباء تفيد الاستعلاء كـ على أي عليه بدليل: (إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) هذا ما ذهب إليه السيوطي أما أبو حيان: فيرى الباء في (بقنطار) وفي (بدينار) للإلصاق وقيل: بمعنى (على)، إذ الأصل أن يتعدى بـ (على) كما قال سبحانه:(مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ). وقيل الباء بمعنى (في) أي في حفظ قنطار وفي حفظ دينار.
وقال الموزعي: الباء بمعنى (على) بدليل قوله تعالى: (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) وقول الشاعر:
أربٌّ يبول الثُّعلُبان برأسه
…
لقد ذَل مَن بالت عليه الثعالب
ويرى الجمل: في هذه الباء ثلاثة أوجه:
إحداها: أنها على أصلها من الإلصاق وفيه قلق.
وثانيها: أنها بمعنى (في) ولا بد من حذف مضاف أي في حفظ دينار.
وثالثها: أنها بمعنى (على) وقد عدي بها كثيرا.
وقال الرازي: يقال أمنته بكذا وعلى كذا. فمعنى الباء: إلصاق
الأمانة، ومعنى على: استعلاء الأمانة. وقيل أمنتك بدينار: وثقت بك فيه، وأمنتك عليه جعلتك أمينا عليه وحافظا له.
أقول: ميزان اللَّه واحد وعند أهل الكتاب وخاصة يهود موازين، فهم يجعلون للتعامل مقاييس، فالأمانة هي بين يهود فقط، أما غيرهم من الأميين يعنى العرب وسواهم فلا حرج عليهم في أكل أموالهم والتدليس عليهم واستغلالهم.
فـ (تأمن) تضمن معنى (تبلو وتختبر) وهذا يتعدى بالباء. وفي تضمينه هذا أنك وضعته موضع التجربة والاختبار: فيكون موضع الثقة حين يؤديه إليك، كما يكون خائنا فلا يؤديه إليك، والأمانة تنكشف لنا بالتعامل أي بالابتلاء والاختبار. فهما وسيلة من وسائل كشفها ومعرفتها، فكان الباء جاءت منبهة ألا نضع الثقة في أحد إلا بعد تجربة واختبار، والآية تضع قانونا للتعامل التجاري موجزا في هذه العبارة: لا وثوق إلا بعد تجربة ولا أمن إلا بعد اختبار.
والتضمين في الفعل أكشف لسفور المعنى وأنصع من إجرائه في الحرف، ولو أخذنا بتضمين الحروف لغفلنا عن جوهر البيان وخفاياه. ولو جاء التعبير بتبلو وتختبر بدلا من تأمن لاحتبس في منظور ضيق. وإنما الأمانة يسرح فيها النظر إلى غير نهاية. فالتضمين جمع المعنيين: الأمانة مع الاختبار فأغنى وأثرى. فاستعن به واستروح إليه لتُجيد الغَوصَ في لُجج المعاني.
* * *
قَال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
تستأنسوا مضمن معنى تستأذنوا لفيدهما جميعا هذا ما قاله العز بن عبد السلام أما البيضاوي والجمل: فذهبا إلى أن: (تستأنس) أي تستأذن من الاستئناس بمعنى الاستعلام من أنس الشيء إذا أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف: هل يراد دخوله أو لا يؤذن له؟ أو من الاستئناس الذي هو خلاف الإيحاش، فإن المستأذن مستوحش ألا يؤذن له، فإذا أذن له استأنس.
أو تتعرفوا: هل ثَم إنسان من الإنس؟
أقول: ولعل التضمين هنا في منتهى اللطف في الأسلوب الذي يأتي به الطارق، حتى يقع الأنس في نفوس أصحاب البيت، استعدادا لاستقباله، وهذا من معاني صيغة استفعل. وللناس ظروف في بيوتهم تخفى على ضيوفهم، وضرورات ما ينبغي للطارقين أن يُحرجوهم. فجاء التعبير (تستأنسوا) ولم يأت (تستأذنوا).
ومن صور الاستئناس أن يسمع من أهل البيت متكلما، فإن صمتوا لظروف خاصة بهم فليرجع، أو يقال له بصريح العبارة: ارجع فليرجع فذلك أزكى لنفسه.
أرأيت إلى فضل التضمين كيف استودعت أحضانه من نور المادة اللغوية