الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ تَعَالَى:
(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)
.
ذكر العز بن عبد السلام: تضمن يستحبون معنى يختارون ويؤثرون الحياة الدنيا على ثواب الآخرة.
وأورد الآلوسي: يستحبون أي يختارونها عليها، فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليه من غيره. فالسين للطلب، والمحبة مجاز مرسل عن الاختيار والإيثار بعلاقة اللزوم، ولاعتبار التجوز عُدي الفعل بـ (على).
ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب بمعنى أجاب. والفعل مضمن معنى الاختيار، والتعدية بـ (على) هي لذلك.
وذكر الزمخشري، وردده أبو حيان: أن الاستحباب هو الإيثار والاختيار وهو استفعال من المحبة لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخرة.
أقول: لقد تضمن (الاستحباب) معنى (الإيثار والتفضيل) وهذا معناه: فقدوا التوازن بين الحياتين، وتعطل إدراكهم عن فهم كل من الحياتين على الحقيقة، فانتهى بهم إلى تقويم فاسد حين آثروا الفانية على الباقية يلتمسون الدنيا من غير وجهها لأن نعمة اللَّه لا تلتمس إلا بطاعته.
وحين يفضل بعض الناس دنياهم على أخراهم، ويؤثرونها بالحب، عندها يبغونها عوجاء لا استقامة فيها ولا عدالة، فيصدون عن الهدى والحق،
وعندها كذلك يبطشون ويظلمون وينشرون الفساد في الأرض ويستأثرون بالكسب الحرام، وعندها أيضا يصدون عن سبيل اللَّه من آمن يبغونها عوجاء.
فلولا (على) هذه ما ظفرنا بهذه اللطيفة من وراء التضمين.
* * *
قَال تعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1).
وحبط العمل على أضرب: أحدها أن تكون الأعمال دنيوية فلا تغني في القيامة. ذكر القرطبي في معنى الحبوط: البطلان والفساد.
وقال البروسوي: حَبِط: بطل وذهب.
وقال الآلوسي: تضمن (حبط) معنى (سقط وبطل) أي سقط عنهم ثواب أعمالهم أو زال عنهم مع فضلهم وعلو شأنهم. سبب ذلك أن أصحابها لم يقصدوا فيها وجه الله. فلو أشرك هذا الرهط من الرسل المهديين المصطفين في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي فإن مصيرهم حبوط العمل والهلك، كمصير الدابة ترعى نبتا مسموما فتنتفخ فتموت. لأن الحَبَطَ: انتفاخ بطن الدابة من كثرة الأكل.
وقال الزمخشري: ولو أشركوا مع فضلهم وتقدمهم لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم كما قَالَ تَعَالَى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ).
أقول: فتضمين (حبط) معنى (هلك) المتعدي بـ (عَنْ) (هَلَكَ عَنِّي
سُلْطَانِيَهْ) أي هلكت عني حجتي كما قال مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك أولى من سقط وبطل وزال، مراعاة للسياق وذهابا في جهات النظر، فجمع التضمين موت الدابة في حبوط بطنها من السُّمية، وهلاك العمل لعدم خلوص النية في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي. فهُدى اللَّه محصور في مصدر وحيد وهو وَحدَه يستمد منه ويحتكم إليه، وهو ما جاء عن طريق الرسل فمن حاد عن هذه الطريق فأشرك في المعتقد أو في العبادة أو في التلقي لهلك كل عمل يعمله، وضاع أجره سدى مهما بذل فيه من مجهود.
نعم هلك أجر عمله كما تهلك الدابة ترعى نبتا مسموما فتنتفخ فتموت.
موضوع الشرك صورة مُدرَكة يعرضه لنا سبحانه في صورة محسوسة مبصرة شائنة كريهة، ليكون أشد تأثيرا في النفوس وأبلغ. وإن للعرب ألفاظا لا يكاد يحيط بمدلولها ويدرك مطالها من لم يألف مذاهبهم.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
…
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (2).
ذكر ابن منظور: يجوز أن يضمن (حسب) معنى (قدر) فيتعدى إلى واحد. وقال الآلوسي: الظاهر أن الحسبان متعد إلى مفعولين وأن (أَن يَسْبِقُونَا) ساد مسدهما وجوز الزمخشري أن يضمن معنى التقدير فيكون
متعديا لواحد و (أَن يَسْبِقُونَا) هو ذلك الواحد و (أم) منقطعة ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول. وتعقبه أبو حيان: بأن التضمين ليس بقياس ولا يصار إليه إلا عند الحاجة وهنا لا حاجة إليه.
وقال الرازي: حكمهم في غاية السوء والرداءة، فالإمهال لا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شُغْلُ من يخاف الفَوْت وحكم الشرع خلاف ما قالوه.
وقال الجمل: (أم) منقطعة فتقدر بـ (بل وهمزة الاستفهام). أ. هـ السمين و (بل) التي في ضمنها للإضراب. والهمزة التي ضمنها للاستفهام التوبيخي. فالكلام انتقال للتوبيخ الأول على حسبانهم بلوغ الدرجات من غير مشاق بمجرد الإيمان، إلى توبيخ أشد وهو حسبانهم أن يفوتوا عذاب اللَّه ويفروا منه فلا ننتقم منهم.
وقال أبو السعود: و (أم) منقطعة وما فيها من معنى (بل) للإضراب والانتقال إلى التوبيخ بإنكار ما هو أبطل من الحسبان الأول. وهو حسبانهم ألا يجاوزوا بسيئاتهم، وهم إن لم يُحدِّثوا أنفسهم بذلك، لكن إصرارهم على المعاصي نزلوا منزلة من يطمح في ذلك.
أقول: (حسب) إن كان من باب (ظن) فلا تضمين في الفعل، وإن كان بمعنى (قدر) والمتعدي لمفعول واحد هو المصدر المؤول - أن يسبقونا - فقد ولج باب التضمين وهذا ما أُرجحه لأن إصدار حكمهم - ساء ما يحكمون - مبني على تقدير وتدبير وتفكير منهم، وليس مجرد ظن فقط. فكيف يُقدِّرُ مفسدٌ