الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن خافت امرأة من بعلها يقول: علمت من زوجها نشوزا يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أثرة عليها وارتفاعا عنها، إما لبغضه وإما لكراهة منه بعض أسبابها: إما دمامتها وإما سنها وكبرها أو غير ذلك من أمورها {أَوْ إِعْرَاضًا} (1) يعني انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (2) يقول: فلا حرج عليهما يعني على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضه عنها {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (3) وهو أن تترك له يومها أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح. يقول:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (4) يعني والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتماسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة والنكاح - ثم قال - وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ثم ذكر رحمه الله مجموعة آثار بأسانيدها إلى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعائشة وابن عباس، ورافع بن خديج، وعبيدة وإبراهيم، وقتاده ومجاهد، والسدي، والضحاك وابن زيد (5).
(1) سورة النساء الآية 128
(2)
سورة النساء الآية 128
(3)
سورة النساء الآية 128
(4)
سورة النساء الآية 128
(5)
انظر جامع البيان جـ9 ص 267 - 278.
قال الجصاص: باب
مصالحة المرأة زوجها
قال الله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (1) قيل في معنى النشوز: إنه الترفع عليها لبغضه إياها مأخوذ من نشز الأرض وهي المرتفعة، وقوله {أَوْ إِعْرَاضًا} (2) يعني لموجدة أو أثرة فأباح الله لهما الصلح.
فروي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها. وقال عمر: ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال:«خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل، فنزلت هذه الآية: (4)» الآية فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها، فتقول أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي فذلك قوله تعالى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (5) إلى قوله تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (6).
(1) سورة النساء الآية 128
(2)
سورة النساء الآية 128
(3)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).
(4)
سورة النساء الآية 128 (3){وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
(5)
سورة النساء الآية 128
(6)
سورة النساء الآية 128
وعن عائشة من طرق كثيرة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقسم به لها قال أبو بكر: فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة على وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة.
وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه، وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية. إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه، وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها.
فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا. ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء لأن ذلك أكل مال بالباطل، أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه، لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح. وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر، فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد.
فإن قيل فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها، فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة. قيل له: لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد، ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع، ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها.
وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه، أو بعضه أو على الزيادة عليه، لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه. وقوله تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) قال بعض أهل العلم: يعني خير من الإعراض والنشوز وقال آخرون: من الفرقة وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل. . اهـ (2).
وقال القرطبي قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (3).
وقال القرطبي قوله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (4).
(1) سورة النساء الآية 128
(2)
أحكام القرآن جـ / 2 ص (345 - 346) المطبعة البهية بمصر.
(3)
سورة النساء الآية 128
(4)
سورة النساء الآية 128
فيه مسائل: الأولى قوله تعالى وإن امرأة رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده وخافت بمعنى توقعت وقول من قال خافت تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد. والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعه. روى الترمذي عن ابن عباس قال: «خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي منك لعائشة ففعل فنزلت (2)» فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب.
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره. فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما شئت فجرت السنة بذلك ونزلت {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3).
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (4) قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية وقراءة العامة (أن يصالحا) وقرأ أكثر الكوفيين (أن يصلحا) وقرأ الجحدري وعثمان البتي (أن يصلحا) والمعنى يصطلحا ثم أدغم.
الثانية: في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها.
قال ابن أبي مليكة: إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل صلى الله عليه وسلم وماتت وهي من أزواجه.
قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة، روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت: إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة وإن شئت فارقتك. قالت: بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت على الأثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (5).
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).
(2)
سورة النساء الآية 128 (1){فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
(3)
سورة النساء الآية 128
(4)
سورة النساء الآية 128
(5)
سورة النساء الآية 128
قال أبو عمر بن عبد البر: قوله والله أعلم (فآثر الشابة عليها) يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت، لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع والله تعالى أعلم. . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه 0 أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له (أن يأخذ) وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.
وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة، فيقول لهذه الكبيرة أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه، وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم.
الثالثة: قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطى هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء فهذا كله مباح، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - «كان غضب على صفية، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقد وهبت يومي لك (1)» .
ذكره ابن خويز منداد عن عائشة. اهـ (2).
فإذا كان النشوز من الزوج ولم يتم اصطلاح بين الزوجين فلا يحل له أن يستمر في نشوزه عليها والعضل لها ليضطرها أن تفتدي نفسها ببذلها ما آتاها أو بعضه ليطلقها بل عليه أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان إلا أن يخافا ألا يقيما حدود ال، له فلا جناح عليهما فيما افتدت به، أو أن تأتي الزوجة بفاحشة مبينة فيباح له حينئذ عضلها ليأخذ ما آتاها أو بعضه ليطلقها. قال تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3).
قال ابن جرير يعني تعالى ذكره بقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} (4) ولا يحل لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن - لطلاقكم وفراقكم إياهن - شيئا مما أعطيتموهن من الصداق وسقتم إليهن بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان وذلك إيفاؤهن حقوقهن في الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (5) - إلى أن قال - فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما ألا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟
(1) سنن أبو داود السنة (4602)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 338).
(2)
تفسير القرطبي جـ5 ص403 وما بعده.
(3)
سورة البقرة الآية 229
(4)
سورة البقرة الآية 229
(5)
سورة البقرة الآية 229
قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضه حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق ويخاف عليها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب له، عليها، فذلك حين الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان أتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له - ثم ذكر مجموعة أحاديث بأسانيدها تؤيد ما ذهب إليه من تعيين الحال التي يخاف على الزوجين ألا يقيما حدود الله فيباح للزوجة الافتداء من زوجها ويباح للزوج أخذ العوض على طلاقها، ومن ذلك قوله: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: «نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال وكانت اشتكته إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تردين عليه حديقته؟ " فقالت: نعم. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال: "نعم" قال ثابت قد فعلت فنزلت (2)» اهـ (3).
وقال تعالى {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (4).
ذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل العلم في المخاطب بالنهي عن العضل منها: أن المخاطبين بذلك ورثة الأزواج. ومنها: أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة. ومنها أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة. ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين طلقوا زوجاتهم ومنعوهن أن يتزوجن بعدهم إلا بإذنهم. ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين كرهوا زوجاتهم وأمسكوهن ضرارا ليفتدين. ثم قال: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (5) قول من قال نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة لأنه لا سبيل لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك. أو لوليها الذي إليه إنكاحها. وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما وكان الوالي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا فيقال إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها، كان معلوما أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه. - إلى أن قال - قوله {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (6) يعني بذلك جل ثناؤه لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن وأنتم لصحبتهن كارهون وهن لكم طائعات لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (7) فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم، ثم ذكر رحمه الله أقوال أهل التأويل في معنى الفاحشة. فذكر آثارا بأسانيدها
(1) صحيح البخاري الطلاق (5273)، سنن النسائي الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(2)
(3)
جامع البيان جـ 4ص 549 وما بعدها.
(4)
سورة النساء الآية 19
(5)
سورة النساء الآية 19
(6)
سورة النساء الآية 19
(7)
سورة النساء الآية 19
إلى الحسن البصري وعطاء الخراساني والسدي أن المقصود بالفاحشة الزنا. وذكر آثارا أخرى بأسانيدها إلى ابن عباس ومقسم، والضحاك بن مزاحم، وقتادة وعطاء بن أبي رباح، أن المقصود بالفاحشة النشوز ثم قال: وأولى ما قيل في تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) أنه معني به كل فاحشة من بذاء باللسان على زوجها، وأذى له، وزنا بفرجها. وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) كل فاحشة متبينة ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين الله في كتابه، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني الفواحش أتت، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي:
حدثني يونس بن سليمان البصري قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «" اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (3)» .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال: حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال" أيها الناس، إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق. ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في المعروف، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (4)» .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدا وأن لا تعصيه في معروف، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه، إنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق، بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته في معروف.
ومعلوم أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «" من حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا (5)» إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم.
وإذا ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن لزوج المرأة إذا وطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه، أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف. وإذا كان ذلك له، فمعلوم أنه غير مانع لها - بمنعه إياها ماله منعها - حقا لها واجبا عليه. وإذا كان ذلك كذلك، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها
(1) سورة النساء الآية 19
(2)
سورة النساء الآية 19
(3)
صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).
(4)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 73).
(5)
صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 321)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).
زوجها ما أعطته، أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح، وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1). وإذا صح ذلك فبين فساد قول من قال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2). منسوخ بالحدود لأن الحد حق الله جل ثناؤه على من أتى بفاحشة التي هي الزنا، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحق لزوجها كما أن عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه، حق له. وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: لا يحل لكم، أيها الذين آمنوا أن تعضلوا نسائكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتكم إلا أن يأتين بفاحشة من زنا أو بذاء عليكم، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم - مبينة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عضلهن والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به. اهـ (3).
وذكر أبو بكر الجصاص (4) وأبو بكر بن العربي (5) والقرطبي (6). نحوا مما ذكره ابن جرير في الموضوع.
وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (7). قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها وآتيتم إحداهن قنطارا يقول: وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر قنطارا. . {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (8) يقول فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتتوهن. . أتأخذون ما آتيتموهم من مهورهن بهتانا يقول ظلما بغير حق وإثما مبينا يعني وإنما قد أبان أمر أخذه أنه يأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم. . وكيف تأخذونه وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن إذا أرتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجا {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (9) فتباشرتم وتلامستم وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ كما يقول الرجل لآخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به؟ على معنى التهديد والوعيد. ثم قال بعد ذلك - واختلف في حكم هذه الآية أمحكم أم منسوخ؟
(1) سورة النساء الآية 19
(2)
سورة النساء الآية 19
(3)
تفسير ابن جرير الطبري جـ 8 ص 110 وما بعدها.
(4)
أحكام القرآن للجصاص جـ1 ص 109 - 111.
(5)
أحكام القرآن لابن العربي ج1 ص 151 - 154.
(6)
أحكام القرآن جـ 5 ص 99 - 101.
(7)
سورة النساء الآية 20
(8)
سورة النساء الآية 20
(9)
سورة النساء الآية 21
فقال بعضهم محكم وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدة للطلاق.
وقال آخرون: هي محكمة، وغير جائز له أخذ شئ مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدة للطلاق أو هو. وممن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد الله المزني.
حدثنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا عقبة بن أبي الصهباء. قال: سألت بكرا عن المختلعة، أيأخذ منها شيئا؟ قال: لا، {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (1).
وقال آخرون: بل هي منسوخة، نسخها قوله تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (2) ذكر من قال ذلك.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (3) إلى قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (4). قال: ثم رخص بعد فقال {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (5): قال: فنسخت هذه تلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: إنها محكمة غير منسوخة وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الأحكام ما نفي خلافه من الأحكام على ما قد بينا في سائر كتبنا. وليس في قوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (6) نفي حكم قوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (7) لأن الذي حرم الله على الرجل بقوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (8) أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها. . وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله تعالى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (9) فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع.
(1) سورة النساء الآية 21
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سورة النساء الآية 20
(4)
سورة النساء الآية 21
(5)
سورة البقرة الآية 229
(6)
سورة النساء الآية 20
(7)
سورة البقرة الآية 229
(8)
سورة النساء الآية 20
(9)
سورة البقرة الآية 229