المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌التضامن الإسلامي

- ‌دور عالمي لرسالة عالمية

- ‌تصدير

- ‌البحوث

- ‌حكمالطلاق الثلاثبلفظ واحد

- ‌القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم

- ‌المسألة الثانيةما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المذهب الأول أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

- ‌المذهب الثانيإن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا

- ‌المذهب الثالث يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة

- ‌المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا

- ‌الخلاصة

- ‌المسألة الأولى: في حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة

- ‌المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المذهب الأول أنه يقع ثلاثا

- ‌المذهب الثانيإن الطلاق الثلاث دفعة واحدة يعتبر طلقة واحدة

- ‌المذهب الثالثأن الطلاق الثلاث يمضي ثلاثا في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها

- ‌المذهب الرابع:أنه لا يعتد به مطلقا

- ‌مصادر بحث الطلاق الثلاث بلفظ واحد:

- ‌القرار

- ‌ النشوز والخلع

- ‌النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأةوقد يدعيه كل منهما على صاحبه

- ‌ مصالحة المرأة زوجها

- ‌ الكلام عن الخلع

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع

- ‌ الحكمين كيف يعملان

- ‌ بعث الحكمين

- ‌الخلاصة

- ‌ملخص قرار هيئة كبار العلماء المتعلق بمسالة النشوز والخلع

- ‌الشفعة بالمرافق الخاصة

- ‌الشفعة في الاصطلاح الشرعي

- ‌مشروعية الشفعة

- ‌دفع شبه القول بمنافاتها للقياس

- ‌الحكمة في مشروعية الشفعة

- ‌الاشتراك فيما لا يقبلالقسمة من العقار

- ‌الاشتراك في المنقولات

- ‌ الجوار

- ‌أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيعدون الجار. . . أو الشريك في حق المبيع

- ‌أدلة القائلين بثبوت الشفعةبحق المبيع والجوار

- ‌المناقشة

- ‌ الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى

- ‌الشفعة بشركة الوقف

- ‌شفعة غير المسلم

- ‌شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون

- ‌شفعة الغائب

- ‌شفعة الوارث

- ‌الدعوة الإصلاحية فيالجزيرة العربيةوحركة الجامعة الإسلامية

- ‌الحرب والصلح فيالإسلام

- ‌الوضع العام

- ‌مفاجأة محزنة

- ‌احترام البيت

- ‌بدء المفاوضات

- ‌ساعة الصفر

- ‌بوادر السلم تلوح في الأفق

- ‌تنفيذ العقد يبدأبمفاجأة غريبة

- ‌افتراء مغرضحولسعد بن معاذ

- ‌الأمومةفي حياة النبي ووصاياهونظرة على دورها في البناء والتوجيه

- ‌نشيد الفرحبمقدمالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تعيين مواقيت الصلاة في أي زمان ومكان على سطح الأرض

- ‌مقدمة

- ‌تحديد الشرع الإسلامي لمواقيتالصلاة

- ‌وقت الظهر

- ‌وقت العصر

- ‌وقت المغرب

- ‌وقت العشاء

- ‌وقت الصبح

- ‌الربط بين تحديد الشرع والفلك والحسابلتبين مواقيت الصلاة

- ‌المعادلات الرياضية لحساب مواقيت الصلاة

- ‌بيان المصطلحات الفلكية والرموز الخاصة

- ‌ الأقطاب والنقط الأساسية

- ‌الدوائر العظمى

- ‌الزوايا الرئيسية

- ‌المثلث الفلكي

- ‌تعيين المعادلات الرياضية لحساب مواقيت الصلاة لكل واحدة من الفروض الخمسة

- ‌أولا وقت الظهر

- ‌ثانيا وقت الشروق والغروب

- ‌ثالثا وقت الفجر والعشاء

- ‌رابعا وقت العصر

- ‌استعمال الحاسب الإليكتروني 45 ( H. P)في حل المعادلات المذكورة

- ‌استعمال الرسم البياني لتعيينلمواقيت الصلاة

- ‌كيفية استعمال المنحنى لتعيينالوقت المطلوب

- ‌تحويلالوقت الزواليوقت غروبي

- ‌ الفتاوى

- ‌في النذر

- ‌في الصيام

- ‌في الأضحية وصلاة العيد

- ‌في اللحم المذبوح ببلاد الكفاروأهل الكتاب

- ‌حكم الحلف بغير اللهحكم لبس الباروكة للزوجحكم حلق المرأة رأسها وحواجبها

- ‌السفر وإفطار رمضانحكم التوسل إلى الله بالأنبياء والصالحين

- ‌في قراءة القرآن من أجل التكسب

- ‌ المؤتمر السادس لجمعية التعليم لعموم الهند

- ‌مؤتمرات

- ‌الفائدة الأولى: إذ قال لزوجته أنت طالق أو نحوه من الصريح

- ‌الفائدة الثانية: إذا وقع به الطلاق فكم طلقة تقع به

- ‌كتب تصدر قريبا

- ‌أساليب القسم والشرط في القرآن

- ‌الولايات المتحدة

- ‌إنجلترا

الفصل: ‌القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم

وعلى هذا القول: فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بأن يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلقها في كل طهر طلقة؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد " إحداهما " له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة. " والثانية " ليس له ذلك وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه كأبي بكر عبد العزيز والقاضي أبي يعلى وأصحابه.

ص: 36

‌القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم

، بل هو ترك الأفضل وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد: اختارها الخرقي.

واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثا، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثا، وبأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

وأجاب الأكثرون: بأن حديث فاطمة، وامرأة رفاعة، إنما طلقها ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا لا هذا ولا هذا مجتمعات، وقول الصحابي: طلق ثلاثا. يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثا، وأما جمع الثلاث بكلمة فهذا إنما كان منكرا عندهم، إنما يقع قليلا، فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال: يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قول بلا دليل، بل هو بخلاف الدليل.

وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة، أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدا لموجب اللعان، والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح، والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره.

وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما لأنهما صارا أجنبيين، ولكن غاية ما يمكن أن يقال: حرمها عليها تحريما مؤبدا فيقال: فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح وأن الثلاث لم تقع جميعا بخلاف ما إذا قيل: إنه يقع بها واحدة رجعية، فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما.

وقول سهل بن سعد: طلقها ثلاثا فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه احتاج إلى

ص: 36

إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث، لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ. فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة.

واستدل الأكثرون: بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (1) إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2){فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3) وهذا إنما يكون في الرجعي، وقوله:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) يدل على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، لأنه إنما أباح الطلاق للعدة: أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة، ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين، فإن كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وابن حزم فقد بينا فساده في موضع آخر، فإن هذا قول ضعيف: لأنهم كانوا في أول الإسلام إذا أراد الرجل إضرار امرأته طلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها، فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن بحاجة إلى أن يراجعها، والله تعالى قصرهم على الطلاق الثلاث دفعا لهذا الضرر، كما جاءت بذلك الآثار، ودل على أنه كان مستقرا عند الله أن العدة لا تستأنف بدون رجعة سواء كان ذلك لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة، أو يقع ولا يستأنف له العدة، وابن حزم إنما أوجب استئناف العدة بأن يكون الطلاق لاستقبال العدة، فلا يكون طلاق إلا يتعقبه عدة، إذا كان بعد الدخول، كما دل عليه القرآن، فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد، وأما من أخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول: إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدة، وما كان صاحبه مخيرا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة فلا يكون جائزا، فلم يكن ذلك طلاقا للعدة.

ولأنه تعالى قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (5) فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي العدة فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان.

وقد قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (6) فهذا يقتضي أن هذا حال كل مطلقة، فلم يشرع إلا هذا الطلاق ثم قال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (7).

(1) سورة الطلاق الآية 1

(2)

سورة الطلاق الآية 1

(3)

سورة الطلاق الآية 2

(4)

سورة الطلاق الآية 1

(5)

سورة الطلاق الآية 2

(6)

سورة البقرة الآية 228

(7)

سورة البقرة الآية 229

ص: 37

أي هذا الطلاق المذكور (مرتان) وإذا قيل: سبح مرتين أو ثلاث مرات: لم يجزه أن يقول سبحان الله مرتين، بل لا بد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة، فكذلك لا يقال: طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، أو مرتين لم يجز أن يقال: طلق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين، ثم قال سبحانه بعد ذلك:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين.

وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (2). الآية، وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق، فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع، ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار، كما هو مبسوط في موضعه، وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة، كما ثبت في الصحيح عن جابر عن - النبي صلى الله عليه وسلم:«إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: أنت أنت، ويلتزمه (3)» وقد قال تعالى في ذم السحر: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (4) وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات (5)» وفي السنن أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (6)» .

ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيرها، وإذا كان إنما أبيح للحاجة، فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باق على الحظر. اهـ.

وقال ابن القيم (7) فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة، قد تقدم حديث محمود بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام مغضبا ثم قال:«أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (8)» وإسناده على شرط مسلم، قال ابن وهب: قد رواه مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد، فذكره، ومخرمة ثقة بلا شك، وقد احتج مسلم في صحيحه بحديثه عن أبيه.

والذين أعلوه، قالوا: لم يسمع منه، وإنما هو كتاب. قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن

(1) سورة البقرة الآية 230

(2)

سورة البقرة الآية 232

(3)

صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2813)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 315).

(4)

سورة البقرة الآية 102

(5)

سنن الترمذي الطلاق (1186).

(6)

سنن الترمذي الطلاق (1187)، سنن أبو داود الطلاق (2226)، سنن ابن ماجه الطلاق (2055).

(7)

زاد المعاد الجزء الرابع، ص100 وما بعدها.

(8)

سنن النسائي الطلاق (3401).

ص: 38

مخرمة بن بكير فقال: هو ثقة، ولم يسمع من أبيه، وإما هو كتاب مخرمة، فنظر فيه كل شيء، يقول:" بلغني عن سليمان بن يسار " فهو من كتاب مخرمة، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول: مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه، وقال في رواية عباس الدوري: هو ضعيف، وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه، وقال أبو داود لم يسمع من أبيه إلا حديثا وأحدا حديث الوتر، وقال سعيد بن أبي مريم، عن خاله موسى بن سلمة، أتيت مخرمة فقلت: حدثك أبوك فقال: لم أدرك أبي ولكن هذه كتبه.

والجواب عن هذا من وجهين:

أحدهما: أن كتاب أبيه كان عنده محفوظ مضبوط، فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به، أو رآه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط، إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقة الصحابة والسلف، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك، وتقوم عليهم بها الحجة، وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعملوا بها، واحتجوا بها، ودفع الصديق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة إلى أنس ابن مالك فحمله وعملت به الأمة، وكذلك كتاب إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو، ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض، ويقول المكتوب إليه: كتب إلى فلان أن فلانا أخبره.

ولو بطل الاحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير، فإن الاعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ، والحفظ خوان، والنسخة لا تخون، ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة أن أحدا من أهل العلم رد الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يشافهني به الكاتب فلا أقبله، بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كاتبه.

الجواب الثاني: أن قول من قال: " لم سمع من أبيه " معارض بقول من قال: " سمع منه " ومعه زيادة علم وإثبات، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، سئل أبي مخرمة بن بكير؟ فقال صالح الحديث. قال: وقال ابن أبي ذئب: - وحدث في ظهر كتاب مالك - سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه، فحلف لي ورب هذه البنية - يعني المسجد - سمعت من أبي.

وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، وقال علي: ولا أظن مخرمة سمع من

ص: 39

أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشيء اليسير، ولم أجد أحدا في المدينة يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شيء من حديثه " سمعت أبي " ومخرمة ثقة. . انتهى ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في موطئه، وكان يقول: حدثني مخرمة، وكان رجلا صالحا.

وقال أبو حاتم: سألت إسماعيل بن أبي أويس، قلت هذا الذي يقول مالك بن أنس: حدثني الثقة من هو؟ قال مخرمة بن بكير، وقيل لأحمد بن صالح المصري كان مخرمة من ثقات الرجال؟ قال: نعم، وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة: أحاديث حسان مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به.

وفي صحيح مسلم قول ابن عمر للمطلق ثلاثا: حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به، وتفسير الصحابي حجة، وقال الحاكم هو عندنا مرفوع.

ومن تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول، هو الطلاق الذي تملك به الرجعة، ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة، قال تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين، وكبره ثلاثا وثلاثين (2)» ونظائره، فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال، يتلو بعضه بعضا، فلو قال سبحانه الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاث وثلاثين - بهذا اللفظ - لكان ثلاثا مرات فقط، وأصرح من هذا قوله سبحانه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (3) فلو قال أشهد بالله أربع شهادات بالله إني لمن الصادقين، كانت مرة، وكذلك قوله:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (4) فلو قالت أشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين كانت واحدة.

وأصرح من ذلك قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (5) فهذا مرة بعد مرة.

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 371)، موطأ مالك النداء للصلاة (488).

(3)

سورة النور الآية 6

(4)

سورة النور الآية 8

(5)

سورة التوبة الآية 101

ص: 40

ولا ينقض هذا بقوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين (2)» .

فإن المرتين هنا، هما الضعفان، وهما المثلان، وهما مثلان في القدر، كقوله تعالى:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (3). وقوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} (4). أي ضعف ما يعذب به غيرها، وضعف ما كانت تؤتى، ومن هذا قول أنس:«انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين (5)» أي شقتين وفرقتين، كما قال في اللفظ الآخر:«انشق القمر فلقتين (6)» وهذا أمر معلوم قطعا: أنه إنما انشق القمر مرة واحدة، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة، فالثاني يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد، والأول لا يتصور فيه ذلك.

ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة أنه قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (7) إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (8) فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول، فالمطلق أحق فيه بالرجعة، سوى الثالثة المذكورة بعد هذا.

وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (9). إلى قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (10) فهذا هو الطلاق المشروع، وقد ذكر الله سبحانه أقسام الطلاق كلها في القرآن، وذكر أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه، وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره، وذكر طلاق الفدا الذي هو الخلع وسماه فدية، ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم، وذكر الطلاق الرجعي الذي يحق للمطلق فيه الرجعة وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة.

وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة وأنه إذا قال لها: أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية وبلغوا بالبينونة، وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض، وأما أبو حنيفة، فقال: تبين بذلك لأن الرجعة حق له وقد أسقطها، والجمهور يقولون: وإن كانت الرجعة حقا له

(1) سورة الأحزاب الآية 31

(2)

صحيح البخاري الجهاد والسير (3011)، صحيح مسلم الإيمان (154)، سنن الترمذي النكاح (1116)، سنن النسائي النكاح (3344)، سنن ابن ماجه النكاح (1956)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 405)، سنن الدارمي النكاح (2244).

(3)

سورة الأحزاب الآية 30

(4)

سورة البقرة الآية 265

(5)

صحيح البخاري المناقب (3636)، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2801)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3285)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 447).

(6)

صحيح البخاري تفسير القرآن (4864)، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2801)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3285)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 447).

(7)

سورة البقرة الآية 228

(8)

سورة البقرة الآية 228

(9)

سورة الطلاق الآية 1

(10)

سورة الطلاق الآية 2

ص: 41

لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه، فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها، وبذلها العوض، وسؤالها أن تفتدي نفسها بغير عوض في أحد القولين، وهو جواز الخلع بغير عوض، وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض فخلاف النص والقياس.

قالوا: وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويرجعها، وهذا - وإن كان فيه رفق بالرجل - ففيه إضرار بالمرأة فنسخ سبحانه ذلك بثلاث، وقصر الزوج عليها وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها، فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث، فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها، كان خلاف شرعه وحكمته، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة، بل إنما ملك واحدة، فالزائدة عليها غير مأذون له فيه.

قالوا: وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف ما شرعه، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف ما شرعه، ونكتة المسألة: أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين: أحدهما طلاق غير المدخول بها، والثاني الطلقة الثالثة، وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه الرجعة. هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره وهذا قول الجمهور منهم الإمام أحمد والشافعي وأهل الظاهر، قالوا: لا يملك إبانتها بدون الثالث إلا في الخلع، ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال: أنت طالق طلقة لا رجعة فيها - وساقها رحمه الله هل هي ثلاث، أو خلع بدون، عرض، أو واحدة بائنة.

وقد أجاب ابن حزم رحمه الله في كتابه المحلى عن ذلك بقوله (1) أما الآيات فإنما نزلت فيمن طلق واحدة أو اثنتين فقط، ثم نسألهم عمن طلق مرة ثم راجع ثم مرة ثم راجع ثانية ثم ثالثة، أبدعة أتى؟ فمن قولهم: لا بل سنة، فنسألهم أتحكمون له بما في الآيات المذكورات؟ فمن قولهم: لا بل خلاف فصح أن المقصود في الآيات المذكورات، من أراد أن يطلق طلاقا رجعيا، فبطل احتجاجهم بها في حكم من طلق ثلاثا، وأما قولهم: معنى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) أن معناه مرة بعد مرة، فخطأ، بل هذه الآية كقوله تعالى:

(1) انظر المحلى الجزء العاشر، ص (167 - 168).

(2)

سورة البقرة الآية 229

ص: 42

{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (1) أي مضاعفا معا وهذه الآية أيضا تصلح لما دون الثلاث من الطلاق وهو حجة لنا عليهم، لأنهم لا يختلفون - يعني المخالفين لنا - في أن طلاق السنة هو أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها في قول طائفة منهم، وفي قول آخرين منهم: أن يطلقها في كل طهر طلقة وليس شيء من هذا في هذه الآية، وهم لا يرون من طلق طلقتين متتابعتين في كلام متصل طلاق سنة فبطل تعلقهم بقوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) وأما خبر محمود بن لبيد فمرسل ولا حجة في مرسل، ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئا ويعني ابن حزم بالإرسال ما قرره الحافظ بن حجر (3) وهو أن محمود بن لبيد، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية. . وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع.

وقال الحافظ: (4) ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: سمع من عمر، وتوفي بالمدينة سنة ست وتسعين، وكان ثقة قليل الحديث، كما ذكر الحافظ أن الترمذي قال فيه:" رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام صغير ".

وقال ابن أبي حاتم: قال البخاري: له صحبة فسخط أبي عليه، وقال: لا يعرف له صحبة، روى عن ابن عباس، روى عنه عاصم بن عمر بن قتادة سمعت أبي يقول ذلك. سئل أبو زرعة عن محمود بن لبيد؟ فقال: روى عن ابن عباس، وعنه الحارث بن فضيل، مديني أنصاري ثقة، وفي رواية مخرمة عن أبيه كلام كثير. اهـ.

(1) سورة الأحزاب الآية 31

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

انظر فتح الباري الجزء التاسع، ص297.

(4)

انظر تهذيب التهذيب الجزء العاشر، ص66.

ص: 43

الثاني: من قولي العلماء في الإقدام على جمع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، أنه ليس بمحرم ولا بدعة، بل سنة، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه، وجماعة من أهل الظاهر، كما في زاد المعاد، ونكتفي بإيراد كلام الشافعي في الأم، وابن حزم في المحلى، قال الإمام الشافعي:(الخلاف في الطلاق ثلاث):

عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، «عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب بالشام فبعث إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: " ليس لك عليه نفقة (1)» .

قال الشافعي رحمه الله: وأبو عمرو رضي الله عنهما تطلق امرأته البتة وعلم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط نفقتها لأنه لا رجعة له عليها والبتة التي لا رجعة له عليها ثلاثة، ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم طلاق الثلاث، وحكم فيما سواها من الطلاق بالنفقة والسكنى، فإن قال قائل: ما دل على أن البتة ثلاث فهو لو لم يكن سمى أبو عمرو رضي الله عنهما ثلاث البتة، أو نوى بالبتة ثلاثا، كانت واحدة يملك الرجعة وعليه نفقتها.

ومن زعم أن البتة ثلاث بلا نية المطلق، ولا تسمية ثلاث، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يعب الطلاق الذي هو ثلاث، دل على أن الطلاق بيد الزوج، ما أبقى منه أبقى لنفسه، وما أخرج منه من يده لزمه غير محرم عليه، كما لا يحرم عليه أن يعتق رقبة، وألا يخرج من ماله صدقة، وقد يقال له: لو أبقيت ما تستغني به عن الناس كان خيرا لك.

فإن قال قائل: ما دل أن أبا عمرو لا يعدو أن يكون سمى ثلاثا أو نوى بالبتة ثلاثا؟ قلنا: الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله بن علي بن السائب، عن نافع ابن عجير بن عبد يزيد، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لركانة: " والله ما أردت إلا واحدة؟ " فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان، رضي الله عنهما (2)» .

قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، أنه أخبره أنه تلاعن عويمر وامرأته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع الناس فلما فرغا من ملاعنتهما

(1) صحيح مسلم الطلاق (1480)، سنن الترمذي النكاح (1135)، سنن أبو داود الطلاق (2284)، سنن ابن ماجه النكاح (1869)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234)، سنن الدارمي النكاح (2177).

(2)

سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177)، سنن أبو داود الطلاق (2208)، سنن ابن ماجه الطلاق (2051)، سنن الدارمي الطلاق (2272).

ص: 44

«قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)» - قال مالك: قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعبين.

قال الشافعي رحمه الله: فقد طلق عويمر ثلاثا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك محرما لنهاه عنه، وقال: إن الطلاق وإن لزمك فأنت عاص بأن تجمع ثلاثا، فافعل كذا، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يأمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حين طلق امرأته حائضا أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فلا يقر النبي صلى الله عليه وسلم بطلاق لا يفعله أحد بين يديه، إلا نهاه عنه، لأنه العلم بين الحق والباطل، لا باطل بين يديه إلا يغيره.

قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار، قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني المطلب ابن حنطب، أنه طلق امرأته البتة ثم أتى عمر فذكر ذلك له.

فقال: ما حملك على ذلك؟

قال: قد فعلته فتلا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (2) ما حملك على ذلك؟

قال: قد فعلته، قال: أمسك عليك امرأتك فإن الواحدة تبت.

أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سليمان ابن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: للتوءمة مثل ما قال للمطلب.

قال الشافعي: أخبرنا الثقة، عن الليث بن سعد، عن بكير عن سليمان، أن رجلا من بني زريق طلق امرأته البتة، قال عمر - رضي الله عه -: ما أردت بذلك؟ قال: أتراني أقيم على حرام والنساء كثير؟ فأحلفه فحلف، قال الشافعي رحمه الله: أراه قال فردها عليه.

قال: وهذا الخبر في الحديث في الزرقي، يدل على أن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمطلب ما أردت بذلك؟ يريد أواحدة أو ثلاثا؟ فلما أخبره أنه لم يرد به زيادة في عدد الطلاق، وأنه قال: بلا نية زيادة، ألزمه واحدة وهي أقل الطلاق، وقوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} (3) لو طلق فلم يذكر البتة، إذ كانت كلمة محدثة ليست في أصل الطلاق تحتمل صفة الطلاق وزيادة في عدده، ومعنى غير ذلك، فنهاه عن المشكل من القول، ولم ينهه عن الطلاق، ولم يعبه ولم يقل له: لو أردت ثلاثا كان مكروها عليك، وهو لا يحلفه على ما أراد إلا ولو

(1) صحيح البخاري الطلاق (5259)، صحيح مسلم اللعان (1492)، سنن النسائي الطلاق (3402)، سنن أبو داود الطلاق (2245)، سنن ابن ماجه الطلاق (2066)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 331)، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201)، سنن الدارمي النكاح (2229).

(2)

سورة النساء الآية 66

(3)

سورة النساء الآية 66

ص: 45

أراد أكثر من واحدة ألزمه ذلك.

أخبرنا الربيع: قال أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، وكان أعلمهم بذلك، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الرحمن طلق امرأته البتة وهو مريض فورثها عثمان منه بعد انقضاء عدتها.

قال الشافعي رحمه الله أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين أن امرأة عبد الرحمن نشدته الطلاق فقال: إذا حضت ثم طهرت فآذنيني فطهرت وهو مريض فآذنته فطلقها ثلاثا، قال الشافعي رحمه الله: والبتة في حديث مالك بيان هذا الحديث ثلاثا، لما وصفنا من أن يقول طالق البتة ينوي ثلاثا وقد بينه ابن سيرين فقطع موضع الشك فيه.

أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس بن بكير، قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك، قال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.

قال الشافعي رحمه الله: وما عاب ابن عباس ولا أبو هريرة عليه أن يطلق ثلاثا، ولو كان ذلك معيبا، لقالا له: لزمك الطلاق وبئسما صنعت، ثم سمى حين راجعه فما زاده ابن عباس على الذي هو عليه أن قال له: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل، ولم يقل بئسما صنعت، ولا حرجت في إرساله.

أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير، عن النعمان ابن أبي عياش الأنصاري عن عطاء بن يسار، قال: جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو: عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها، قال عطاء فقلت: إنما طلاق البكر واحدة، فقال عبد الله بن عمرو إنما أنت قاض الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.

ولم يقل له عبد الله: بئسما صنعت حين طلقت ثلاثا، أخبرنا الربيع: قال أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، أن بكيرا أخبره عن النعمان بن أبي عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير، وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة، فإني تركتهما عند عائشة فسلهما؟ ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما؟ فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.

ص: 46

وقال ابن عباس مثل ذلك ولم يعيبا عليه الثلاث ولا عائشة أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرني مالك عن ابن شهاب عن عروة أن مولاة لبني عدي يقال لها: زبراء أخبرته أنها كانت تحت عبد وهي يومئذ أمة، فعتقت فقالت: فأرسلت إلى حفصة فدعتني يومئذ فقالت: إني مخبرتك خبرا ولا أحب أن تصنعي شيئا، إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك، فقالت: ففارقته ثلاثا، فلم تقل لها حفصة: لا يجوز لك أن تطلقي ثلاثا.

ولو كان ذلك معيبا على الرجل، إذا لكان ذلك معيبا عليها إذا كان بيدها فيه ما بيده.

أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن جهمان، عن أم بكرة الأسلمية أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد، ثم أتيا عثمان في ذلك فقال: هي تطليقة، إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت.

فعثمان رضي الله عنه يخبره أنه إن سمى أكثر من واحدة كان ما سمى، ولا يقول له: لا ينبغي لك أن تسمي أكثر من واحدة، بل في هذا القول دلالة على أنه جائز له أن يسمي أكثر من واحدة، أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: البتة ما يقول الناس فيها؟ فقال أبو بكر، فقلت له: كان أبان بن عثمان يجعلها واحدة، فقال عمر: لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا من قال البتة فقد رمى الغاية القصوى.

قال الشافعي: ولم يحك عن واحد منهم على اختلاف في البتة أنه عاب البتة ولا عاب ثلاثا، قال الشافعي قال مالك في المخيرة: إن خيرها زوجها فاختارت نفسها فقد طلقت ثلاثا: وإن قال زوجها: لم أخيرك إلا في واحدة فليس له في ذلك قول، وهذا أحسن ما سمعت.

قال الشافعي: فإذا كان مالك يزعم أن من مضى من سلف هذه الأمة قد خيروا وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيار إذا اختارت المرأة نفسها يكون ثلاثا، كان ينبغي بزعمهم أن الخيار لا يحل، لأنها إذا اختارت كان ثلاثا، وإذا زعم أن الخيار يحل وهي إذا اختارت نفسها طلقت ثلاثا فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز طلاق ثلاث، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد، أن سعيد بن جبير أخبره أن رجلا أتى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي مائة فقال ابن عباس رضي الله عنه تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين.

قال الشافعي: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أن عطاء ومجاهدا قالا: إن رجلا أتى ابن عباس، فقال: طلقت امرأتي مائة، فقال ابن عباس: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين.

أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء وحده، عن ابن عباس أنه قال: وسبعا وتسعين عدوانا، اتخذت بها آيات الله هزوا، فعاب عليه ابن عباس كل ما زاد عن عدد الطلاق الذي لم يجعله الله إليه ولم يعب عليه ما جعل الله إليه من الثلاث، وفي هذا دلالة على أنه يجوز له عنده أن يطلق ثلاثا ولا يجوز له ما لم يكن إليه. اهـ.

ص: 47

المذهب الحنبلي

وأما المذهب الحنبلي فقد. . .

قال ابن قدامة: اختلف الرواية عن أحمد في جمع الثلاث، فروى عنه أنه غير محرم اختاره الخرقي، وهو مذهب الشافعي، وأبي ثور وداود، وروى ذلك عن الحسن بن علي وعبد الرحمن بن عوف، والشعبي، لأن «عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)» - متفق عليه ولم ينقل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن عائشة: «أن امرأة رفاعة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي (2)» متفق عليه، وفي حديث فاطمة بنت قيس، أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات. ولأنه طلاق جاز تفريقه فجاز جمعه كطلاق النساء.

وقد أجاب ابن قدامة عن أدلة القائلين بالإباحة جوابا إجماليا.

فقال: (3) وأما حديث المتلاعنين فغير لازم، لأن الفرقة لم تقع بالطلاق، فإنها وقعت بمجرد لعان الزوج فلا حجة فيه.

ثم إن اللعان يوجب تحريما مؤبدا، فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح بالرضاعة أو غيره.

ولأن جمع الثالث إنما حرم لما يعقبه من الندم، ويحصل به من الضرر ويفوت عليه من حل نكاحها، ولا يحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان لحصوله باللعان.

وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مقرا عليه، ولا حضر المطلق عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك لينكر عليه.

(1) صحيح البخاري الطلاق (5259)، صحيح مسلم اللعان (1492)، سنن النسائي الطلاق (3402)، سنن أبو داود الطلاق (2245)، سنن ابن ماجه الطلاق (2066)، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201)، سنن الدارمي النكاح (2229).

(2)

صحيح البخاري الطلاق (5260)، صحيح مسلم النكاح (1433)، سنن الترمذي النكاح (1118)، سنن النسائي الطلاق (3409)، سنن ابن ماجه النكاح (1932)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 38)، سنن الدارمي الطلاق (2267).

(3)

المغني ومعه الشرح الكبير 8/ 242.

ص: 48

على أن حديث فاطمة قد جاء فيه: أنه أرسل إليه بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات متفق عليه، فلم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث. ولا خلاف بين الجميع في أن الاختيار والأولى أن يطلق واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها إلا ما حكينا من قول من قال إنه يطلقها في كل قرء طلقة، والأولى أولى، فإن في ذلك امتثالا لأمر الله - سبحانه - وموافقة لقول السلف، وأمنا من الندم، فإنه متى ندم راجعها فإن فاته ذلك بانقضاء عدتها فله نكاحها.

وقال ابن حزم: وجدنا من حجة من قال: إن الطلاق الثلاث مجموعة سنة لا بدعة، قول الله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1).

فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض بغير نص.

وكذلك قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (2) عموم لإباحة الثلاث والاثنتين والواحدة.

وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (3) فلم يخص تعالى مطلقة واحدة من مطلقة اثنتين ومن مطلقة ثلاثا.

ووجدنا ما رويناه من طريق مالك، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره عن حديث لعان عويمر العجلاني مع امرأته، وفي آخره أنه قال: " كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو محمد - ابن حزم - لو كانت طلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى، لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيان ذلك فصح يقينا أنها سنة مباحة.

وقال بعض أصحابنا: لا يخلو من أن يكون طلقها وهي امرأته، أو طلقها وقد حرمت عليه ووجب التفريق بينهما، فإن كان طلقها وهي امرأته، فليس هذا قولكم، لأن قولكم إنها بتمام اللعان تبين عنه إلى الأبد، وإن كان طلقها أجنبية فإنما نحن فيمن طلق امرأته لا فيمن طلق أجنبية.

فقلنا: إنما طلقها وهو يقدر أنها امرأته هذا ما لا يشك فيه أحد، فلو كان ذلك معصية لسبقكم رسول الله - صلى

(1) سورة البقرة الآية 230

(2)

سورة الأحزاب الآية 49

(3)

سورة البقرة الآية 241

ص: 49

الله عليه وسلم - إلى هذا الاعتراض، فإنما حجتنا كلها في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار على من طلق ثلاثا مجموعة امرأة يظنها امرأته: ولا يشك في عصمته فقط.

فإن قالوا: ليس كل مسكوت عن ذكره في الأخبار يكون ترك ذكره حجة، فقلنا: نعم هو حجة لازمة إلا أن يوجد بيان في خبر آخر لم يذكر في هذا الخبر، فحينئذ لا يكون السكوت عنه في خبر آخر حجة.

ومن طريق البخاري، نا محمد بن بشار، نا يحيى هو ابن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر، نا القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:«إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: " لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (1)» فلم ينكر عليه الصلاة والسلام هذا السؤال، ولو كان لا يجوز لأخبر بذلك، وخبر فاطمة بنت قيس المشهور رويناه من طريق يحيى بن أبي كثير، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا إن ابن حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليس لها نفقة وعليها العدة (2)» وذكر باقي الخبر.

ومن طريق مسلم، نا محمد بن المثنى، نا حفص بن غياث، نا هشام بن عروة، عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت: «يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وأنا أخاف أن يقتحم علي قال: فأمرها فتحولت (3)» ومن طريق مسلم، نا محمد بن المثنى، عبد الرحمن بن مهدي، نا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطلقة ثلاثة قال:«ليس لها سكنى ولا نفقة (4)» .

فهذا نقل تواتر عن فاطمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا هي ونفر سواها بأن زوجها طلقها ثلاثا (5) وبأنه عليه الصلاة والسلام حكم في المطلقة ثلاثا ولم ينكر عليه الصلاة والسلام ذلك ولا أخبر بأنه ليس بسنة، وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه.

فإن قيل: إن الزهري روى عن أبي سلمة هذا الخبر فقال فيه: أنها ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث طلقات وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها فذكر الخبر وفيه: فأرسل مروان إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته وذكر باقي الخبر.

قلنا: نعم، هكذا رواه الزهري، فأما روايته من طريق عبيد الله بن عبد الله فمنقطعة، لم يذكر عبيد الله ذلك عنها ولا عن قبيصة عنها، إنما قال: إن فاطمة طلقها زوجها وأن مروان بعث إليها قبيصة فحدثته، وأما خبره عن

(1) صحيح البخاري الطلاق (5261)، صحيح مسلم النكاح (1433)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 42).

(2)

صحيح مسلم الطلاق (1480)، سنن الترمذي النكاح (1135)، سنن أبو داود الطلاق (2290)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234)، سنن الدارمي النكاح (2177).

(3)

صحيح مسلم الطلاق (1482)، سنن النسائي الطلاق (3547)، سنن ابن ماجه الطلاق (2033).

(4)

صحيح مسلم الطلاق (1480)، سنن النسائي الطلاق (3404)، سنن أبو داود الطلاق (2290)، سنن ابن ماجه النكاح (1869)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234)، سنن الدارمي النكاح (2177).

(5)

كذا في الأصل المنقول عنه.

ص: 50

أبي سلمة فمتصل، إلا أن كلا الخبرين ليس فيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته هي ولا غيرها بذلك، إنما السند الصحيح الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام سأل عن كمية طلاقها؟ وأنها أخبرته فهي التي قدمنا أولا، وعلى ذلك الإجمال جاء حكمه عليه الصلاة والسلام وكذلك كل لفظ روي به خبر فاطمة من (أبت طلاقها) و (طلقها البتة) و (طلقها طلاقا باتا) و (طلاقا بائنا) فليس في شيء منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه أصلا فسقط كل ذلك وثبت حكمه عليه الصلاة والسلام على ما صح أنه، أخبر به من أنه طلقها ثلاثا فقط.

وأما الصحابة رضي الله عنهم فإن الثابت عن عمر رضي الله عنه الذي لا يثبت عنه غيره، ما رويناه من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، نا زيد بن وهب: أنه رفع إلى عمر بن الخطاب برجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر: أطلقت امرأتك؟ فقال: إنما كنت ألعب، فعلاه عمر بالدرة، وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث، فإنما ضربه عمر على الزيادة على الثلاث، وأحسن عمر في ذلك، وأعلمه أن الثلاث تكفي ولم ينكرها.

ومن طريق وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، فقال له علي: بانت منك بثلاث، وأقسم سائرهن بين نسائك، فلم ينكر جمع الثلاث.

ومن طريق وكيع، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى قال: جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: بانت منك بثلاث. . . فلم ينكر الثلاث.

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي ألفا، فقال له ابن عباس: ثلاث تحرمها عليك، وبقيتها عليك وزرا، اتخذت آيات الله هزوا، فلم ينكر الثلاث، وأنكر ما زاد.

والذي جاء عنه من قوله لمن طلق ثلاثا ثم ندم: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا، وهو على ظاهره، نعم إن اتقى الله جعل له مخرجا، وليس فيه أن طلاقه الثلاث معصية.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين، فقال له ابن مسعود: ثلاث تبينها، وسائرها عدوان.

وهذان خبران في غاية الصحة، لم ينكر ابن مسعود وابن عباس الثلاث مجموعه أصلا، وإنما أنكر الزيادة على الثلاث.

ص: 51

ومن طريق أحمد بن شعيب، أنا عمرو بن علي، نا يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبعي عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع، وهذا في غاية الصحة عن ابن مسعود فلم يخص طلقة من طلقتين من ثلاث.

فإن قيل: قد روى الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود وفيه: فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى.

قلنا نعم، هذا أيضا سنة، وليس فيه أن ما عدا ذلك حرام وبدعة، فإن قيل: قد رويتم من طريق حماد بن زيد، نا يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين، قال: قال علي بن أبي طالب: لو أن الناس أخذوا بأمر الله تعالى في الطلاق ما يبيح رجل نفسه في امرأة أبدا يبدأ فيطلقها تطليقة ثم يتربص ما بينها وبين أن تنقضي عدتها فمتى شاء راجعها.

قلنا: هذا منقطع عنه، لأن ابن سيرين لم يسمع من علي كلمة، ثم ليس فيه أيضا أن ما عدا ذلك معصية ولا بدعة لا يعلم عن الصحابة رضي الله عنهم غير ما ذكرنا، وأما التابعون فروينا من طريق وكيع عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: قال رجل لشريح القاضي: طلقت امرأتي مائة، فقال: بانت منك بثلاث، وسبع وتسعون إسراف ومعصية.

فلم ينكر شريح الثلاث، وإنما جعل الإسراف والمعصية ما زاد على الثلاث، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال؟: طلاق العدة أن يطلقها إذا طهرت من الحيضة بغير جماع.

قال أبو محمد: فلم يخص واحدة من ثلاث من اثنتين لا يعلم عن أحد من التابعين أن الثلاث معصية، صرح بذلك، إلا الحسن، والقول بأن الثالث سنة هو قول للشافعي وأبي ذر وأصحابهما.

وقال ابن أبي شيبة (1): " ومن رخص الرجل أن يطلق ثلاثا في مجلس " حدثنا أبو أسامة، عن هشام قال: سئل محمد عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد، قال: لا أعلم بذلك بأسا، قد طلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثا فلم يعب عليه ذلك.

حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون عن محمد قال: كان لا يرى بذلك بأسا، حدثنا غندر عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، في رجل أراد أن تبين منه امرأته، قال: يطلقها ثلاثا.

(1) انظر مصنف ابن أبي شيبة الجزء الخامس، ص11.

ص: 52