الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد المعتصم
الدعوة الإصلاحية في
الجزيرة العربية
وحركة الجامعة الإسلامية
في منتصف القرن الثاني عشر الهجري. . ظهرت في الجزيرة العربية الدعوة الإصلاحية الكبيرة التي تزعمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، أي على مدى قرنين من الزمان تقريبا، والكتابات تتوالى في الشرق والغرب حول هذا الموضوع: مشيرة إلى الأثر الذي أحدثته وتحدثه هذه الدعوة الإصلاحية السلفية في العالم الإسلامي. ويعتمد معظم الباحثين في هذا الميدان على المصادر التاريخية الأصلية مثل الوثائق وغيرها من الأصول التاريخية.
وفي هذا المجال نعرض لأمر جديد بالنسبة لهذه الدعوة. . وهو مدى الصلة بينها وبين قيام السلطان العثماني عبد الحميد بالدعوة لفكرة " الجامعة الإسلامية " في أواخر القرن الثالث عشر الهجري.
ففي السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر الهجري. . فكر السلطان عبد الحميد في قيام الجامعة الإسلامية، يدفعه إلى ذلك أسباب من أهمها: أن دولة الخلافة العثمانية كانت تمر في ذلك الوقت بأسوأ مراحل تاريخها. . ولم تعد تعرف باسم " الرجل المريض " فحسب. . بل وصلت إلى مرحلة " الرجل المحتضر ".
فتلك دول أوربا تقتطع أجزاء من أملاكها في آسيا وأوربا. . وهذه ثورات وفتن تجتاح البلاد والشعوب التابعة للدولة العثمانية. . ثم بعد هذا. . فإن نفوذها على العالم الإسلامي بدأ ينكمش، ودورها القيادي أخذ يتقلص.
ووسط هذه الدوامة من الأحداث التي هزت كيان الدولة العثمانية. . رأى السلطان عبد الحميد أن يلعب دورا؛ ربما يؤدي إلى إقالة دولته من عثرتها. . وإحياء نفوذها مرة أخرى على البلاد الإسلامية التابعة لها.
وقد رأى استغلال الوازع الديني في هذه البلاد ليقيم عليه مشروعا يحيي به الخلافة الإسلامية في الأستانة مرة أخرى (1). من هنا كانت دعوة السلطان عبد الحميد لقيام فكرة " الجامعة الإسلامية " كرابطة دينية تجمع المسلمين في شتى العالم بعامة وفي المشرق الإسلامي بخاصة في جبهة واحدة. وهذه الجبهة تعمل تحت قيادة الخلافة في الأستانة " لتستظل بظلها، ولتعتصم بأمنها "(2).
وكان السلطان عبد الحميد وهو يخطط لفكرة الجامعة الإسلامية، يأمل في نجاحها لتعود له السيطرة على العالم الإسلامي وليكسب من وراء ذلك مكاسب سياسية على حساب الدين. ولماذا لا تنجح دعوته في تجميع المسلمين؟ لقد نجحت دعوات أخرى مماثلة قامت في مناطق تدين بالطاعة والولاء للخلافة العثمانية، ومع ذلك انتشرت وتوسعت وتجمع الناس حولها (3).
(1) لوثورب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي جـ 1 ص 270 وما بعدها.
(2)
لوثورب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي جـ 1 ص 270 وما بعدها.
(3)
Mahmoud، S. F. O؛ Study in contemporary Islam p. 73
وحين أخذ السلطان عبد الحميد يعقد تلك المقارنة، كانت تجول في خاطره نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية. لقد وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل الأساس الذي قامت عليه وهو الدعوة إلى الإصلاح الديني. وانتشرت دعوته انتشارا هائلا لأنها تمسكت بمبادئ السلف. وهي رغم القضاء على دولتها سياسيا بقوة الجيوش ومناورات السياسة (1)؛ فإنها ظلت صامدة. ولم يقتصر أمرها على أهل الجزيرة العربية فحسب، بل امتدت إلى خارجها.
ففي المساحة الواسعة الممتدة من المحيط الهادي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا؛ نجحت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أن تجد لها أنصارا. وانتشرت في الملايو وأندونيسيا والهند (باكستان والهند وبنجلاديش حاليا) ووادي النيل وشرق أفريقية والشمال الأفريقي وغربي أفريقية. بل ذهب الأمر إلى أكثر من ذلك حينما قامت في تلك الآونة دول إسلامية في أفريقية على أساس " الدعوة الإصلاحية " التي نادى بها الشيخ (2).
وحقيقة هامة يجب ألا تغيب عن أذهاننا، وهي أن العداء الذي قام في يوم من الأيام بين الدول العثمانية والدعوة الإصلاحية في مبدأ ظهورها. . قد امتد إلى سنوات عديدة بعد ذلك (3). . وأصبح ذلك العداء التقليدي بالنسبة لهذه الدولة يتوارثه آل عثمان على امتداد تاريخهم وحتى زوال عهدهم بنهاية الحرب العظمى الأولى في عام 1923 م.
وعلى هذا النحو. . نجد السلطان عبد الحميد بعد حوالي نيف ومائة عام من قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته الإصلاحية. . يأتي ليحارب الدعوة بدوره ويحاول تصفية وجودها. فإن كانت الحملات الحربية والمناورات السياسية وأساليب الدس لم تنجح في وقف تيارها. . فليستعمل لها الأسلوب الذي يناسبها - وهو القيام بدعوة دينية إصلاحية، يستقطب إليها جماهير المسلمين في أنحاء العالم.
ولعل الأثر العميق الذي تركته دعوة الشيخ في نفوس السلاطين العثمانيين، هو أنها استطاعت مع الدولة السعودية الأولى أن تقف في وجه الدولة العثمانية وجها لوجه. . وتحرر قسما هاما من الإمبراطورية العثمانية وهو شبه جزيرة العرب. ثم دعوتها الشعوب العربية كي تتحرر هي الأخرى من سيطرة الباب العالي. وكانت هذه السياسة سببا في إثارة العداء والحقد اللذين توارثهما آل عثمان تجاه الدولة السعودية.
وكان قيام السلطان العثماني بدعوته إلى قيام الجامعة الإسلامية لمنافسة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية يعني أنها كانت لا تزال تشكل خطورة كبيرة على زعامة الدولة العثمانية الروحية على العالم
(1) الدولة السعودية الأولى (1157 - 1234 هـ).
(2)
دولة عثمان دان فوديو في غرب أفريقيا " شمال نيجيريا ".
(3)
Mahmoud: Ibid p. 137.
الإسلامي. فإنه رغم مرور أكثر من قرن على قيام هذه الدعوة الإصلاحية إلا أنها كانت تنتزع قسما كبيرا من نفوذ آل عثمان الديني، وتضم إلى جانبها قطاعا هاما من المسلمين الخاضعين لدولتهم.
ومن هنا قرر السلطان عبد الحميد القيام بعمل إيجابي في مواجهة نشاط هذه الدعوة ووقفها عند حدها. وتحقيقا لهذا الهدف. . تعددت اجتماعات السلطان عبد الحميد منذ عام 1277 هـ 1860 م - لبحث ما يمكن اتخاذه من إجراءات لوقف تيار دعوة الشيخ. . ومنعه من الوصول إلى المسلمين في أنحاء العالم. وفي نفس الوقت إقناعهم بفكرة الجامعة الإسلامية كبديل لهذه الدعوة.
وفي اجتماع سري عقده في الأستانة في أول صفر 1277 هـ 19 أغسطس 1860 م توصل الحاضرون إلى قرارات فيما يتعلق بهذا الأمر وهي:
1 -
دعوة عدد من كبار الشخصيات في العالم الإسلامي، والتي تتمتع بمركز أدبي ونفوذ روحي في بلادها لزيارة الأستانة بدعوة من السلطان عبد الحميد. وهناك يعرض السلطان عليهم فكرة الجامعة الإسلامية - بوصفهم رعايا للدولة العثمانية - ويطلب إليهم استعمال نفوذهم في التأثير على مواطنيهم لينضووا تحت لواء الفكرة الجديدة، ويحاربوا أي اتجاه ديني آخر يستأثر باهتمامهم.
2 -
إرسال دعاة من قبل الخلافة العثمانية إلى سائر البلاد الإسلامية، وخاصة في تلك التي وصلت إليها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومحاولة فض المسلمين من حولها.
3 -
حشد العلماء والكتاب للكتابة ضد دعوة الشيخ، واتهامها بتهم جسيمة تنافي الدين فيكون ذلك سببا في بغض المسلمين لها.
وقد تم تنفيذ ما انتهى إليه أمر ذلك الاجتماع. . ووصل بالفعل إلى الأستانة عدد من الشخصيات المعروفة في العالم الإسلامي آنذاك، ومن ذوي التأثير والفاعلية أمثال جمال الدين الأفغاني وأبو الهدى الصيادي وغيرهما. وهناك قربهم السلطان عبد الحميد إليه، وأغدق عليهم، وعرض عليهم مشروع الجامعة الإسلامية (1).
وفي نفس الوقت، قامت الدولة العثمانية بإرسال عدد من الدعاة من قبلها إلى سائر البلاد الإسلامية
(1) لوثورب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي جـ 1 ص 270 وما بعدها.
لإقناع المسلمين بفكرة الجامعة الإسلامية على نطاق واسع، فوصل هؤلاء المبعوثون إلى مصر والسودان والمغرب والهند (الهند وباكستان وبنجلاديش حاليا) وأفغانستان والملايو للقيام برسالتهم التي تم الاتفاق على أهدافها في اجتماع السلطان عبد الحميد برجاله. هذه الأهداف تقضي بإقناع المسلمين في تلك الأقطار بأن السبيل الوحيد إلى إصلاح حالهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي هو إصلاح دينهم. وأن الجامعة الإسلامية قامت لهذا الغرض لتعيد إلى المسلمين قوتهم وحمايتهم من خطر الوقوع في قبضة الدول الغربية. وفي نفس الوقت يحذرون المسلمين مغبة " التردي في دعوة الوهابيين " وإلصاق التهم والمفتريات ضدها حتى يدللوا على صحة مفترياتهم واتهاماتهم.
وتحقيقا لأسباب دعوة السلطان عبد الحميد ونجاحها. . بادر السلطان في تنفيذ عدد من المشروعات الإصلاحية في العالم الإسلامي لإشعار المسلمين بجديته في أمر إصلاحه لأمور المسلمين. فكان أن نفذ مشروع سكة حديد الحجاز، والإغداق بلا حساب على إصلاح المسجد الحرام، وإدخال التحسينات عليه.
وقد وجدت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وهي على ذلك النحو من الاتجاه الديني تقبلا في أول الأمر من الشعوب الإسلامية لشعورها بالحاجة الفعلية إلى التضامن لمواجهة ما كان يمر بالعالم الإسلامي من أحداث. واستجابت تلك الشعوب لدعوة السلطان عبد الحميد التي استغل فيها مشاعر المسلمين بوصفه حامي حمى الإسلام وخليفة المسلمين، وخادم الحرمين الشريفين.
وفي اتجاه آخر نشطت الدولة العثمانية في تكتيل دعاتها وكتابها وعدد من الشخصيات الإسلامية والسائرين في ركابها لتأليف الكتب ونشر الرسائل على نفقتها ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته. فظهر عدد كبير من تلك الكتابات التي رصد لها مبالغ طائلة، تلصق الاتهامات بالشيخ، لتشوه بقدر الإمكان أمر الدعوة الإصلاحية التي نادى بها. وكان التركيز في تلك الحملة العدائية يتلخص في القول بأن دعوة الشيخ ما هي إلا دعوة إلى دين جديد. . وأن القائمين عليها قد أبطلوا الحج إلى بيت الله الحرام (1).
واستمرت الحملة على ذلك النحو - وهي تجد من السلطان عبد الحميد العون والمساعدة والتشجيع. وكانت المؤلفات والرسائل التي تصدر في هذا الموضوع توزع في شتى أنحاء العالم الإسلامي. والقصد من ذلك غزوه فكريا على نطاق واسع في محاولة لتحطيم دعوة الشيخ وإزالة مكانتها من نفوس المسلمين.
(1) Winder: Saudi Arabia in the 19 th century p. 73.
لكن المسلمين شعروا بعد قليل بالهدف الحقيقي من وراء فكرة الجامعة الإسلامية. وهو أن السلطان عبد الحميد قد اتخذ من مشروعه هذا وسيلة لتحقيق أغراض سياسية ومصلحة ذاتية. فلم يكن أمر الجامعة هذه إلا لتأكيد ملك السلطان وتثبيت عرشه وحكمه المطلق. . ولوقف نشاط الدعوات الإصلاحية الحقيقية التي قامت داخل الإمبراطورية العثمانية. وأن السلطان استغل الوازع الديني في نفوس المسلمين ليفرض سيطرته عليهم، ويعيد تشديد قبضة الأتراك على بلادهم (1).
وكان الفرق ظاهرا بين فكرة " الجامعة الإسلامية " والدعوة التي خاصمتها وهي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فحركة الجامعة الإسلامية تفرق بين المسلمين عنصريا ليسود عنصر على عنصر، ودعوة الشيخ الإصلاحية تدعو إلى خلق وعي إسلامي حقيقي في المجتمعات الإسلامية لتنهض من كبوتها، ولتطهر الدين من البدع (2).
حتى الكتاب والدعاة الذين سخرهم السلطان عبد الحميد لمهاجمة دعوة الشيخ. . هؤلاء ما لبث أن كشف بعضهم الآخر. . وأوضح زيف ما يزعمه الآخرون بخصوص هذه الدعوة الإصلاحية. من ذلك ما كتبه المؤرخ التركي أحمد جودت؛ وهو من خصوم دعوة الشيخ؛ كتب معلقا على كتابات من زاملوه في الحملة على الشيخ ودعوته يقول:
(إن الرد على الوهابيين يستوجب من الذين يتصدون لهم ثقافة واسعة ومعرفة بأحوال البلاد العربية، الدينية والسياسية والاجتماعية، ووقوفا على علوم الدين، واطلاعا واسعا على الحركات الفلسفية، ومقدرة على الجدل والإقناع، وأسلوبا بارعا في الكتابة. وكل أولئك مفقود عند العلماء الذين قاموا يردون على الوهابية ردودا مشحونة بالسخف والهراء ويقدمون إليها بأيديهم الوسيلة إلى السخر منهم ومحاربتهم بسلاحهم)(3).
وكان طبيعيا ألا تستمر فكرة الجامعة الإسلامية وهي على ذلك النحو من الاستغلال للدين وللمسلمين. فما لبث أن احتضرت بعد سنوات قليلة من قيامها. ثم كانت نهايتها مع الحرب العالمية الأولى.
واستمرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب باقية، قائمة على خدمة الإسلام، تحقق فكرة ابن خلدون القائلة:(بأن العرب البدو يستطيعون أن يؤلفوا قوة لها نشاطها ولها شأنها متى انقادوا إلى الدين. فمن يقارن بين مراحل ظهور الدين الإسلامي وانتشاره وبين مراحل ظهور الحركة الوهابية وانتشارها، وما سبق ظهورهما من جاهلية. . يجد أوجه الشبه واضحة)(4).
(1) Mahmoud: A Study in contemporary Islam p. 208.
(2)
منير العجلاني: تاريخ المملكة العربية السعودية ص 350 - 360.
(3)
أحمد جودت: تاريخ جودت ص 75.
(4)
Winder، R. B.: Saudi Arabia in the 19 th century p. 167.
إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي جعل وحدانية الله فوق كل شيء. . وحررت الدين من البدع. . قد تجاوبت أصداؤها في كل العالم الإسلامي من الهند شرقا إلى إفريقية الغربية وساحل الأطلسي غربا.
وهي كحركة إسلامية تصحيحية لما انتشر من البدع والخرافات التي شوهت الإسلام وجرحت جماله قد أصبح لها أثر فعال في الحركات الإسلامية التي نشأت في المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر والعشرين.