المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المذهب الأول أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌التضامن الإسلامي

- ‌دور عالمي لرسالة عالمية

- ‌تصدير

- ‌البحوث

- ‌حكمالطلاق الثلاثبلفظ واحد

- ‌القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم

- ‌المسألة الثانيةما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المذهب الأول أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

- ‌المذهب الثانيإن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا

- ‌المذهب الثالث يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة

- ‌المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا

- ‌الخلاصة

- ‌المسألة الأولى: في حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة

- ‌المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

- ‌المذهب الأول أنه يقع ثلاثا

- ‌المذهب الثانيإن الطلاق الثلاث دفعة واحدة يعتبر طلقة واحدة

- ‌المذهب الثالثأن الطلاق الثلاث يمضي ثلاثا في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها

- ‌المذهب الرابع:أنه لا يعتد به مطلقا

- ‌مصادر بحث الطلاق الثلاث بلفظ واحد:

- ‌القرار

- ‌ النشوز والخلع

- ‌النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأةوقد يدعيه كل منهما على صاحبه

- ‌ مصالحة المرأة زوجها

- ‌ الكلام عن الخلع

- ‌حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع

- ‌ الحكمين كيف يعملان

- ‌ بعث الحكمين

- ‌الخلاصة

- ‌ملخص قرار هيئة كبار العلماء المتعلق بمسالة النشوز والخلع

- ‌الشفعة بالمرافق الخاصة

- ‌الشفعة في الاصطلاح الشرعي

- ‌مشروعية الشفعة

- ‌دفع شبه القول بمنافاتها للقياس

- ‌الحكمة في مشروعية الشفعة

- ‌الاشتراك فيما لا يقبلالقسمة من العقار

- ‌الاشتراك في المنقولات

- ‌ الجوار

- ‌أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيعدون الجار. . . أو الشريك في حق المبيع

- ‌أدلة القائلين بثبوت الشفعةبحق المبيع والجوار

- ‌المناقشة

- ‌ الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى

- ‌الشفعة بشركة الوقف

- ‌شفعة غير المسلم

- ‌شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون

- ‌شفعة الغائب

- ‌شفعة الوارث

- ‌الدعوة الإصلاحية فيالجزيرة العربيةوحركة الجامعة الإسلامية

- ‌الحرب والصلح فيالإسلام

- ‌الوضع العام

- ‌مفاجأة محزنة

- ‌احترام البيت

- ‌بدء المفاوضات

- ‌ساعة الصفر

- ‌بوادر السلم تلوح في الأفق

- ‌تنفيذ العقد يبدأبمفاجأة غريبة

- ‌افتراء مغرضحولسعد بن معاذ

- ‌الأمومةفي حياة النبي ووصاياهونظرة على دورها في البناء والتوجيه

- ‌نشيد الفرحبمقدمالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تعيين مواقيت الصلاة في أي زمان ومكان على سطح الأرض

- ‌مقدمة

- ‌تحديد الشرع الإسلامي لمواقيتالصلاة

- ‌وقت الظهر

- ‌وقت العصر

- ‌وقت المغرب

- ‌وقت العشاء

- ‌وقت الصبح

- ‌الربط بين تحديد الشرع والفلك والحسابلتبين مواقيت الصلاة

- ‌المعادلات الرياضية لحساب مواقيت الصلاة

- ‌بيان المصطلحات الفلكية والرموز الخاصة

- ‌ الأقطاب والنقط الأساسية

- ‌الدوائر العظمى

- ‌الزوايا الرئيسية

- ‌المثلث الفلكي

- ‌تعيين المعادلات الرياضية لحساب مواقيت الصلاة لكل واحدة من الفروض الخمسة

- ‌أولا وقت الظهر

- ‌ثانيا وقت الشروق والغروب

- ‌ثالثا وقت الفجر والعشاء

- ‌رابعا وقت العصر

- ‌استعمال الحاسب الإليكتروني 45 ( H. P)في حل المعادلات المذكورة

- ‌استعمال الرسم البياني لتعيينلمواقيت الصلاة

- ‌كيفية استعمال المنحنى لتعيينالوقت المطلوب

- ‌تحويلالوقت الزواليوقت غروبي

- ‌ الفتاوى

- ‌في النذر

- ‌في الصيام

- ‌في الأضحية وصلاة العيد

- ‌في اللحم المذبوح ببلاد الكفاروأهل الكتاب

- ‌حكم الحلف بغير اللهحكم لبس الباروكة للزوجحكم حلق المرأة رأسها وحواجبها

- ‌السفر وإفطار رمضانحكم التوسل إلى الله بالأنبياء والصالحين

- ‌في قراءة القرآن من أجل التكسب

- ‌ المؤتمر السادس لجمعية التعليم لعموم الهند

- ‌مؤتمرات

- ‌الفائدة الأولى: إذ قال لزوجته أنت طالق أو نحوه من الصريح

- ‌الفائدة الثانية: إذا وقع به الطلاق فكم طلقة تقع به

- ‌كتب تصدر قريبا

- ‌أساليب القسم والشرط في القرآن

- ‌الولايات المتحدة

- ‌إنجلترا

الفصل: ‌المذهب الأول أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

‌المسألة الثانية

ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

وفي ذلك مذاهب

" المسألة الثانية ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد وفي ذلك مذاهب ".

‌المذهب الأول أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا

.

ذكر من قال بهذا القول:

وقال الكاساني: وأما حكم طلاق البدعة: فهو أنه واقع عند عامة العلماء، وقد ذكر هذا بعد سياقه للألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة وذكر منها الثلاث بلفظ واحد (1).

وقال ابن الهمام: وذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثا (2).

وقال الطحاوي: بعد سياقه لأدلة وقوعها ثلاثا - (3) فهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين.

وقال سحنون بن سعيد التنوخي: قلت (4): أرأيت إن طلقها ثلاثا وهي حامل في مجلس واحد أو مجالس شتى، أيلزمه ذلك أم لا؟ قال: قال مالك يلزمه ذلك.

وقال الحطاب (تنبيه) قال أبو الحسن في شرح كلام المدونة المتقدمة صورته: أن يقول لها أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق في مجلس واحد، فإن كان على غير هذه الصفة كما إذا قال: أنت طالق ثلاثا في كلمة واحدة، فقال عبد الحميد الصائغ: ثلاث تطليقات في كلمة أشد منه في ثلاثة مجالس، وفي ثلاثة مجالس أشد منه في ثلاثة أطهار، وكلما طلق يلزمه. . انتهى. . . " (5).

(1) بدائع الصنائع 3/ 96

(2)

فتح القدير 3/ 25

(3)

شرح معاني الآثار (3/ 59).

(4)

المدونة 2/ 68.

(5)

مواهب الجليل 4/ 39.

ص: 53

وقال الباجي: إذا ثبت ذلك (1) أي كلامه على تحريم إيقاع الثلاث بلفظ واحد، فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث وبه قال جماعة الفقهاء.

وقال القرطبي: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف (2).

وقد سبق أدلة كثيرة عن الإمام الشافعي رحمه الله في الكلام على المسألة الأولى وأنه يوقعها ثلاثا.

وقال الشيرازي: " وإن قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث لأن الجميع صادف الزوجية فوقع الجميع كما لو قال ذلك للمدخول بها. . . "(3)4.

وقال ابن قدامة: وإن طلق ثلاثا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، روى ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وأنس، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين، والأئمة بعدهم (4).

وقال المرداوي: وإن طلقها ثلاثا مجموعة قبل رجعة مرة واحدة طلقت ثلاثا وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب نص عليه مرارا وعليه الأصحاب بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة (5).

وقال شيخ الإسلام - في أثناء الكلام على بيان المذاهب في ذلك - الثاني أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه وهذا قول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين (6).

وقال ابن القيم: فاختلف الناس فيها - أي وقوع الثلاث بكلمة واحدة - على أربعة مذاهب: أحدها: أنه يقع وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين، وكثير من الصحابة. . . (7)

(1) المنتقى 4/ 3.

(2)

تفسير القرطبي 3/ 129.

(3)

المهذب 2

(4)

المغني 8/ 243.

(5)

الانصاف 8/ 453.

(6)

مجموع الفتاوى 33/ 8.

(7)

زاد المعاد 4/ 104.

ص: 54

وقال يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الهادي: الفصل الأول في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا هذا هو الصحيح من المذهب، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما سيأتي، وهذا القول مجزوم به في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد كالخرقي والمقنع والمحرر والهداية وغيرهم، من كتب أصحاب الإمام أحمد ولا يعدل عنه.

قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه (1)» ؟ فقال برواية الناس عن ابن عباس أنها ثلاث " وقدمه في الفروع وجزم به في المغني، وأكثرهم لم يحك غيره والله أعلم بالصواب (2).

وقال أيضا: (3). الفصل الثاني فيمن قال بهذا القول ومن أفتى به:

قال به ابن عباس غير مرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعثمان، وعلي، وابن مسعود وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أحمد، والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وأنس، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وقال به من أصحابنا الخرقي، والقاضي وأبو بكر، وابن حامد، وابن عقيل، وأبو الخطاب، والشيرازي، والشيخ موفق الدين، والشيخ مجد الدين - وليس مطلقا كما سيأتي - والشريف حتى أكثر أصحاب الإمام أحمد على هذا القول.

وفي إجماع ابن المنذر ما يدل على أنه إجماع ليس بصريح فيه. وهذا القول اختاره ابن رجب، وقد صنف ردا على من قال بخلافه، والله أعلم بالصواب.

وقال ابن عبد الهادي: قال ابن رجب: أعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوي في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد (4).

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: وعلى هذا القول - أي اعتبارها ثلاثا - جل الصحابة وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة. اهـ (5) وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس.

أما الكتاب فأولا قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (6).

(1) صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406).

(2)

سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث 70

(3)

سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث 70

(4)

سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث 77

(5)

أضواء البيان 1/ 176.

(6)

سورة البقرة الآية 229

ص: 55

قال أبو بكر الرازي تحت عنوان: " ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا " قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1). الآية، يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنه، وذلك لأن قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2). قد أبان عن حكمة إذا أوقع اثنتين بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق في طهر واحد وقد بينا أن ذلك خلاف السنة، فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا، لأن أحدا لم يفرق بينهما.

وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار، فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور.

فإن قيل: قد دللت في معنى الآية أن المراد بها بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك، فكيف تحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنها على هذا الوجه؟

قيل له: قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الاثنتين والثلاث لغير السنة وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك، ألا ترى أنه لو قال: طلقوا ثلاثا في الأطهار وإن طلقتم جميعا معا وقعن كان جائزا، وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما.

فإن قيل: معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) وقد بين الشارع الطلاق للعدة، وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث، ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه.

قيل له: نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما فنقول: إن المندوب إليه والمأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه الآية، وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى وهي قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (6) إذ ليس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ} (7) نفي لما اقتضه هذه الآية الأخرى، على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، وهو قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (8) إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (9) فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه، ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه.

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة البقرة الآية 230

(4)

سورة الطلاق الآية 1

(5)

سورة البقرة الآية 229

(6)

سورة البقرة الآية 230

(7)

سورة الطلاق الآية 1

(8)

سورة الطلاق الآية 1

(9)

سورة الطلاق الآية 1

ص: 56

وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) يعني - والله أعلم - أنه إذا وقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة، وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا: إن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، ولذلك قال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته.

فإن قيل: لما كان عاصيا في إيقاع الثالث معا لم يقع؛ إذ ليس هو الطلاق المأمور به، كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد.

قيل له: أما كونه عاصيا في الطلاق فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف، ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا، وحكم مع ذلك بصحة وقوعه، فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام، ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته، وقد نهاه الله من مراجعتها ضرارا بقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (3) فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته.

وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو: أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه. ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه، فلما لم يكن مالكا لما يوقعه، وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر، وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا، ألا ترى أنه لو وطأ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك. اهـ.

وقال القرطبي: في تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4): ترجم البخاري على هذه الآية باب من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (5) وهذه إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه. اهـ.

(1) سورة الطلاق الآية 2

(2)

سورة الطلاق الآية 2

(3)

سورة البقرة الآية 231

(4)

سورة البقرة الآية 229

(5)

سورة البقرة الآية 229

ص: 57

وقال العيني: وجه الاستدلال به أن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) معناه مرة بعد مرة فإذا جاز الجمع بين اثنتين جاز بين الثلاث وأحسن منه أن يقال، إن قوله تعالى:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) عام تناول لإيقاع الثلاث دفعة واحدة، وقال ابن أبي حاتم: أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه، أنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري، حدثني إسماعيل بن سميع، سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3)، أين الثالثة؟ قال: " التسريح بالإحسان» هذا إسناده صحيح، ولكنه مرسل ورواه ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مرسلا قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عبيد الله بن جرير بن خالد، حدثنا ابن عائشة، عن حماد بن سلمة، عن قتادة عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة؟ قال: " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» . اهـ (4).

وقد سبقت مناقشة ابن القيم لهذه الآية وبين أنها دليل على عدم وقوع الثلاث وذلك عند الكلام عليها في المسألة الأولى.

وقال الشيخ جمال الدين الإمام ردا على الاستدلال بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) وبين أنها لا تدل على وقوع الثالث قال (6): فصل: ومما يبين ويوضح بطلان تركيبهم شرعا ولغة في الطلاق الثلاث وغيره: أن لفظ التعدد فيه منصوب نصب المصدر، فإن تقدير الكلام طلقتك طلاقا ومعنى المصدر في الكلام طلقتك تطليقات ثلاث، ومعنى المصدر في الكلام إنما هو حكاية حال الفعل في صدوره عن الفاعل.

والفعل له حالتان في صدوره عن الفاعل: حالة يكون فيها خبرا عما صدر وقوعه من الفاعل في الماضي وحالة يكون فيها أداة لما يستعمل فيه من إنشاء العقود والفسوخ استعارة أو اشتراكا، فإذا أريد به الحكاية والخبر عن الماضي، فإن أريد به إخبار عن حقيقة الفعل ونفي المجاز عنه اتبع بالمصدر مطلقا.

وأما إذا استعمل الماضي في إنشاء عقد أو فسخ سواء قيل إنه على وجه الاستعارة أو الاشتراك فإن أريد حقيقة العقد أو الفسخ اتبع المصدر مثل: طلقتها تطليقا، وأما إن أريد تعدد العقد أو الفسخ بلفظ واحد في مرة واحدة بمنزلة تعدده بالتكرار مرة بعد مرة وأتبع بالعدد وحده، أو مضافا إلى المصدر المجموع، مثل طلقتك ثلاثا وقصد به التعدد، أو قال في اللعان أشهد بالله خمسا، أو خمس شهادات، أو قال في القسامة أقسم بالله

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة البقرة الآية 229

(4)

انظر عمدة القارئ الجزء التاسع ص 538.

(5)

سورة البقرة الآية 229

(6)

بواسطة سير الحاث لابن عبد الهادي 93/ 94.

ص: 58

خمسين يمينا أو قال بعد الصلاة: " سبحان الله " مرة ثم قال: " ثلاثا وثلاثين " وكذا " الحمد لله " وكذا " الله أكبر " وكذا لو قال في اليوم مرة واحدة " سبحان الله وبحمده " وأتبعها مائة مرة لم يكن بتكراره في الأيام والأوقات والعدد: فأما غير الطلاق فلا خلاف فيه، وأما الطلاق فوقع الغلط فيه من بعد الصحابة.

ثانيا: قال النووي: واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1).

قالوا: معناه أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه لوقوع البينونة فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيا فلا يندم (2)

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3): ومما يؤيد هذا الاستدلال القرآني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت، حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، الله قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت امرأتك. .

وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها ومن يتق الله، ولم يجعل الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجا لوقوع البينونة بينها مجتمعة، هذا هو معنى كلامه الذي لا يحتمل غيره، وهو قوي جدا في محل النزاع لأنه مفسر به قرآنا، وهو ترجمان القرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«اللهم علمه التأويل (5)» .

ثالثا: قال ابن عبد الهادي: (6) نقلا عن ابن رجب: قوله في سياق آيات {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (7) قال الحسن:

" كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ويقول: كنت لاعبا، ويعتق ويقول: كنت لاعبا ويزوج ابنه ويقول كنت لاعبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من قالهن لاعبا جائزات عليهم: العتاق، والطلاق، والنكاح (8)» فأنز الله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (9).

(1) سورة الطلاق الآية 1

(2)

شرح النووي لصحيح مسلم 10/ 70 - 71.

(3)

أضواء البيان (1/ 175 - 176.

(4)

سورة الطلاق الآية 2

(5)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 266).

(6)

سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث 78.

(7)

سورة البقرة الآية 231

(8)

موطأ مالك النكاح (1166).

(9)

سورة البقرة الآية 231

ص: 59

وقال ابن عبد الهادي ردا على ابن رجب في استدلاله بالآيات التي سبقت (1) وأما استدلاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3). قال: فليس بمسلم، لأن في حديث ركانة قال له " راجعها " تلا هذه الآية فهذه الآية دليل لنا لا لكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى له بهذا استدل بالآية، فلو كان فيها دليل عليه لم يستدل بها، واستدلاله بالآية يقول ابن عباس، فإن ابن عباس قد صح عنه أنه كان يفتي بهذا القول - أي واحدة - كما تقدم فليس لكم في الآية دليل.

وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (4) واستدلاله بالحديث أي حديث الحسن وقد مضى مع الآية - فالآية والحديث ليس فيهما دليل له، لأنه لم يثبت طلاق الثلاث بالكلية، وإنما كان يطلق ويقول كنت لاعبا فنزلت هذه الآية، إن الطلاق لا لعب فيه فليس في هذا دليل.

وأما استدلاله بالآية الآخرى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (5) فليس فيها دليل أيضا، لأن الطلاق هنا لم يذكر أنه بلفظة واحدة، بل الآية فيها إذا أتى بالطلاق مرة بعد أخرى، وليس في الآيات دليل له، بل كلها دليل عليه.

وأما السنة فقد استدلوا بالأدلة الآتية:

الدليل الأول: ما ثبت في الصحيحين (6) في قصة لعان عويمر وزوجته وفيه: فلما فرغا «قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)» - قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين. متفق عليه.

قال النووي (8): واستدل به أصحابنا على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حراما، وموضع الدلالة أنه لا ينكر عليه إطلاق لفظ الثلاث.

(1) سير الحاث 89 - 90.

(2)

سورة الطلاق الآية 1

(3)

سورة الطلاق الآية 2

(4)

سورة البقرة الآية 231

(5)

سورة البقرة الآية 229

(6)

صحيح البخاري وعليه الفتح 9/ 391 وصحيح مسلم وعليه شرح النووي 10/ 123.

(7)

صحيح البخاري الطلاق (5259)، صحيح مسلم اللعان (1492)، سنن النسائي الطلاق (3402)، سنن أبو داود الطلاق (2245)، سنن ابن ماجه الطلاق (2066)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 331)، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201)، سنن الدارمي النكاح (2229).

(8)

النووي على مسلم 10/ 122، ويرجع أيضا إلى الفتح 9/ 367.

ص: 60

وقد يعترض على هذا فيقال: إنما لم ينكره عليه، لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له ولا نفوذا.

ويجاب عن هذا الاعتراض بأنه لو كان الثلاث محرما لأنكر عليه، وقال له: كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام، والله أعلم.

وقال ابن نافع من أصحاب مالك: إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان، لأنه يستحب إظهار الطلاق بعد اللعان، مع أنه قد حصلت الفرقة بنفس اللعان، وهذا فاسد، وكيف يستحب للإنسان أن يطلق من صارت أجنبية.

وقال محمد بن أبي صفرة المالكي: لا تحصل الفرقة بنفس اللعان، واحتج بطلاق عويمر وبقوله: إن أمسكتها، وتأوله الجمهور كما سبق، والله أعلم، وأما قوله:" قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين " فقد تأوله ابن نافع المالكي على أن معناه استحباب الطلاق بعد اللعان كما سبق، وقال الجمهور معناه حصول الفرقة بنفس اللعان.

وقال شيخ الإسلام (1) وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدا لموجب اللعان، والنزاع إنما هو طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينها، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح، والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما لأنهما صارا أجنبيين.

ولكن غاية ما يمكن أن يقال: حرمها عليه تحريما مؤبدا. فيقال: فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح، وأن الثلاث لم تقع جميعا، بخلاف ما إذا قيل: إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما.

وقول سهل بن سعد: فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه محتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: بعد ذكره لاستدلال البخاري بحديث عويمر، ووجه الدلالة والاعتراض عليها، والجواب عن الاعتراض من وجهين، وكل ذلك سبق نقله عن النووي إلا الوجه الثاني، قال (2) وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع.

(1) مجموع الفتاوى 23/ 77 - 78 ويرجع أيضا إلى 4/ 115، زاد المعاد وإغاثة اللهفان 1/ 314.

(2)

أضواء البيان الجزء الأول، ص162 وما بعدها.

ص: 61

وبعد أن عرض بعض مذاهب العلماء وأدلتهم ومناقشتها في اللعان هل تحصل به الفرقة أم لا؟ قال: واختلف في هذا اللفظ - أي ما جاء في الحديث المتقدم من قوله: فكانت سنة المتلاعنين - هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلا وبه قال جماعة من العلماء، أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل، ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري، عن ابن شهاب عن سهل قال: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة، قال سهل:«حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان (1)» ، أبدا. هذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري.

قال الشوكاني في نيل الأوطار ورجاله رجال الصحيح، قال مقيده عفا الله عنه: ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور واقع موقعه لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري رحمه الله يفهم أن هذا اللفظ الثابت في سنن أبي داود مطابق لترجمة البخاري، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها لأنها ليست على شرطه، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه الرواية الثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق الثلاث دفعة يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له، بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى - وبعد سياقه لبقية المذاهب في الفرقة باللعان قال: وبهذا تعلن أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرا قطعيا حتى ترد به دلالة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة الثابت في الصحيح، لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك، وبعد أن عرض مذاهب العلماء في نفقة البائن وسكناها قال:

فإن قيل: إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان، لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية، فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال:«أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (2)» كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد.

(1) سنن أبو داود كتاب الطلاق (2248).

(2)

سنن النسائي الطلاق (3401).

ص: 62

فالجواب من أربعة أوجه:

الأول: الكلام في حديث محمود بن لبيد، فإنه تكلم فيه من جهتين:

ص: 62

الأولى: أنه مرسل، لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ولادته في عهده صلى الله عليه وسلم وذكره في الصحابة من أجل الرؤية، فقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صريح في السماع.

الثانية: أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه، ورواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه. قال أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني سمع من أبيه قليلا، قال ابن حجر في التقريب روايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلا، قال مقيدة عفا الله عنه.

أما الإعلال الأول بأنه مرسل فهو مردود بأنه مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل، ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة كما قاله ابن حجر في التقريب وغيره.

والإعلال الثاني بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه أن مسلما أخرج في صحيحه عدة أحاديث من رواية مخرمة عن أبيه، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم إلا بموجب صريح يقتضي الرد، والحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده.

الوجه الثاني: وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث، ولا أنه لم ينفذها، وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها والمبين مقدم على المجمل كما تقرر في الأصول، بل بعض العلماء احتج لإيقاع الثلاث دفعة بحديث محمود هذا.

ووجه استدلاله به، أنه طلق ثلاثا يظن لزومها، فلو كانت غير لازمة لبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها غير لازمة، لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.

الوجه الثالث: أن إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله: " باب من أجاز الطلاق الثلاث " وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة.

الوجه الرابع: هو ما سيأتي من الأحاديث الدالة على وقوع الثلاث دفعة كحديث ابن عمر وحديث الحسن بن علي، وإن كان الكل لا يخلو من كلام. . وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاثة دفعة، بأن الفرقة بنفس

ص: 63

اللعان لا يخلو من نظر، ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته صلى الله عليه وسلم لا دليل فيه بل نقول: لو كانت لا تقع دفعة لبين أنها لا تقع دفعة، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان كما تقدم.

الدليل الثاني: ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: " حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (1)» .

وجه الدلالة: ذكر البخاري هذا الحديث تحت ترجمة " باب من أجاز الطلاق ثلاثا ".

وقال ابن حجر (2) والعيني (3) هو ظاهر في كونه مجموعة.

وقال ابن القيم (4): في وجه استدلالهم بالحديث: فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، إذ لو لم يقع لم يتوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها، وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بهذا الدليل (5) فقال: وأما استدلالكم بحديث عائشة - وساق الحديث - فهذا مما لا ننازعكم فيه، نعم، هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال: فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا إلا لمن فعل وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفه ثلاثا، وشتمه ثلاثا، وسلم عليه ثلاثا.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (6): واعترض الاستدلال بهذا الحديث بأنه مختصر من قصة رفاعة وقد قدمنا قريبا أن بعض الروايات الصحيحة دل على أنها ثلاث مفرقة لا مجموعة انتهى. . ومقصوده (7) ببعض الروايات هي رواية مسلم «" أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى (8)» . ثم قال:

ورد هذا الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة فلا مانع من التعدد، وكونه الحديث الأخير في قصة أخرى كما ذكر الحافظ ابن حجر في الكلام على قصة رفاعة فإنه قال فيها ما نصه: وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى، وأن كلا من رفاعة القرظي، ورفاعة النضري وقع له مع زوجه له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص.

(1) صحيح البخاري الطلاق (5261)، صحيح مسلم النكاح (1433).

(2)

فتح الباري 9/ 301.

(3)

عمدة القاري 9/ 541.

(4)

زاد المعاد 4/ 108.

(5)

زاد المعاد 4/ 114.

(6)

أضواء البيان 1/ 167.

(7)

أضواء البيان 1/ 163.

(8)

صحيح مسلم الطلاق (1480)، سنن الترمذي النكاح (1135)، سنن النسائي الطلاق (3405)، سنن أبو داود الطلاق (2288)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234).

ص: 64

وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب اهـ.

الدليل الثالث:

ثبت في الصحيح في قصة رفاعة القرظي وامرأته فإن فيه «فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي. . " الحديث (1)» ، وقد أخرجه البخاري تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق الثلاث).

وجه الدلالة: قال الشيخ - محمد الأمين الشنقيطي (2) إن قولها: فبت طلاقي ظاهر في أنه قال لها: أنت طالق البتة.

وأجاب عن ذلك فقال: قال مقيده - عفا الله عنه - الاستدلال بهذا الحديث غير ناهض فيما يظهر، لأنه مرادها بقولها فبت طلاقي أي بحصول الطلقة الثالثة.

ويبينه، أن البخاري ذكر في الأدب المفرد من وجه آخر، أنها قالت: طلقني آخر ثلاث تطليقات وهذه الرواية تبين المراد من قولها فبت طلاقي وأنه لم يكن دفعة واحدة.

وقال شيخ الإسلام (3) وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا، لا هذا ولا هذا مجتمعات، وقول الصحابي طلق ثلاثا، يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها، ثم يراجعها ثم يطلقها، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاث وأما جمع الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم إنما يقع قليلا فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال: يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا بل هذا قول بلا دليل، بل هو خلال الدليل.

(1) صحيح البخاري الطلاق (5260)، صحيح مسلم النكاح (1433)، سنن الترمذي النكاح (1118)، سنن النسائي الطلاق (3409)، سنن ابن ماجه النكاح (1932)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 38)، سنن الدارمي الطلاق (2267).

(2)

أضواء البيان: 1/ 166.

(3)

مجموع الفتاوى 33/ 77.

ص: 65

الدليل الرابع

ثبت في الصحيحين من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن «أن فاطمة بنت قيس أخبرته: أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا، ثم انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس لها نفقة وعليها العدة (1)» .

وفي صحيح مسلم في هذه القصة «قالت فاطمة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " كم طلقك "؟ قلت ثلاثا. فقال: " صدق، ليس لك نفقة (2)» وفي لفظ له «قالت: يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي (3)» ، وفي لفظ له عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في المطلقة ثلاثا: " ليس لها نفقة ولا سكنى (4)».

وفي الصحيحين أيضا عن فاطمة بنت قيس: أنت أبا حفص بن المغيرة طلقها البتة وهو غائب الحديث، وقد جاء تفسير هذه البتة بأنها ثلاث كما سبق. .

وفي المسند أن هذه الثلاث كانت جميعا فروي من حديث الشعبي «أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة، فقال: " ما لك ولابنة قيس " قال يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثا جميعا (5)» ، وذكر الحديث

وجه الدلالة: أن لفظ البتة جاء مفسرا بأنه طلقها ثلاثا وأنها مجموعة، فدل على اعتبار وقوع الثلاث مجموعة إذ لو لم يكن ذلك واقعا لبين صلى الله عليه وسلم بقاءها في عصمة زوجها فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم.

وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بحديث فاطمة بنت قيس فقال: (6) أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسألة قد خالفوه، ولم يأخذوا به، فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى، ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه.

(1) صحيح مسلم الطلاق (1480)، سنن الترمذي النكاح (1135)، سنن النسائي النكاح (3222)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234)، سنن الدارمي النكاح (2177).

(2)

صحيح مسلم الطلاق (1480)، سنن الترمذي الطلاق (1180)، سنن النسائي النكاح (3222)، سنن أبو داود الطلاق (2290)، سنن ابن ماجه النكاح (1869)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234)، سنن الدارمي النكاح (2177).

(3)

صحيح مسلم الطلاق (1482)، سنن النسائي الطلاق (3547)، سنن ابن ماجه الطلاق (2033).

(4)

صحيح مسلم الطلاق (1480)، سنن الترمذي النكاح (1135)، سنن النسائي النكاح (3244)، سنن أبو داود الطلاق (2288)، سنن ابن ماجه الطلاق (2036)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234).

(5)

صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة (2942)، سنن الترمذي النكاح (1135)، سنن النسائي النكاح (3222)، سنن أبو داود الطلاق (2290)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234)، سنن الدارمي النكاح (2177).

(6)

إغاثة اللهفان: 1/ 313.

ص: 66

وأما الشافعي ومالك فأوجبوا لها السكنى، والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به، فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظا بل هو غلط - كما قال بعض المتقدمين - فليس حجة علينا في جمع الثلاث فأما أن يكون لكم على منازعيكم، وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل.

هذا مع أننا نتنزل عن هذا المقام، ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المجتمع به، ولو تأمل طرق الحديث، وكيف وقعت القصة لم يحتج به، فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك، ثم طلقها آخر ثلاث، هكذا جاء مصرحا به في الصحيح فروى مسلم في صحيحه عن عبيد الله بن عتبة - أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها - الحديث. . فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله " طلقها ثلاثا ".

وقال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس، أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، وساق الحديث وذكره أبو داود ثم قال: " وكذلك رواه صالح بن كيسان، وابن جريج، وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهري.

ثم ساق من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله قال: أرسل مروان إلى فاطمة، فسألها فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها وذكر الحديث بتمامه، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب، كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى، فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس.

قالوا: ونحن أخذنا به جميعه، ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معارض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار، وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ " طلقها ثلاثا " و " طلقها البتة " و " طلقها آخر تطليقات "" وأرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها " و " طلقها ثلاث جميعا " هذه جملة ألفاظ الحديث. . وبالله التوفيق.

فأما اللفظ الخامس وهو قوله: " طلقتها ثلاثا جميعا " فهذا.

أولا: من حديث مجالد عن الشعبي ولم يقل ذلك عن العشبي وغيره، مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي، فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله:" ثلاثا جميعا " وعلى تقدير صحته فالمراد به أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث، لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث، صح أن يقال: طلقها ثلاثا جميعا،

ص: 67

فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد، وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع في الآن الواحد لقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (1) فالمراد حصول الإيمان من الجميع، لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد سياقه بعض روايات الحديث وتوجيه الاستدلال ورد التوجيه.

قال (2) ورد بعضهم هذا الاعتراض بأن الروايات المذكورة تدل على عدم تفريق الصحابة والتابعين بين صيغ البينونة الثلاث - يعنون لفظ البتة - والثلاث المجتمعة، والثالث المتفرقة، لتعبيرها في بعض الروايات بلفظ طلقني ثلاثا، وفي بعضها بلفظ طلقني البتة، وفي بعضها بلفظ فطلقني آخر ثلاث تطليقات، فلم تخص لفظا منها عن لفظ، لعلمها بتساوي الصيغ، ولو علمت أن بعضها لا يحرم لاحترزت منه.

قالوا: والشعبي قال لها: حدثني عن طلاقك أي عن كيفيته وحاله، فكيف يسأل عن الكيفية ويقبل الجواب بما فيه عنده من إجمال من غير أن يستفسر عنه؟ وأبو سلمة روى عنها الصيغ الثلاث، فلو كان بينها عنده تفاوت لاعترض عليها باختلاف ألفاظها، وتثبت حتى يعلم منها بأن الصيغ وقعت بينونتها فتركه لذلك دليل على تساوي الصيغ المذكورة عنده، هكذا ذكر بعض الأجلاء، والظاهر أن هذا الحديث لا دليل فيه لأن الروايات التي فيها إجمال بينتها الرواية الصحيحة الأخرى، كما هو ظاهر والعلم عند الله تعالى، انتهى وقد سبق في آخر الكلام على الدليل الثالث جواب مشترك لشيخ الإسلام عن الحديث الثالث، وعن هذا الحديث فيرجع إليه.

الدليل الخامس:

ما رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم «عن ركانة بن عبد يزيد أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال والله ما أردت إلا واحدة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما أردت إلا واحدة؟ ".

(1) سورة يونس الآية 99

(2)

أضواء البيان 1/ 170.

ص: 68

قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)».

ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ركانة، أنه ما أراد بالبتة إلا واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق في الحال لم يحلفه، وممن استدل بهذا الحديث لمذهب الجمهور أبو بكر الرازي الجصاص قال: لو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله ما أردت إلا واحدة. اهـ (2).

وكذلك ابن قدامة قال: ومتى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره لما روي «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فقال: " هو ما أردت " فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)» - رواه الترمذي والدارقطني وأبو داود وقال: الحديث صحيح.

فلو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى. اهـ (4) وحديث ركانة هذا وإن تكلم فيه بعض أهل العلم فقد قبله غير واحد منهم، قال أبو الحسن علي بن محمد الطنافسي:" ما أشرف هذا الحديث "(5).

روى ذلك عنه ابن ماجه في " باب طلاق البتة " من سننه بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه عن جده.

وقال الحاكم بعد روايته من طريق الزبير بن سعيد هذه (6) قد انحرف الشيخان عن الزبير بن سعيد الهاشمي في الصحيحين.

غير أن لهذا الحديث متابعا من بيت ركانة بن عبد يزيد المطلبي، فيصح به الحديث، حدثناه أبو العباس محمد بن محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أخبرني محمد بن علي بن شافع، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد، «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان رضي الله عنهما (7)» فقد صح الحديث بهذه الرواية فإن الإمام الشافعي قد أتقنه وحفظه عن أهل بيته والسائب ابن عبد يزيد أبو الشافع بن السائب، وهو أخ ركانة بن عبد يزيد، ومحمد بن علي بن شافع عم الشافعي شيخ قريش في عصره. اهـ. كلام الحاكم وصححه أيضا ابن حبان كما في " التلخيص الحبير " للحافظ ابن حجر هذا بالنسبة لرواية الزبير بن سعيد.

أما رواية نافع بن عجير فقد صححها أبو داود كما جاء في سنن الدارقطني (8) فقد قال بعد أن ساقها: " قال أبو داود هذا حديث صحيح ".

(1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177)، سنن أبو داود الطلاق (2206)، سنن ابن ماجه الطلاق (2051)، سنن الدارمي الطلاق (2272).

(2)

أحكام القرآن 1/ 459.

(3)

سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177)، سنن أبو داود الطلاق (2206)، سنن ابن ماجه الطلاق (2051)، سنن الدارمي الطلاق (2272).

(4)

الكافي 2/ 786.

(5)

سنن ابن ماجه 1/ 632.

(6)

المستدرك 1/ 199 - 200.

(7)

سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177)، سنن أبو داود الطلاق (2206)، سنن ابن ماجه الطلاق (2051)، سنن الدارمي الطلاق (2272).

(8)

سنن الدارقطني 2/ 439.

ص: 69

ونقل ذلك عن الدارقطني أبو بكر بن العربي (1) وجزم به في (العارضة) والمنذري في مختصر سنن أبي داود.

والقرطبي في تفسيره (2) واعتمد عليه وتعقب به دعوى الاضطراب في هذا الحديث، وكذلك قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (صححه أبو داود) وممن ارتضى مسلك الإمام أبي داود في هذه الرواية الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله فقد قال: كما في تفسير القرطبي (3) رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم " اهـ.

وأما الحافظ ابن كثير فيرى: أن الحديث حسن حسبما نقله عنه الشوكاني في " نيل الأوطار " بهذا كله ظهرت قوة رواية نافع بن عجير. . وأما إعلال رواية نافع بن عجير بدعوى جهالته فلا وجه له لأن نافعا هذا بعيد من الجهالة إذ هو نافع بن عجير بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف القرشي، فأخو ركانة ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره بعض من صنف في الصحابة قال الحافظ اابن حجر في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان أيضا في الصحابة، وكذلك أبو القاسم البغوي وأبو نعيم وأبو موسى في الذيل وغيرهم، وقد بينت أمره في مختصري في الصحابة، اهـ. ويعني الحافظ مختصره في الصحابة " الإصابة في تمييز الصحابة " وقد ذكره فيه قال:" ذكره البغوي في الصحابة " وذكره له حديثه في " البتة " وتكلم على رواياته ثم قال: " وذكره ابن حبان في الصحابة " اهـ.

وممن جزم بتصحيح أبي داود لهذا الحديث المجد ابن تيمية في " المنتقى " بشرح نيل الأوطار إلا أنه عزا إليه التحسين والتصحيح معا ونصه (4)" قال أبو داود - أي في حديث نافع بن عجير - هذا حديث حسن صحيح " وفي جزمه هو وابن العربي والمنذري والقرطبي والحافظ ابن حجر بتصحيح أبي داود لهذه الرواية الرد على من قال: بأن أبا داود لم يحكم بصحة حديث نافع ابن عجير، وإنما قال فيه:" هذا أصح من حديث ابن جريج. . . إلخ، وهذا لا يدل على أن الحديث عنده صحيح، فإن حديث ابن جريج ضعيف، وحديث نافع بن عجير ضعيف، وإنما يعني أبو داود أنه أصح الضعيفين عنده " اهـ.

ومما يقوي حديث نافع بن عجير في البتة صنيع الأئمة الذين أوردوه في مصنفاتهم في الحديث، فقد قال الدارمي في مسنده:" باب في الطلاق البتة " وقال أبو داود ما جاء في " البتة " وقال الترمذي: " باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة ".

(1) العارضة على الترمذي 5/ 135.

(2)

تفسير القرطبي 3/ 132.

(3)

تفسير القرطبي 3/ 132.

(4)

نيل الأوطار 6/ 227.

ص: 70

الجواب عن حديث ركانة:

أما حديث ركانة فقد ضعف الإمام أحمد بن حنبل جميع طرقه كما ذكره المنذري، وكذلك ضعفه البخاري قال الترمذي في " باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة " من سننه بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد بن عبد الله بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال (1):" وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب ويروى عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا " اهـ. وذكر الترمذي في موضع آخر (2) أن حديث ركانة مضطرب فيه، تارة قيل فيه " ثلاثا " وتارة قيل فيه " واحدة ".

فعلى قول هذين الإمامين أحمد بن حنبل والبخاري لا احتجاج برواية " ثلاثا " ولا برواية " البتة " بل غاية ما في الأمر أن تتساقط الروايتان المتعارضتان فيرجع إلى غيرهما كما ذكره الزرقاني، وعلى غير ذلك المسلك الذي سلكه الإمامان أحمد بن حنبل والبخاري نقول: إن لهذا الحديث روايتين:

إحداهما: عند الإمام أحمد بن حنبل " ثنا سعد بن إبراهيم، ثني أبي عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف طلقتها؟ " قال طلقتها ثلاثا، فقال " في مجلس واحد؟ " قال نعم، قال " فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت "، قال: فراجعها (3)» فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر.

وقد أجيب عن هذه الرواية فقال البيهقي: " إن هذا الإسناد لا تقوم به الحجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه، بخلاف ذلك ومع رواية أولاد ركانة أن طلاق ركانة كان واحدة " يعني البيهقي بأولئك الثمانية الذين رووا فتيا ابن عباس، بخلاف ذلك سعيد بن جبير

(1) مختصر سنن أبي داود 3/ 122.

(2)

جامع الترمذي 5/ 132.

(3)

سنن أبو داود الطلاق (2196)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 265).

ص: 71

وعطاء بن أبي رباح، ومجاهدا، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك ابن الحارث، ومحمد بن إياس ابن البكير ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري، وقد ذكر رواياتهم: عنه (1) في " باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك " ويعني برواية أولاد ركانة روايتهم أن ركانة إنما طلق امرأته البتة التي جزم أبو داود بأنها أصح، لأنهم أهله وهم أعلم بخبره كما سيأتي.

الثانية: ما أخرجه أبو داود في " سننه " قال: حدثنا أحمد بن صالح، نا عبد الرزاق بن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه:" أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان يشبه منه كذا وكذا؟ ".

قالوا: نعم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد " طلقها " ففعل.

قال: " راجع امرأتك أم ركانة وإخوته " فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال:" قد علمت فراجعها " وتلا: (3)».

وقد أجيب عن هذه الرواية بما يلي:

1 -

إعلالها بجهالة بعض بني أبي رافع: قال الخطابي (4) " في إسناد هذا الحديث مقال، لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمه والمجهول لا تقوم به الحجة.

وقال ابن حزم: هذا لا يصح لأنه من غير مسمى من بني أبي رافع، ولاحجة في مجهول، وما نعلم في بني أبي رافع من يحتج به إلا عبيد الله وحده، وسائرهم مجهولون (5).

وقال ابن القيم: (6) إن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة، عن ابن عباس، ولأبي رافع بنون، ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله بن أبي رافع، ولا

(1) السنن الكبرى للبيهقي 7/ 337.

(2)

سنن أبو داود الطلاق (2196).

(3)

سورة الطلاق الآية 1 (2){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(4)

معالم السنن 3/ 126.

(5)

المحلى - 10/ 168.

(6)

تهذيب سنن أبي داود 3/ 121.

ص: 72

نعلم هل هو هذا أو غيره، ولهذا - والله أعلم - رجح أبو داود حديث نافع بن عجير عليه. اهـ.

وقد يقال، بأن في هذا الإعلال نظرا، لأن كلام أبي داود في غاية التصريح، بأن ترجيحه لحديث نافع ابن عجير إنما هو لأنهم أهل بيت ركانة وأهل بيت الشخص أعلم بخبره. . وقد استجاز الحافظ زين الدين العراقي أن يكون ذلك المجهول الفضل بين عبيد الله بن رافع (1) وتبعه في ذلك ابن حجر في " تقريب التهذيب " والخزرجي في " الخلاصة " لكن ذكر الحافظ ابن رجب في " مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة " أن ذلك الرجل الذي لم يسم في رواية عبد الرزاق: هو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، قال ابن رجب: وهو رجل ضعيف الحديث بالاتفاق، وأحاديثه منكرة، وقيل إنه متروك فسقط هذا الحديث حينئذ. اهـ.

وأورد له الذهبي في " ميزان الاعتدال " عدة مناكير من روايته عن أبيه عن جده وقال: قال فيه يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدا، وقال ابن عدي: هو في عداد شيعة الكوفة. اهـ.

2 -

إن رواية محمد بن ثور الثقة العابد الكبير ليس فيها أنه طلقها ثلاثا وإنما فيها " إني طلقتها " وهي عند الحاكم في تفسير سورة الطلاق قال الحاكم (2): أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، ثنا علي بن المبارك الصنعاني، ثنا يزيد بن المبارك، ثنا محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة من مزينة فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم حمية عند ذلك فدعا ركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: " أترون كذا من كذا "؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد " طلقها " ففعل، فقال لأبي ركانة: " ارتجعها " فقال: يا رسول الله إني طلقتها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد علمت ذلك فارتجعها "، فنزلت (4)» .

ويرى ابن رجب تقديم رواية محمد بن ثور هذه على رواية عبد الرزاق محتجا بأن عبد الرزاق حدث في آخر عمره بأحاديث منكرة جدا في فضائل أهل البيت وذم غيرهم، قال: وكان له ميل إلى التشيع، وهذا الحكم ما يوافق هوى الشيعة.

(1) المستفاد من مبهمات المتن والإسناد: 66.

(2)

المستدرك 2/ 291.

(3)

سنن أبو داود الطلاق (2196).

(4)

سورة الطلاق الآية 1 (3){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

ص: 73

3 -

أن في حديث ابن جريج غلطا: لأن عبد يزيد لم يدرك الإسلام، نبه على ذلك الحافظ الذهبي في كتابيه " تلخيص المستدرك " و" التجريد لأسماء الصحابة " وقال (1) تعقيبا لقول الحاكم في حديث محمد بن ثور عن ابن جريج المتقدم:" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " قال محمد - أي ابن عبيد الله بن أبي رافع - " واه، والخبر خطأ وعبد يزيد لم يدرك الإسلام " وقال (2) عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف: أبو ركانة طلق أم ركانة وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة ركانة. اهـ.

4 -

حصل الحديث على أنه من قبيل الرواية بالمعنى وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة فقال بعضهم: هي ثلاثة، وقال بعضهم: هي واحدة، وكان الراوي ممن يذهب مذهب الثلاث، فحكى أنه قال:" طلقتها ثلاثا " يريد " البتة " التي حكمها عنده حكم الثلاث ذكر ذلك الخطابي (3) وقال النووي في شرح صحيح مسلم: " ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ " البتة " يقتضي الثلاث فرواه بالمعنى الذي فهمه وغلط في ذلك " اهـ.

5 -

أن حديث عبد الرزاق لو صح متنه ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، فيحمل على أنه طلقها ثلاثا في مرات متعددة، وتكون هذه الواقعة قبل حصر عدد الطلاق في الثلاث، ذكر هذا المسلك الحافظ ابن رجب في كتابه:" مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة ". .

6 -

أن قضية ركانة من باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فإن له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام، فقد قال ضمن الأحكام التي خص بها من شاء قال:" وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل " اهـ.

7 -

أن رواية أهل بيت ركانة طلق امرأته البتة أولى بالتقديم، على رواية من يروي أنه إنما طلقها ثلاثا وهذا مسلك أبي داود وابن عبد البر والقرطبي، قال أبو داود في " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث "(4)" من سننه " حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال «طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية. . إلى آخر الحديث (5)» المتقدم ثم قال: وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، أن ركانة طلق امرأته البتة فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم أصح، لأنهم ولد الرجل وأهله أعلم به. إن ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة. اهـ.

(1) تلخيص المستدرك 2/ 491.

(2)

التجريد 388.

(3)

معالم السنن 3/ 122.

(4)

سنن أبي داود 1/ 7، 508.

(5)

سنن أبو داود الطلاق (2196).

ص: 74

وأوضح الأمر غاية الإيضاح في " باب في البتة " فقال: حدثنا ابن السرح، وإبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور في آخرين: قالوا ثنا محمد بن إدريس الشافعي، حدثنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبيد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان (1)» ، قال أبو داود أوله لفظ إبراهيم، وآخره لفظ ابن السرح، حدثنا محمد بن يونس النسائي، أن عبد الله بن الزبير حدثهم عن محمد بن إدريس، حدثني عمي محمد بن علي عن ابن السائب، عن نافع بن عجير، عن ركانة بن عبد يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث.

حدثنا سليمان بن داود العتكي، ثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، «أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:" ما أردت؟ ". قال: واحدة. قال: " آلله "؟ قال: آلله. قال: " هو على ما أردت (2)». قال أبو داود: وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا لأنهم أهل بيته وهم أعلم به، وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس اهـ.

وقال ابن عبد البر في رواية الشافعي (3) رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني المطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم، اهـ.

وقال القرطبي بعد أن ذكر رواية الدارقطني حديث الشافعي من طريق أبي داود (4) فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج بغيره والله أعلم. اهـ. . وممن قوي هذا المسلك الحافظ ابن حجر قال (5): " إن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة

(1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177)، سنن أبو داود الطلاق (2206)، سنن ابن ماجه الطلاق (2051)، سنن الدارمي الطلاق (2272).

(2)

سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177)، سنن أبو داود الطلاق (2208)، سنن ابن ماجه الطلاق (2051)، سنن الدارمي الطلاق (2272).

(3)

تفسير القرطبي: 3/ 131 - 132.

(4)

تفسير القرطبي 3/ 131.

(5)

فتح الباري 9/ 297.

ص: 75

كما أخرجه هو من طريق آل ركانة وهو تعليل قوي لجاوز أن يكون بعض رواته حمل " البتة " على الثلاث فقال " طلقها ثلاثا " فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس، ولشيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة لحديث ركانة هذا، ذكرها في كلامه على المقارنة الإجمالي بين أدلة الفريقين تركنا ذكرها هنا وستذكر في آخر البحث.

وقد أجاب ابن القيم أيضا عن حديث ركانة فقال (1): وأما حديث نافع بن عجير الذي رواه أبو داود أن ركانة طلق امرأته البتة فأحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة، فمن العجب تقديم نافع ابن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة، ولا يدري من هو " ولا ما هو " على ابن جريج ومعمر وعبد الله بن طاوس في قصة أبي الصهباء، وقد شهد إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا، هكذا قال الترمذي في الجامع، وذكر عنه في مواضع أنه مضطرب، فتارة يقول:" طلقها ثلاثا " وتارة يقول: " واحدة " وتارة يقول: " البتة " وقال الإمام أحمد: وطرقه كلها ضعيفة، وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه. ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواته على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع، وأبو رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم، وليس فيه منهم بالكذب؟ !

وقد روى عنه ابن جريج ومن يقبل رواية المجهول، أو يقول رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده، فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد فكلا، فغاية الأمر أن يتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما، وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد، وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله:" حدثني داود بن الحسين " ولكن رواه أبو عبد الله الحاكم في مستدركه وقال إسناده صحيح فوجدنا الحديث لا علة له.

وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع، وقد صحح هو وغيره بهذا الإسناد بعينه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا (2)» وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزل الأئمة تحتج به، وقد احتجوا به في حديث " العرايا " فيما شك فيه ولا يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها، مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرطب بالتمر فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قد حتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتجتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته، وارتضاه البخاري لإدخال حديثه في صحيحه.

(1) زاد المعاد 4/ 115 - 116. وإغاثة اللهفان 1/ 315 - 316.

(2)

سنن الترمذي النكاح (1143)، سنن أبو داود الطلاق (2240)، سنن ابن ماجه النكاح (2009)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 217).

ص: 76

الدليل السادس

روى الدارقطني من حديث الحسن البصري قال: «حدثنا عبد الله أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق عند ذلك أو أمسك " فقلت يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: " لا كانت تبين منك وتكون معصية (1)» .

وأجيب بمعارضته بما رواه الدارقطني في سننه: نا محمد بن أحمد بن يوسف بن يزيد الكوفي أبو بكر ببغداد، وأبو بكر أحمد بن دارم، قالا: نا أحمد بن موسى بن إسحاق، نا أحمد بن صبيح الأسدي، نا ظريف ابن ناصح عن معاوية، عن عمار الدهني، «عن أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض؟ فقال: أتعرف ابن عمر؟ قلت نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة (2)».

ففيه دليل على أنه طلقها ثلاثا بالفعل وردت إلى الواحدة.

وأجاب القرطبي وابن رجب عن حديث تطليق ابن عمر امرأته ثلاثا وهي حائض ورد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى السنة، قال القرطبي:(3) ما نصه: قال الدارقطني - أي في رواته - كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض قال عبيد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة، وكذلك قال صالح بن كيسان، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أمية، وليث بن سعد، وابن أبي ذئب وابن جريج، وجابر، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة، وكذلك قال الزهري عن سالم، عن أبيه، ويونس بن جبير، والشعبي، والحسن، اهـ كلام القرطبي.

وممن ذكر رواية الليث ابن سعد مسلم بن الحجاج في صحيحه قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، وابن رمح، واللفظ ليحيى قال قتيبة: حدثنا ليث، وقال الآخران: أخبرنا الليث بن سعد، عن

(1) صحيح البخاري الطلاق (5332)، صحيح مسلم الطلاق (1471)، سنن الترمذي الطلاق (1175)، سنن النسائي الطلاق (3392)، سنن أبو داود الطلاق (2185)، سنن ابن ماجه الطلاق (2019)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 124)، موطأ مالك الطلاق (1220)، سنن الدارمي الطلاق (2262).

(2)

سنن الترمذي الطلاق (1175)، سنن النسائي الطلاق (3400)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 43).

(3)

تفسير القرطبي: 3/ 130.

ص: 77

نافع «عن عبد الله، أنه طلق امرأة له وهي حائض تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء وزاد ابن رمح في روايته وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجها غيرك وعصيت الله فيما أمرك من طلاق امرأتك (1)» .

قال مسلم: جود الليث في قوله " تطليقة واحدة " يعني مسلم بذلك كما بينه النووي أن الليث حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره، ولم يهمله كما أهمله غيره، ولا غلط فيه وجعله ثلاثا كما غلط فيه غيره.

وقد أطال الدارقطني في سرد الروايات عن الأئمة المذكورين وأتى في ذلك بما لا يدع مجالا للشك في أن تطليقة ابن عمر لامرأته كانت واحدة، كما صرح النووي في شرح صحيح مسلم، بأن الروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أن ابن عمر إنما طلق امرأته واحدة.

وقال (2). الحافظ ابن رجب في الرد على رواية الثلاث أيضا: قد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ردها عليه لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روى ذلك عن أبي الزبير أيضا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقا فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه، وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال عن جابر أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد وتفرد بقوله:" فإنها امرأته " ولا يدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثا، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه.

فروى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة، خرجه مسلم وفي رواية: قال له ابن سيرين: فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه، وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه، والعلم، أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ولعل أبا الزبير من هذا القبيل، ولذلك كان رافع يسأل كثيرا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثا أو واحدة؟ ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك.

(1) صحيح البخاري الطلاق (5332)، صحيح مسلم الطلاق (1471)، سنن النسائي الطلاق (3557)، سنن أبو داود الطلاق (2185)، سنن ابن ماجه كتاب الطلاق (2022)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 124)، موطأ مالك الطلاق (1220)، سنن الدارمي الطلاق (2262).

(2)

جامع العلوم والحكم (56 - 57) شرح حديث " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".

ص: 78

واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له، قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم لأنه يخالف ما أمر به فقال: هذا قول سوء رديء ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض وقال أبو عبيدة: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم ويمنهم وشامهم وعراقهم ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم.

وقد أجاب ابن القيم عن حديث ابن عمر من رواية الحسن فقال (1): وأما حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف، قال الدارقطني: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا يعلى بن منصور، حدثنا شعيب بن زريق، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر - فذكره - وشعيب وثقه الدارقطني، وقال أبو الفتح الأزدي فيه لين وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث، وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه.

ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب البتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح، ولا السنن.

الدليل السابع:

روى الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، قال:«" طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن أبانا طلق امرأته ألفا، فهل له من مخرج؟ فقال: " إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه» .

قال ابن القيم (2) وأما حديث عبادة بن الصامت الذي رواه الدارقطني فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقي.

(1) إغاثة اللهفان 1/ 318.

(2)

إغاثة اللهفان: 1/ 317.

ص: 79

الدليل الثامن:

روى الدارقطني من حديث حماد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول، سمعت معاذ بن جبل يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته» .

ورد بأن في إسناده إسماعيل بن أمية الذراع وهو ضعيف.

قال ابن القيم (1). وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل، والدارقطني إنما رواه للمعرفة وهو أجل من أن يحتج به، وفي إسناده إسماعيل ابن أمية الذراع، يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته: إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث.

الدليل التاسع:

روى الدارقطني من حديث زاذان عن علي رضي الله عنه قال: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا أو لعبا، ومن طلق البتة ألزمناه ثلاثا، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره» .

(1) إغاثة اللهفان 1/ 317

ص: 80

ورد هذا (1). الحديث بأن فيه إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني كوفي ضعيف.

وقال ابن القيم: قلت وفي إسناده مجاهيل وضعفاء.

وأما الإجماع فقد نقله كثير من العلماء في مسألة النزاع وقالوا إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي: الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على رواية بخلاف الإجماع فإنه معصوم، وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة واحدة، أبو بكر الرازي، والباجي، وابن العربي وابن رجب.

قال أبو بكر الرازي (2). فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كان معصية.

وقال الباجي: من أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث وبه قال جماعة الفقهاء وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء وإنما يروي هذا عن الحجاج بن أرطاة ومحمد بن إسحاق، والدليل على ما نقوله: إجماع الصحابة لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله تعالى عنهم - ولا مخالف لهم وما روي عن ابن عباس في ذلك من رواية طاوس، قال فيه بعض المحدثين هو وهم، وقد روى ابن طاوس عن أبيه وكذا عن ابن وهب خلاف ذلك، وإنما وقع الوهم في التأويل اهـ (3). .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في ضمن أجوبته عن حديث ابن عباس قال: إنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة، ولم يعرف لما في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان، والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا، اهـ (4). .

وقال بعد ما بين أن المراد بالطلاق في الآية الكريمة {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5). المشروع، قال: قد نقول بأن غيره ليس بمشروع لولا تظاهر الأخبار (6). وقال ابن رجب في " بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة ": " اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد " اهـ.

(1) إغاثة اللهفان 1/ 317

(2)

أحكام القرآن 1/ 459

(3)

المنتقى 4/ 3

(4)

الناسخ والمنسوخ

(5)

سورة البقرة الآية 229

(6)

أحكام القرآن 1/ 81

ص: 81

وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بالإجماع مبينا وجوه نقضه فقال: وبيان هذا من وجوه:

أحدها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما " إذ قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهي واحدة " وهذا الإسناد على شرط البخاري. . وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا؟ فقال: سئل عن ذلك ابن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاوسا وهو في المسجد، فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاوسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة.

أخبرنا ابن جريج قال: وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا، ولم يجمع، كن ثلاثا، قال: فأخبرت طاوسا، فقال: أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة ".

فقوله: " إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا " أي إذا كن متفرقات، فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة، وهذا هو الذي حلف عليه طاوس أن ابن عباس كان يجعله واحدة، ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان ثابتتان عن ابن عباس بلا شك.

الوجه الثاني: أن هذا مذهب طاوس، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وأنه كان يقول: يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا: " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة ".

الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبي رباح، قال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: " إذا طلقها ثلاثا

ص: 82

قبل أن يدل بها فهي واحدة ".

الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم.

الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحاق عن داود بن الحسين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم، ولفظه: حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس «" أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة (1)» قال أبو عبد الله: " وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة، فيرد إلى السنة ".

الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهوية في البكر، قال محمد بن نصر المروزي في كتاب " اختلاف العلماء " له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاوس عن ابن عباس «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر يجعل واحدة (2)» ، على هذا قال:" فإن قال لها - ولم يدخل بها - أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فإن سفيان وأصحاب الرأي، والشافعي، وأحمد، وأبا عبيد قالوا: بانت منه بالأولى، وليست الثنتان بشيء، لأن غير المدخول بها تبين بواحدة، ولا عدة عليها ".

وقال مالك، وربيعة، وأهل المدينة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى " إذا قال لها ثلاث مرات أنت طالق، نسقا متتابعة، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فإن هو سكت بين التطليقتين، بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية " فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاث مذاهب للصحابة والتابعين، ومن بعدهم:

أحدها: أنها واحدة، سواء قالها بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.

الثاني: أنها ثلاث، سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.

الثالث: أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهي ثلاث، وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحدة.

(1) سنن أبو داود الطلاق (2196).

(2)

صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406).

ص: 83

الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول، قال ابن المنذر في كتابه الأوسط: وكان سعيد بن جبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون:" من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة ".

الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه، وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه، إنما هو مذهب سعيد بن جبير.

الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه، قال ابن المنذر: واختلف في هذا الباب عن الحسن، فروى عنه كما رويناه عن أصحاب النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وذكر قتادة، وحميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، فقال: واحدة بائنة، وهذا الذي ذكره ابن المنذر رواه عبد الرزاق في المصنف، فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال الحسن (1). وما بعد الثلاث فقال: صدقت، وما بعد الثلاث، فأفتى الحسن بذلك زمنا، ثم رجع فقال: واحدة تبينها. . ويخطبها، فقال به حياته (2). الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار، قال عبد الرزاق: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص أنت قاص، الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، فذكر عطاء مذهبه، وعبد الله بن عمرو مذهبه.

(1) في المطبوعة " ويحطها مقالة جناية " وعلى كل حال فالجملة غير واضحة، فلتحرر.

(2)

وقد صحح نص الأثر من نسخة المصنف نفسه 6/ 332

ص: 84

الوجه الحادي عشر: أنه مذهب خلاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه.

الوجه الثاني عشر: أنه مذهب مقاتل الرازي (1) حكاه عنه المازري في كتابه " المعلم بفوائد مسلم " قال الخطيب: حدث عن عبد الله بن المبارك، وعباد بن العوام، ووكيع بن الجراح، وأبي عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد، والبخاري في صحيحه وكان ثقة.

الوجه الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك، حكاها عنه جماعة من المالكية، منهم التلمساني صاحب " شرح الخلاف "، وعزاها إلى ابن أبي زيد: أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولا في مذهب مالك، وجعله شاذا. الوجه الرابع عشر: أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب " الوثائق " وهو مشهور عند المالكية، عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، ولم يطلق إلا واحدة، كما لو قال: حلفت ثلاثا، كانت يمينا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث.

الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللخمي المشيطي، صاحب كتاب الوثائق الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم، فقال: وأما من قال: أنت طالق ثلاثا؛ فقد بانت منه، قال " ألبتة " أو لم يقل، قال: وقال بعض الموثقين - يريد المصنفين في الوثائق - اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كما يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من

(1) قوله - مقاتل الرازي - كذا بالأصل المطبوع.

ص: 85

العلماء على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذي لا شك فيه، قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتيين بالأندلس، قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة، وأحاديث مسطورة أضربنا عنها، واقتصرنا على الصحيح منها، فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: «أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا في مجلس واحد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هي واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فارتجعها (1)» ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها.

الوجه السادس عشر: أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتاب " تهذيب الآثار " فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا - ثم ذكر حديث أبي الصهباء - ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا، فقد وقعت عليها واحدة، إذا كانت في وقت سنة، وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم، ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به. . .، ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم معتد، يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويعول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، وقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه، والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل.

الوجه السابع عشر: أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات: أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا، وقال في بعض مصنفاته: هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد.

قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد، فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم.

(1) مسند أحمد بن حنبل (1/ 265).

ص: 86

الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن النسفي (1) في وثائقه - وقد ذكر الخلاف في المسألة ثم قال: ومن بعض حججهم أيضا في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة، كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا، كما جعل مالك رحمه الله رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة، وبني عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس: أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وابن زنباع، مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه.

الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب " مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام " ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه، وذكر من كان يفتي بها من المالكية، والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جدا.

ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر في العلم باعه، وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة، جهلا منه وظلما، ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما.

قال ابن هشام: قال ابن مغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة، فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه، وطلاق البدعة: نقيضه، وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس، أو ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. .، ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله - ثلاثا - لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله في " ثلاث " إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح، ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله.

(1) في نسخة الواسطي.

(2)

سورة البقرة الآية 229

ص: 87

تعالى ثلاثا يردد الحلف، كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة فالطلاق مثله، ومثله.

قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنهما - روينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع، شيخ هدى، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة.

وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق، فقال تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1). يريد أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة، ومعنى قوله:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (3). يريد الندم على الفرقة، والرغبة في المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن؛ لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقا؛ فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، فتدبره.

وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك.

من ذلك قول الرجل: ما لي صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه. .، هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه، أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم؟ سبحانك، هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى، أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون، فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله.

" وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ".

الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود، وأصحابه وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس وراء ظهورهم، فلم يعبأوا به شيئا، وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك، فأباح جمع الثلاث وأوقعها.

فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير، وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلاشك عن ابن مسعود،

(1) سورة البقرة الآية 229

(2)

سورة البقرة الآية 229

(3)

سورة الطلاق الآية 1

ص: 88

وعلي وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك؛ فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه، ونعزوه إليها، وبالله التوفيق.

وأما الآثار ففتاوي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن أبي شيبة في مصنفه: نا علي بن مسهر، عن شقيق بن أبي عبد الله، عن أنس قال: كان عمر إذا أتى برجل قد طلق امرأته ثلاثا في مجلس أوجعه ضربا وفرق بينهما.

نا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، أن رجلا بطالا كان بالمدينة طلق امرأته ألفا فرجع إلى عمر فقال: إنما كنت ألعب؛ فعلا عمر رأسه بالدرة وفرق بينهما.

نا وكيع، والفضل بن دكين، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى، قال: جاء رجل إلى عثمان فقال: إني طلقت امرأتي مائة، قال: ثلاث تحرمها عليك، وسبعة وتسعون عدوان.

نا وكيع عن الأعمش عن حبيب قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: بانت منك بثلاث، وأقسم سائرها بين نسائك.

نا ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن رجل من أهل مكة، قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: الثلاث تحرمها عليك، واقسم سائرهن بين أهلك.

نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين مرة، قال: فما قالوا لك قال: قالوا قد حرمت عليك، قال: فقال عبد الله: لقد أرادوا أن يبقوا عليك، بانت منك بثلاث وسائرهن عدوان.

نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة؟ قال: حرمتها ثلاث، وسبعة وتسعون عدوان.

نا وكيع، عن سفيان عن منصور والأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني طلقت امرأتي مائة، فقال: بانت منك بثلاث، وسائرهن معصية.

نا محمد بن فضيل، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن علقمة عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إنه كان بيني وبين امرأتي كلام فطلقتها عدد النجوم، قال: تكلمت بالطلاق؟ قال: نعم، قال: قال عبد الله قد بين الله الطلاق فعمن أخذته؟ فمن طلق كما أمره الله فقد تبين له، ومن لبس على نفسه جعلنا به لبسه، ولا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون.

ص: 89

نا أسباط بن محمد، عن أشعث، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه، وبانت منه امرأته.

نا محمد بن بشر أبي معشر قال: نا سعيد المقبري قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا عنده فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه طلق امرأته مائة مرة، قال: بانت منك بثلاث، وسبعة وتسعون يحاسبك الله بها يوم القيامة.

نا ابن نمير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس، أتاه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا؛ فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، فلم يجعل له مجرجا.

نا عباد بن العوام عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إنه طلق امرأته مائة مرة، وإنما قلتها مرة واحدة فتبين مني بثلاث أم هي واحدة؟ فقال: بانت بثلاث، وعليك وزر سبعة وتسعين.

نا وكيع عن سفيان قال: حدثني عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفا ومائة، قال: بانت منك بثلاث، وسائرهن وزر اتخذت آيات الله هزوا.

نا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب عن عمرو، سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته عدد النجوم؟ فقال: يكفيك من ذلك رأس الجوزاء.

نا سهيل بن يوسف عن حميد عن واقع بن سحبان قال: سئل عمران بن حصين عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس؟ فقال: أثم بربه، وحرمت عليه امرأته.

نا غندر، عن شعبة عن طارق، عن قيس بن أبي حازم، أنه سمعه يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاث يحرمنها عليه وسبعة وتسعون فضل.

وقال سعيد بن منصور (1): نا خالد بن عبد الله بن سعيد الجريري، عن الحسن أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم فألزم كل نفس ما ألزم نفسه، من قال لامرأته أنت علي حرام؛ فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة؛ فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثا؛ فهي ثلاث. اهـ.

وقال ابن عبد الهادي (2): وقد جعل ابن رجب في آخر كتابه هذا في إحداث عمر للطلاق، وأنه مقبول قوله فقال: فصل - أخرج البخاري من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن

(1) سنن سعيد بن منصور القسم الأول المجلد الثالث / 259.

(2)

سير الحاث / 79، 80.

ص: 90

يكن في أمتي أحد فإنه عمر (1)» وفي رواية ذكرها تعليقا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يتكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر (2)» وأخرج مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب (3)» ، وعنده قال ابن وهب محدثون " ملهمون "، وقال الترمذي عن ابن عيينه: قال يعني مفهمين، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه «يا رسول الله، كيف محدث؟ قال: " الملائكة على لسانه» ، والله أعلم.

فصل: قال ابن رجب في آخر كتابه: اعلم أن ما قضى به عمر على قسمين:

أحدهما: ما لا يعلم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه قضاء بالكلية، وهذا على نوعين:

ما جمع فيه عمر الصحابة وشاورهم فيه فأجمعوا معه عليه؛ فهذا لا يشك أنه الحق كهذه المسألة، والعمريتين، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومسائل كثيرة.

الثاني: ما لم يجمع الصحابة فيه مع عمر بل مختلفين فيه في زمنه، وهذا يسوع فيه الاختلاف كمسائل الجد مع الإخوة.

ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضاء بخلاف قضاء عمر، وهو على أربعة أنواع:

أحدهما: ما رجع فيه عمر إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا عبرة فيه بقول عمر الأول.

الثاني: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حكمان، أحدهما: ما وافق لقضاء عمر؛ فإن الناسخ من النصين ما عمل به عمر.

الثالث: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في أنواع من جنس العبادات، فيختار عمر للناس ما هو الأفضل والأصلح ويلزمهم به، فهذا يمنع من العمل بغير ما اختاره.

الرابع: ما كان قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلة، فزالت العلة فزال الحكم بزوالها ووجد ما نع يمنع من ذلك الحكم.

قال: فهذه المسألة، إما أن تكون من الثاني، وإما أن تكون من الرابع.

(1) صحيح البخاري المناقب (3689)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 339).

(2)

صحيح البخاري المناقب (3689)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 339).

(3)

صحيح مسلم فضائل الصحابة (2398)، سنن الترمذي المناقب (3693)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 55).

ص: 91

وقال: لا يعلم من الأمة أحد خالف في هذه المسألة مخالفة ظاهرة، ولا حكما ولا قضاء ولا علما ولا إفتاء، ولم يقع ذلك إلا من نفر يسير جدا، وقد أنكره عليهم من عاصره غاية الإنكار، وكان أكثرهم يشخص بذلك ولا يظهره، فكيف يكون إجماع الأمة على أخفى (1) دين الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؟ - واتباعهم اجتهاد من خالفه برأيه في ذلك، هذا لا يحل اعتقاده ألبتة، وهذه الأمة كما أنها معصومة من الاجتماع على ضلالة فهي معصومة من أن يظهر أهل الباطل منهم على أهل الحق، ولو كان ما قاله عمر في هذا حقا (2) للزم في هذه المسألة ظهور أهل الباطل على أهل الحق في كل زمان ومكان، وهذا باطل قطعا.

وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك عن فتاوي الصحابة في ذلك فقال:(3) ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق، فرأى عمر أن هذه مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدر من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله، وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله، ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله؛ فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد، فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان.

وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك؛ فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.

فقال عبد الله بن مسعود: من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله، لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم هو كما تقولون.

فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه، ولما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك «تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (4)» ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب

(1) في الهامش لعل صوابه " إخفاء ".

(2)

قوله " حقا " كذا في المطبوعة.

(3)

أعلام الموقعين 3/ 29 - 31.

(4)

سنن النسائي الطلاق (3401).

ص: 92

إلى عبد الله وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أفته فقد جاءتك معضلة، ثم أفتياه بالوقوع.

فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه، ولبسوا على أنفسهم، ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم؛ ألزموهم بما التزموا، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله تعالى وتيسيره ومهلته.

ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة طلقة: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1).

وأتاه رجل فقال إن عمي طلق ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه، فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق فحرمت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا.

فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه لهم، أرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه.

وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان.

وقال أيضا مبينا عذر عمر رضي الله عنه (2) الناس طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر رضي الله عنه ومن وافقه - وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه ولم ترد الأحاديث فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة - وساق رحمه الله طائفة من الأمثلة، ثم قال: ومن ذلك أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق والثلاث

(1) سورة الطلاق الآية 2

(2)

إغاثة اللهفان 1/ 330 وما بعدها.

ص: 93

ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفوا عنها، وذلك إما من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس وينفي عن الوطن، وكما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه.

وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط، وقد زال كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر.

وإما لقيام مانع قام في زمنه، منع من جعل الثلاثة واحدة، كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك، فهذا وجه ثالث.

ومضى إلى أن قال: فلما رأى أمير المؤمنين أن الله - سبحانه - عاقب المطلق ثلاثا، بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم، وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأنه ألزمه بها وأمضاها عليه.

فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله؛ لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه؟ قيل: لعمر الله! قد كان يمكنه ذلك؛ ولذلك ندم عليه في آخر أيامه وود أنه كان فعله، قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر رضي الله عنه " ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح ".

ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى، وعلم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازه، ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1). هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك، ولذلك قال:" إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ " وهذا كالتصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق، فرغب عما فسح الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ، فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه فلما تبين له ما فيه من الشر والفساد، ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه، وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله.

(1) سورة البقرة الآية 236

ص: 94

فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم، فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله، ولا يندفع الشر والفساد بغيره ألبتة، اهـ. ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن فعل عمر رضي الله عنه وكذلك من وافقه من الصحابة - ترك ذكره هنا، وسيأتي كلامه في آخر البحث.

وأما القياس فقال ابن قدامة (1): ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك اهـ.

وقد أجاب ابن القيم عن هذا القياس فقال (2): وقولكم إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه: هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا؛ فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه، ولهذا قال من قال من السلف:" رجل أخطأ السنة، فيرد إليها فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة "، ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد، وأذن فيه متفرقا، فأراد أن يجمعه، كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا، واللعان الذي شرع كذلك، وأيمان القسامة التي شرعت كذلك، ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد؛ لأنه جمع ما أمر بتفريقه، على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد، ويحتجون بمثل هذه الحاجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها.

وقال القرطبي: (3) وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا: وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد، كما لو قال أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، نقله عنه ابن حجر العسقلاني (4).

ويرد عليه بأن (5) من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة فليكن المطلق مثله، وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمر طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فكأنه قال أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا اهـ.

(1) المغني ومعه الشرح الكبير 8/ 243.

(2)

إغاثة اللهفان 1/ 306.

(3)

فتح الباري 9/ 365.

(4)

فتح الباري 9/ 365.

(5)

فتح الباري 9/ 365.

ص: 95