الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناظر بين الخصمين لأن الله قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن قامت على نشوزها ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما. فقال:
باب:
الحكمين كيف يعملان
قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم؟ فروى عن سعيد بن جبير والضحاك: أنه السلطان الذي يترافعان إليه. وقال السدي: الرجل والمرأة. قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (2) هو خطاب للأزواج لما في نسق الآية من الدلالة عليه وهو قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (3) وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (4) الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر، ثم بضربها إن أقامت على نشوزها. ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما، وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب وقال: ما ولدت إذ ذاك فقلت إنما أعني حكمي شقاق قال: إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ (5) بعثوا حكمين فأقبلا على من جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما فما حكما من شيء فهو جائز.
وروى عبد الوهاب: قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل كذا ويفعل كذا، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ فوق يده وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع.
قال أبو بكر: وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء، في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله. فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما.
(1) سورة النساء الآية 35
(2)
سورة النساء الآية 34
(3)
سورة النساء الآية 34
(4)
سورة النساء الآية 35
(5)
قوله درء الخ. الدرؤ الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ (المصححة).
وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما. فإذا كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله.
ويدل أيضا قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال: فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها. فهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا وإن شاءا فرقا بغير أمرهما، وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين.
قال أبو بكر: هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (2) ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه وأمر الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما. أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج.
وكذا روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: أتي عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي: ما شأن هذين، قالوا بينهما شقاق، قال:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (3) فقال علي: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما عن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله، فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت. فأخبر علي أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك أنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها.
فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله، ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها. . فلذلك قال أصحابنا إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين.
فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين. لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان، وإنما الحكمان وكيلان لهما. أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل ذلك إليه.
قال إسماعيل الوكيل ليس بحكم ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره عليه وإن أبى. وهذا غلط منه لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه وفيما وكل به فجواز أمر
(1) سورة النساء الآية 35
(2)
سورة ق الآية 18
(3)
سورة النساء الآية 35
الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة. وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما، فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا.
وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا، والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات. . قال إسماعيل: والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن. لأنه إنما سمى الوكيل ههنا حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه.
وأما قوله: إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا. فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا لأنهما وكيلان، وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما، ويعرف أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم ما عرفاه من أمرهما فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا، وينهي الظالم منهما عن ظلمه، فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما، وجائز أن يكونا سميا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح، سميا حكمين لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل، فلما كان ذلك موكولا على رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه. فسميا حكمين من هذا الوجه.
فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح سميا حكمين، ويكونان مع ذلك وكيلين لهما. إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما. وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يرض بكتاب الله. قال: ولم يأخذ بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضى بكتاب الله.
وليس هذا على ما ذكر. لأن الرجل لما قال: أما الفرقة فلا. قال علي: كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت. فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة، وأمره بأن يوكل بالفرقة، وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه، وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة بالتحكيم، وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها. قال: ولما قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من الحكم. قال وهذا لا يقال للوكيلين لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به، والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة: لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك.
وأخبر الله تعالى أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما، فلا فرق بين الوكيل والحكم إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به.
(1) سورة النساء الآية 35
قال: وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا: ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز، وهذا عندنا كذلك أيضا ولا دلالة فيه على موافقة قوله لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضى الزوجين بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز. وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه، ويخرجا المال عن ملكها، وقد قال الله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1) وقال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2).
وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعنى بقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (3) وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه، فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما وقد نص الله تعالى على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطي إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به، فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب، وقال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه، وقال الله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (5) فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره. وقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (6)» وقال - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار (7)» فثبت بذلك: أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رضى من هو له. فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على الظالم منهما، كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} (8) الآية. قال إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم بظلمه وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك وكذلك روى عن عطاء.
(1) سورة النساء الآية 4
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سورة النساء الآية 35
(4)
سورة النساء الآية 29
(5)
سورة البقرة الآية 188
(6)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 73).
(7)
صحيح البخاري الحيل (6967)، صحيح مسلم الأقضية (1713)، سنن النسائي آداب القضاة (5401)، سنن أبو داود الأقضية (3583)، سنن ابن ماجه الأحكام (2317)، موطأ مالك الأقضية (1424).
(8)
سورة النساء الآية 35
قال أبو بكر: في فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا، وهو قوله تعالى:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) ولم يقل إن يريدا فرقة، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده. فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه، وقالا له: لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك، وإن كانت هي الظالمة قالا لها: قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها، فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ما له من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا، فهما في حال شاهدان وفي حال مصلحان وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق، وأما قول من قال: إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل الزوجين فهو تعسف خارج عن الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم بالصواب. اهـ (2).
وذكر أبو بكر العربي بأن الحكمين قاضيان لا وكيلان وذكر نصا عن الشافعي بأنهما وكيلان وناقشه ثم ذكر توجيه قول المالكية بأنهما قاضيان فقال: قال الشافعي ما نصه:
الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالهما، وذلك أنى وجدت الله سبحانه وتعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبين في نشوز المرأة بالضرب. وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة.
وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج. فلما أمر فيما خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج. فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين.
قال القاضي أبو بكر: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصا به في العلم. وقد تولى القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر. والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول: أما قوله الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح بل هو نصه وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء فإن الله تعالى قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (3) ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما، وهذا إن لم يكن نصا وإلا فليس في القرآن بيان. ودعه لا يكون نصا. يكون ظاهرا. فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر. وكيف يقول الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (4) فنص عليهما جميعا ويقول هو: يشبه أن يكون فيما
(1) سورة النساء الآية 35
(2)
أحكام القرآن جـ2 ص (230 - 235) المطبعة البهية عام 1347 هـ.
(3)
سورة النساء الآية 34
(4)
سورة النساء الآية 35
عمهما وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع. وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه ثم قال: فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما فيتحقق الغيرية. وأما قوله: لا يبعث الحكمين إلا مأمونين. فصحيح وأما قوله برضا الزوجين بتوكيلهما فخطأ صراح. فإن الله تعالى خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين.
وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر وذلك لا يمكن ههنا.
المسألة الأولى قوله وإن خفتم قال السدي: يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري وحالي كذا. ويبعث الرجل حكما من أهله ويقول له حالي كذا قال ابن عباس. ومال إليه الشافعي. وقال سعيد بن جبير المخاطب السلطان ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان فأرسل الحكمين، وقال مالك قد يكون السلطان وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين. فأما من قال إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا، وأما من قال إنه السلطان فهو الحق.
وأما قول مالك: إنه قد يكون الوليين فصحيح ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان تارة ويفعله الوصي أخرى، وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما فما أنفذاه نفذ كما لو أنفذه الوصيان. وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي قال: جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بما في كتاب الله لي وعلي. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال: لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت.
قال القاضي أبو إسحاق فبين علي أن الأمر إلى الحكمين الذين بعثا من غير أن يكون للزوج أمر في ذلك ولا نهي. فقالت المرأة بعد ما مضيا من عند علي: رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي. وقال الزوج: لا أرضى فرد عليه علي تركه الرضا بما في كتاب الله تعالى وأمره أن يرجع عليه كما يجب على كل مسلم أو أن ينفذ بما فيه بما يجب من الأدب. فلو كانا وكيلين لم يقل لهما أتدريان ما عليكما. إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما ويسأل الزوجين: ما قالا لهما.
المسألة الثانية قوله تعالى: {حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) هذا نص من الله سبحانه وتعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر. فذلك تلبيس وإفساد للأحكام وإنما يسيران بإذن الله ويخلصان النية لوجه الله تعالى وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت، فإن رأيا للجمع وجها جمعا وإن وجداهما قد أنابا تركاهما. كما روي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: اصبر لي وأنفق عليك، وكان إذا دخل عليها قالت يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبدا. أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل شفاههم، أين عتبة بن ربيعة أين شيبة بن ربيعة؟ فيسكت، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له: أين عتبة بن ربيعة فقال: على يسارك في النار إذا دخلت. فنشرت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما، وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما.
وفي رواية أنهما لما أتيا اشتما رائحة طيبة وهدوءا من الصوت، فقال له معاوية: ارجع فإني أرجو أن يكونا قد اصطلحا، وقال ابن عباس: أفلا نمضي فننظر أمرهما، فقال معاوية: فتفعل ماذا؟ فقال ابن عباس: أقسم بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمن عليهما ثم لأفرقن بينهما.
فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة وذكرا بالله تعالى وبالصحبة، فإن أنابا وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي، فإن يكن ما اطلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرقا بينهما، وقاله جماعة: منهم علي وابن عباس والشعبي ومالك،.
(1) سورة النساء الآية 35