الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذهب الثاني
إن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا
.
قال ابن الهمام (1): وقال قوم يقع به واحدة، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق، ونقل عن طاوس وعكرمة أنهم يقولون خالف السنة فيرد إلى السنة.
قال الباجي (2): وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة. . .، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق. انتهى المقصود.
قال شيخ الإسلام - في أثناء الكلام على ذكر المذاهب في ذلك (3) الثالث أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم مثل: طاوس، وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل. اهـ.
قال ابن القيم: (4): وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. اهـ.
قال المرداوي (5): وحكى - أي شيخ الإسلام ابن تيمية - عدم وقوع الطلاق الثلاث جملة بل واحدة، في المجموعة أو المتفرقة عن جده المجد وأنه كان يفتي به سرا أحيانا. اهـ.
قال ابن القيم (6): المثال السابع: أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر، وصدر من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة. . .، وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه. بل لم يزل
(1) فتح القدير 3/ 65.
(2)
المنتقى شرح الموطأ 4/ 3.
(3)
مجموع الفتاوى 33/ 8.
(4)
زاد المعاد 4/ 105.
(5)
الإنصاف 8/ 453.
(6)
أعلام الموقعين 3/ 34، 28، 29.
فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا.
فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس، كما رواه حماد بن زيد، عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، إذ قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة، وأفتى أيضا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح، وعن علي - كرم الله وجهه - وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس.
وأما التابعون فأفتى به عكرمة رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس.
وأما أتباع التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي.
وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم أبو العكلي وابن حزم وغيرهما.
وأفتى به بعض أصحاب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية.
وأفتى به بعض الحنفية حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال: وكان يفتي به أحيانا.
وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة (1)» بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، فقد صرح بأنه إنما ترك القول به لمخالفة رواية له.
وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة رواية، بل الأخذ عنده بما رواه كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة، فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا وترك رأيه، وعلى أصله يخرج له قول: أن الثلاث واحدة، فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي، وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث. خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير. اهـ.
7 -
قال يوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي (2): الفصل الرابع في أنه إنما يقع بالثلاث للفظ الواحد واحدة، وهذه رواية عن أحمد، روايتها باطلة، لكنها قول في المذهب حكاه الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين، وذكره في الفروع، وقال: إنه اختيار شيخه، وهو اختياره بلا خلاف، وهو الذي إليه جنح الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتبه " الهدى وأعلام الموقعين، وإغاثة اللهفان "، وقواه جدنا جمال الدين الإمام، وقد صنف فيه مصنفات، وهو اختيار شيخه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وحكاه
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406).
(2)
سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث ضمن مجموعة عليه: 81.
أيضا عن جده الشيخ مجد الدين وغيره، اهـ.
وقال أيضا (1): الفصل الخامس فيمن قال بهذا القول وأفتى به، وبعد أن ذكر ما سبق ذكره عن ابن القيم من أعلام الموقعين، قال: قلت وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم، وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرو عنه أنه أفتى بغيره.
قلت: وقد كان يفتي في زماننا الشيخ علي الدواليبي البغدادي، وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه وقد سمعت بعض شيوخنا يقويه، وظاهر إجماع (2) ابن حزم أنه إجماع لكن لم يصرح به. اهـ.
وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والقياس.
الدليل الأول قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (3). إلى قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4).
وجه الاستدلال: قال ابن عبد الهادي (5): قال الشيخ جمال الدين الإمام في أول أحد كتبه: فقد حكم الله تعالى في هذه الآيات الكريمات في هذه المسألة ثلاثة أحكام، فمن فهمها وتصورها على حقيقة ما هي عليه - وقد أراد الله هدايته إلى قبول الحق إذا ظهر له - صح كلامه.
واعلم أن كتاب الله نص صريح. . . أن الطلاق الثلاث واحدة شرعا لا يحتمل خلافا صحيحا، وهذا هو النص شرعا، فإن كل كلام له معنى لا يحتمل غيره فهو نص فيه، فإن كان لا يحتمل غيره لغة فهو نص لغة، وإن كان لا يحتمل غيره شرعا فهو نص شرعا، وكتاب الله في هذه الآيات لا يحتمل شرعا غير أن الطلاق الثلاث واحدة. . . والألف واللام في قوله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (6) للعهد والمعهود هنا هو الطلاق المفهوم من قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (7)، وهو الرجعي بقوله:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (8) فصار المعنى: الطلاق الذي الزوج أحق فيه بالرد مرتان فقط، فقد تقيد الرد الذي كان مطلقا في كل مرة من الطلاق بمرتين منه فقط فلم يعرف (9)، ولا فرق في الآية بين قوله في كل مرة: طلقتك واحدة، أو ثلاثا، أو ثلاثين ألفا.
ثم قال فصل: الكلام هنا على معنى الآيات الكريمات في حكم الطلاق الثلاث جملة سواء كانت ثلاث مرات أو مائة مرة أو ثلاثين ألفا.
(1) سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث ضمن مجموعة علمية 82 - 83.
(2)
قبله " وظاهر إجماع ابن حزم. . الخ " هكذا بالأصل المطبوع.
(3)
سورة البقرة الآية 228
(4)
سورة البقرة الآية 230
(5)
سير الحاث / 90 وما بعدها ويرجع إلى ما ذكره ابن القيم في الإغاثة: 1/ 1.3
(6)
سورة البقرة الآية 229
(7)
سورة البقرة الآية 228
(8)
سورة البقرة الآية 228
(9)
قوله " يعرف " كذا في الأصل المطبوع.
ثم قال: وذلك ضمير الآيات في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (1) أي: إن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له بعدها، المفهوم من قوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) لا يجوز فيه شرعا غير ذلك، وهذا الحكم مختص به شرعا: أي بتحريم المطلقة عليه حتى تنكح زوجها غيره، ويلزم أن يكون التحريم فيما بعد المرتين الأوليين، فإن كل واحدة من الأوليين له فيها الخيار بين الإمساك والتسريح بنص الآية، فيكون التقدير: فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له، هذا لا يحتمل خلافا.
قلت: هذه الآية صريحها على هذا: أن الثلاث متفرقات، والله أعلم.
ثم قال: ويدل على التقدير لزوم أنه لا يجوز في الآية أن يقال: فإن طلقها فلا تحل له لا يجوز أن يكون مستقلا بنفسه، منفصلا عما قبله، لما في ذلك من لزوم نسخ مشروعية الرجعة في الطلاق من دين الإسلام ولا قائل به، وذلك لما فيه من عود الضمير المطلق فيه إلى غير موجود في الكلام قبله، معين له، مختص بحكمه، فيكون عاما في كل مطلق ومطلقة، ولا قائل به، وذلك أن قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (3) جملة مفيدة، والجملة نكرة، وهي في سياق شرط ونفي فتعم كل مطلق ومطلقة، فيكون ذلك ناسخا لمشروعية الرد في الطلاق في دين الإسلام، ولا قائل به، فتعين أن يكون قوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (4) إتماما لما قبله أي متصلا به، ويكون الضمير فيه عائدا على موجود في الكلام قبله، ومعين له، مختص بحكم تحريمه في طلاقه إن طلق، وليس فيما قبله ما يصلح عود هذا الضمير إليه، واختصاصه بهذا الحكم من التحريم شرعا إلا المطلق المفهوم من قوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5)؛ لأنه لو عاد إلى من يطلق في صورة المفاداة المذكورة قبله كان التحريم مختصا بطلاق المفاداة، ولا قائل به، ولو عاد إلى من يطلق في صورة الإبلاء المذكورة قبل هذه الآيات كان التحريم مختصا بطلاق المولى ولا قائل به، فتعين أن يكون الضمير عائدا إلى المطلق المفهوم من قوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (6) وهو في نظم الكلام متعين له شرعا، لا يجوز عوده إلى غيره شرعا، وأن يكون تقدير الكلام: فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجها غيره، وقد تبين أن معنى هذا الكلام وتقديره: أن الطلاق الرجعي مرتان، فإن طلقها بعدهما مرة ثالثة فلا تحل له بعدها حتى تنكح زوجها غيره، فلم يشرع الله التحريم إلا بعد المرة الثالثة من الطلاق، والمرة الثالثة لا تكون إلا بعد مرتين شرعا ولغة وعرفا وإجماعا، إلا ما وقع في هذه المسألة بقضاء الله وقدره، انتهى.
وقد سيقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى والإجابة عنه في كلام الباجي - ص7 - وما ذكر عنه شيخ الإسلام في - ص11 - وكلام ابن القيم في - ص13، 14.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (7) - إلى قوله - {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (8).
قال ابن القيم: الاستدلال بالآية من وجوه.
(1) سورة البقرة الآية 230
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سورة البقرة الآية 230
(4)
سورة البقرة الآية 230
(5)
سورة البقرة الآية 229
(6)
سورة البقرة الآية 229
(7)
سورة الطلاق الآية 1
(8)
سورة الطلاق الآية 2
الوجه الأول: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها أي لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة، وكذلك كان يقرأها عبد الله بن عمر؛ ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث أنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر؛ لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة، ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك، فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة، وقال في رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني، ويطلقها الثالثة في الطهر الثالث، وهو قول أبي حنيفة، فيكون مطلقا للعدة أيضا؛ لأنها تبني على ما مضى والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة أو العقد؛ لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه، فإن العدة إنما تجب من الطلقة الأولى لأنها طلاق العدة، بخلاف الثانية والثالثة، ومن جعله مشروعا، قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة.
وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1).
قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه؛ ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد.
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم الثلاث بهذه الآية - وساق الأثر عن ابن عباس وقد سبق.
الوجه الثاني: من الاستدلال بالآية، قوله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (2)، وهذا إ نما في الطلاق الرجعي، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله، ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض.
وأبو حنيفة قال: يملك ذلك لأنه الرجعة حقه وقد أسقطها.
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2)
سورة الطلاق الآية 1
والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقا له، فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالصة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن.
الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1)، فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.
الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2)، وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن - وهم الصحابة - أن الأمر ههنا هو الرجعة، قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث.
الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3)، فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا أن يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) كما تقدم - قصده رحمه الله الأثر الذي أشرنا إليه سابقا - وهذا حق؛ فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكوم مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى.
ومضى رحمه الله إلى أن قال: فهذه الوجوه ونحوها مما بين الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هي بعينها تبين عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده، وهي الواحدة، اهـ. . وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى.
وأما السنة: فقد استدلوا بالأدلة الآتية:
الدليل الأول: روى مسلم في صحيحه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (5)» .
وفي صحيحه أيضا عن طاوس: «أن أبا الصهباء قال لابن عباس " هات من هناتك ألم يكن الطلاق
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2)
سورة الطلاق الآية 1
(3)
سورة الطلاق الآية 2
(4)
سورة الطلاق الآية 1
(5)
صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن أبو داود الطلاق (2199).
الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟
فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (1)» وفي لفظ لأبي داود:«أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتابعوه فيها قال: أجروهن عليهم (2)» ، هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها.
وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة، «أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدة؟ قال: نعم (3)»، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء، وقد أجاب القائلون بأن الثلاث بلفظ واحد تقع ثلاثا عن حديث ابن عباس بأجوبة:
الجواب الأول: أنه منسوخ، وهو قول الشافعي وأبي داود والطحاوي.
قال الشافعي: بعد سياقه لحديث أبي الصهباء وأثر ابن عباس في الذي طلق امرأته ألفا وأفتاه بوقوع الثلاث، والذي طلق مائة وقد سبقت، قال بعد ذلك: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئا فنسخ (4).
فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يشبه أن يكون يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي فيه خلافه.
فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر، قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه؟
فإن قيل: فلم يذكره؟
قيل: فقد يسأل الرجل عن الشيء فيجيب فيه ولا ينقص فيه الجواب، ويأتي على الشيء ويكون جائزا له كما يجوز له، لو قيل: أصلى الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس؟ أن يقول نعم، وإن لم يقل ثم حولت القبلة.
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2)
سنن النسائي الطلاق (3406)، سنن أبو داود الطلاق (2199).
(3)
صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406)، سنن أبو داود الطلاق (2200).
(4)
الأم - اختلاف الحديث: 7/ 305 - 310.
قال: فإن قيل فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر؟ قيل - والله أعلم -، وجوابه حين استفتى يخالف ذلك كما وصفت.
فإن قيل: فهل من دليل تقوم به الحجة في ترك أن تحسب الثلاث واحدة في كتاب أو سنة أو أمر أبين مما ذكرت؟
قيل: نعم. أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها وقال: والله، لا آويك. . ولا تخلين بدا، فأنزل الله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق، وذكر بعض أهل التفسير هذا، فلعل ابن عباس أجاب أن الثلاث والواحدة سواء، وإذا جعل الله عدد الطلاق إلى الزوج وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضي بطلاقه.
قال الشافعي: وحكم الله في الطلاق أنه مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقوله: فإن طلقها يعني - والله أعلم - الثلاث، {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2)؛ فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، وجعل حكمه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث وجعل الطلاق إلى زوجها فطلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجا غيره كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدا أو مائة في كلمة لزمه ذلك كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرقه مثل قوله لنسوة له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي، وقوله: لفلان علي كذا، ولفلان علي كذا، ولفلان علي كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني، جميعه كلام فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه.
فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا قيل نعم، حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أنه سمعها تقول.
(1) سورة البقرة الآية 229
(2)
سورة البقرة الآية 230
(3)
صحيح مسلم النكاح (1433)، سنن الترمذي النكاح (1118)، سنن النسائي الطلاق (3409)، سنن ابن ماجه النكاح (1932)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 38)، سنن الدارمي الطلاق (2267).
قال الشافعي فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بت طلاقها في مرات. قلت: ظاهره في مرة واحدة، (وبت) إنما هي ثلاث إذا احتملت ثلاثا، وقال رسول الله:«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا، حتى يذوق عسيلتك (1)» ولو كانت عائشة حسب طلاقها بواحدة كان لها أن ترجع إلى رفاعة بلا زوج.
فإن قيل: أطلق أحد ثلاثا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قيل: نعم. عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا قبل أن يخبره النبي أنها تحرم عليه باللعان فلما أعلم النبي نهاه.
وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي: أن زوجها بت طلاقها تعني - والله أعلم - أنه طلقها ثلاثا، وقال النبي:«ليس لك عليه نفقة (2)» ؛ لأنه - والله أعلم - لا رجعة له عليها، ولم أعلمه عاب طلاق ثلاث معا، قال الشافعي: فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقا ظاهر القرآن، وكان ثابتا، كان أولى الحديثين أن يؤخذ به - والله أعلم - وإن كان ليس بالبين فيه جدا.
قال الشافعي: ولو كان الحديث الآخر له مخالفا كان الحديث الآخر يكون ناسخا - والله أعلم - وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدا. اهـ.
وقال أبو داود: في سننه " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث " حدثنا أحمد بن سعيد المروزي حدثني علي بن حسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس قال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (3)؛ وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا؛ فنسخ ذلك فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) ثم أورد أبو داود في نفس الباب حديث ابن طاوس عن أبيه «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثا من إمارة عمر قال ابن عباس: نعم (5)» .
وقال الطحاوي: (6) في " باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا " حدثنا روح بن الفرج، ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاوس عن أبيه «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر، قال ابن عباس: نعم (7)» .
وقال الطحاوي: بعد استعراض بعض الآراء في المسألة: وفي حديث ابن عباس ما لو اكتفينا به كانت حجة قاطعة، وذلك أنه قال: فلما كان زمان عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه، حدثنا بذلك ابن أبي عمران.
(1) صحيح مسلم النكاح (1433)، سنن الترمذي النكاح (1118)، سنن النسائي الطلاق (3409)، سنن ابن ماجه النكاح (1932)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 226)، سنن الدارمي الطلاق (2267).
(2)
صحيح مسلم الطلاق (1480)، سنن الترمذي النكاح (1135)، سنن النسائي النكاح (3222)، سنن أبو داود الطلاق (2284)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 373)، موطأ مالك الطلاق (1234)، سنن الدارمي النكاح (2177).
(3)
سورة البقرة الآية 228
(4)
سورة البقرة الآية 229
(5)
صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406)، سنن أبو داود الطلاق (2200).
(6)
شرح معاني الآثار: 2/ 32.
(7)
صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406)، سنن أبو داود الطلاق (2200).
قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال: أخبرنا عبد الرزاق - ح - وحدثنا عبد الحميد بن عبد العزيز قال: ثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: ثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس مثل الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب، غير أنهما لم يذكرا أبا الصهباء ولا سؤاله ابن عباس رضي الله عنهما وإنما ذكرا مثل جواب ابن عباس رضي الله عنهما الذي في ذلك الحديث، وذكرا بعد ذلك من كلام عمر رضي الله عنه ما قد ذكرناه قبل هذا الحديث، فخاطب عمر رضي الله عنه بذلك الناس جميعا وفيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم الذين قد علموا ما تقدم من ذلك في زمن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فلم ينكره عليه منهم منكر، ولم يدفعه دافع فكان ذلك أكبر الحجة في نسخ ما تقدم من ذلك لأنه لما كان فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - جميعا فعلا يجب به الحجة كان كذلك أيضا إجماعهم على القول إجماعا يجب به الحجة، وكما كان إجماعهم على النقل بريئا من الوهم والزلل كان كذلك إجماعهم على الرأي بريئا من الوهم والزلل، وقد رأينا أشياء قد كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاني فجعلها أصحابه رضي الله عنهم من بعده على خلاف تلك المعاني، لما رأوا فيه مما خفي على من بعدهم، فكان ذلك حجة ناسخا لما تقدمه، من ذلك تدوين الدواوين، والمنع من بيع أمهات الأولاد، وقد كن يبعن قبل ذلك، والتوقيت في حد الخمر ولم يكن فيه توقيت قبل ذلك، فلما كان ما عملوا به من ذلك ووقفنا عليه لا يجوز لنا خلافه إلى ما قد رأيناه مما تقدم فعلهم له، كان كذلك ما وقفونا عليها من الطلاق الثلاث الموقع معا أنه يلزم لا يجوز لنا خلافه إلى غيره مما قد روى أنه كان قبله على خلاف ذلك. اهـ المراد من كلام الطحاوي.
وقال الطحاوي بعد كلامه في النسخ (1): " ثم هذا ابن عباس رضي الله عنهما قد كان من بعد ذلك يفتي من طلق امرأته ثلاثا معا أن طلاقه قد لزمه وحرمها عليه.
حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا؟ فقال: إن عمك عصى الله فأثمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقلت: كيف ترى في رجل يحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخادعه. حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكا أخبره عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجا غيرك، فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل، حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب أن مالكا أخبره عن يحيى بن سعيد أن بكير بن الأشج أخبره عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير إن هذا الأمر ما لنا فيه من قول، فاذهب
(1) شرح معاني الآثار 3/ 33.
إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة: الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير، أن رجلا سأل ابن عباس وأبا هريرة وابن عمر عن طلاق البكر ثلاثا وهو معه فكلهم قالوا: حرمت عليك، حدثنا يونس قال أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن عباس أنهما قالا في الرجل يطلق البكر ثلاثا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، حدثنا أبو بكرة، قال ثنا مؤمل قال ثنا سفيان عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاث تحرمها عليه وسبعة وتسعون في رقبته إنه اتخذ آيات الله هزوا حدثنا علي بن شيبة حدثنا أبو نعيم قال ثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.
حدثنا ابن مرزوق ثنا ابن وهب قال ثنا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج عن مجاهد، أن رجلا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) انتهى المراد من كلام الطحاوي.
وممن ارتضى هذا المسلك الذي هو مسلك النسخ - الحافظ ابن حجر العسقلاني في نهاية بحثة الطويل في هذه المسألة قال: (3): وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء أعني قول جابر أنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك، حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق. اهـ.
واعترض المازري على ذلك قال: " زعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ ولو نسخ -وحاشاه- لبادر الصحابة إلى إنكاره، وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافه أبي بكر وبعض خلافة عمر قال: فإن قيل فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا: إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم -فمعاذ الله؛ لأنه إجماع على الخطأ، وهم معصومون عن ذلك، قال: فإن قيل: فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. هذا ما أورد المازري، وأجاب
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2)
سورة الطلاق الآية 1
(3)
فتح الباري: 9/ 299.
عليه الحافظ بقوله (1): " هو متعقب في مواضع:
أحدهما: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم " يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ " أي اطلع على ناسخ الحكم الذي رواه مرفوعا؛ ولذلك أفتى بخلافه، وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ.
الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما.
الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجيء هنا لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر بل وبعدهما طبقة واحدة. اهـ كلام الحافظ.
وقد أجاب ابن القيم عن دعوى النسخ فقال: (2): وأما دعواكم لنسخ الحديث فموقوف على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا؟
وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنما فيه " أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد " فنسخ ذلك، وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة. فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد؟ ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر لا تعلم به الأمة، وهو من أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج؟ ثم كيف يقول عمر:" إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة " وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم.
وقد أجاب عن ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فقال (3): وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله واعتراف المخالف به في نكاح المتعة؛ فإن مسلما روى عن جابر رضي الله عنه «أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا (4)» ، وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا. . فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما ويدعى استحالته في الأخرى مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل أن ذلك الأمر
(1) فتح الباري 9/ 298.
(2)
زاد المعاد 4/ 117، 118.
(3)
أضواء البيان 1/ 186 - 187.
(4)
صحيح مسلم الحج (1217)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 304).
كان يفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر، ومن أجاز نسخ نكاح المتعة وأحال جعل الثلاث واحدة، يقال له ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟
فإن قيل: نكاح المتعة صح النص بنسخه؟ قلنا قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث.
وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود - رحمه الله تعالى - ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث تطليقات وأكثر، قال في سننه:" باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث " ثم ساق بسنده حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك، وقال {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) الآية، وأخرج نحوه النسائي، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في التقريب صدوق يبهم.
وروى مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك ولا أطلقك، فأنزل الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق.
ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم وعلمهم وورعهم.
ويؤيده أن كثيرا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك كابن عباس وعمر وابن عمر وخلق لا يحصى، والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث قال بعض العلماء إنه قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) كما جاء مبينا في الروايات المتقدمة، ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر، مع أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح وفي حجة الوداع أيضا كما جاء في رواية عند مسلم، ومع أن القرآن دل على تحريم غير الزوجة والسرية بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (5){إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (6) ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية. . والذين قالوا بالنسخ قالوا معنى قول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، أن المراد بالأناة أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد، ومعنى استعجالهم أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه وإمضاؤه عليهم إذن هو اللازم، ولا ينافيه قوله فلو أمضيناه عليهم، يعني ألزمناهم بمقتضى ما قالوا،
(1) سورة البقرة الآية 228
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سورة البقرة الآية 229
(4)
سورة البقرة الآية 229
(5)
سورة المؤمنون الآية 5
(6)
سورة المؤمنون الآية 6
ونظيره قوله جابر عند مسلم في نكاح المتعة فنهانا عنها عمر، فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر والنسخ ثابت فيهما كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ، وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاثة دفعة. . أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة فتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها ثلاثا ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فلا يخفى بعده، والعلم عند الله تعالى. انتهى.
الجواب الثاني: حمل الحديث على أن الناس اعتادوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر إيقاع المطلق الطلقة الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتابعوا فيه، فمعنى الحديث على هذا كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه المطلق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فالحديث على هذا إخبار عن الواقع لا عن المشروع.
وهذا جواب أبي زرعة، والباجي، والقاضي أبي محمد عبد الوهاب، ونقل القرطبي عن الكيا الطبري أنه قول علماء الحديث، ورجحه ابن العربي، وذكره ابن قدامة.
أما أبو زرعة الرازي فقد نقله عنه البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال (1): سمعت أبا زرعة يقول: " معنى هذا الحديث عندي أما ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وأما الباجي فقال (2): " معنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاثة طلقات - قال: ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة " فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كان لهم فيه أناة فلو كان حالهم ذلك من أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله وما عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ويدل لصحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة، فإن كان معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن طاوس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع. . انتهى كلام الباجي.
(1) السنن الكبرى: 7/ 338.
(2)
المنتقى: 4/ 4.
وأما القاضي فقد نقل عنه القرطبي أنه قال (1): " معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ثم أكثر أيام عمر من إ يقاع الثلاث - قال - قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم معناه ألزمهم حكمها ". انتهى.
وأما ما نسب إلى علماء الحديث فقد قال القرطبي بعد ذكره تأويل الباجي حديث ابن عباس وما أوله به أبو زرعة، قال: قلت ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث أي أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هو الذي تطلقون ثلاثا أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة، انتهى كلام القرطبي، وأما ترجيح ابن العربي فقد نقله عنه ابن حجر (2).
وأما ذكر ابن قدامة له فقد قال (3): قيل معنى حديث ابن عباس أن الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وإلا فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (4): وأما قول من قال: إن معناه كان وقوع الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، فإن حقيقة هذا التأويل كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا، والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الألغاز والتحريف لا من باب بيان المراد ولا يصح ذلك بوجه ما، فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فمنهم من رد إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس، ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله، ولم يعرف ما حكم به عليهم، وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث، فلم يصح أن يقال: إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا، ولا يصح أن يقال: إنهم قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهده بوجه ما. فإنه ماض منكم على عهده بعد عهده، ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة «ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)» ولفظ «أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر؟ فقال ابن عباس بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر
(1) تفسير القرطبي: 3/ 130.
(2)
الفتح 9/ 299.
(3)
المغني ومعه الشرح 7/ 304.
(4)
زاد المعاد 4/ 119.
(5)
صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406)، سنن أبو داود الطلاق (2199).
من إمارة عمر فلما رأى الناس - يعني عمر - قد تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم (1)» هذا لفظ الحديث، وهو بأصح إسناد وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما، ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل، وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل. اهـ.
الجواب الثالث: حمل الحديث على غير المدخول بها:
فقد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في سننه في الحديث مسلكا آخر وقوي جانبها عنده، فقال: باب الطلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه فقال: حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما «فقال: يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ترد إلى الواحدة، قال: نعم (2)» .
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (3): وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه بل الترجمة لون والحديث لون آخر وكأنه لما أشكل عليه لفظ الحديث جملة على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طلق، أنت طالق طلقت واحدة ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه وبمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة. اهـ.
وهناك توجيه آخر للحديث قال ابن حجر (4): وهو جواب إسحاق بن راهوية وجماعة وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية.
ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغي العدد لوقوعه بعد البينونة.
وتعقبه القرطبي بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف جعله كلمتين؟ وتعطي كل كلمة حكما؟ وقال النووي أنت طالق معناه: أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. انتهى كلام ابن حجر.
(1) سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2)
صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406).
(3)
إغاثة اللهفان: 298.
(4)
فتح الباري: 9/ 363.
وأجاب ابن القيم عن الرواية التي فيها ذكر غير المدخول بها فقال (1): ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول، وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس فأجابه ابن عباس بما سأله عنه ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس وقال:" كانوا يجعلونها واحدة؟ " فقال له ابن عباس " نعم " أي الأمر ما قلت وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
نعم لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسئول الجواب كان مفهومه معتبرا، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال «إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه (2)» لم يدل ذلك على تعيين الحكم بالسمن خاصة، وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين، وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3): وحجة هذا القول أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا، قال في مراقي السعود:
وحمل مطلق على ذاك وجب
…
إن فيهما اتحد حكم والسبب
وما ذكره الأبي رحمه الله من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل، فمردود بأنه لا دليل عليه، وإنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء ولا وجه للفرق بينهما، وما ذكره الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عند قيد الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا.
نعم لقائل أن يقول: إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكورة وارد على سؤال أبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا عن غير المدخول بها، فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة الجواب للسؤال.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار دليل الخطاب - أعني مفهوم المخالفة - كون الكلام واردا جوابا لسؤال، لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج المفهوم عن المنطوق، وأشار
(1) إغاثة اللهفان: 1/ 285 - 286.
(2)
صحيح البخاري الذبائح والصيد (5539)، سنن الترمذي الأطعمة (1798)، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4260)، سنن أبو داود الأطعمة (3842)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 330)، موطأ مالك الجامع (1815).
(3)
أضواء البيان: 1/ 196 - 197 - 198.
إليه في مراقي السعود في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:
وجهل الحكم والنطق انجلب
…
للسؤال أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤال.
وقد قدمنا أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاوس، وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يعرف من هو لا يصح الحكم بروايته؛ ولذا قال النووي في شرح مسلم ما نصه:" وأما هذه الرواية لأبي داود فضعيفة، رواها أيوب عن قوم مجهولين عن طاوس عن ابن عباس فلا يحتج بها، والله أعلم "، انتهى منه بلفظه.
وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: " الرواة عن طاوس مجاهيل "، انتهى منه بلفظه، وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاوس فيها، وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في زاد المعاد بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه:" وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد "، انتهى محل الغرض منه بلفظ فانظره مع ما تقدم، انتهى كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
الجواب الرابع: ليس في الحديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل ذلك، ولا إنه علم به وأقر عليه، وهذا جواب ابن المنذر وابن حزم ومن وافقهما.
قال ابن القيم (1): وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يفتي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، إذ لو كان ذلك عن علم النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس.
وقال ابن حزم (2): وأما حديث طاوس عن ابن عباس الذي فيه أن الثلاث كانت واحدة وترد إلى واحدة " وتجعل واحدة " فليس في شيء منه أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي جعلها واحدة أوردها إلى واحدة
(1) إغاثة اللهفان: 1/ 291.
(2)
المحلى 10/ 168، 169.
ولأنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صح أنه عليه الصلاة والسلام قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره، وإنما يلزم هذا الخبر من قال في قول أبي سعيد الخدري «كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من كذا وأما نحن فلا (1)» ، انتهى كلام ابن حزم.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (2): سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه خير الخلق، وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو، والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه، فهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكنه يعلمه، وأصحابه يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه، والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به، ثم يتوفى الله رسوله والأمر على ذلك؛ فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها ويعمل به ولا يغيره إلى أن فارق الصديق الدنيا، واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك رأيه أن يلزم الناس بالصواب، فهل بالجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من هذا؟ وتالله، لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتأويل الذي تأولتموه، ولو تركتم المسألة بهيئتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة.
وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3): ضعف هذا الجواب لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم له حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره.
الجواب الخامس: ما ذكره المجد قال: وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاثا إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فلما رأى عمر في زمانه أمورا ظهرت، وأحوالا تغيرت، وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله:" إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة " انتهى كلام المجد.
(1) صحيح البخاري الزكاة (1506)، صحيح مسلم الزكاة (985)، سنن الترمذي الزكاة (673)، سنن النسائي الزكاة (2512)، سنن أبو داود الزكاة (1616)، سنن ابن ماجه الزكاة (1829)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 98)، موطأ مالك الزكاة (628)، سنن الدارمي الزكاة (1664).
(2)
زاد المعاد 4/ 120.
(3)
أضواء البيان 1/ 196.
وهذا جواب ابن سريج كما قاله (1). الخطابي والمنذري (2).
وقال ابن حجر (3): هذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة "، وكذا قال النووي: إنه أصح الأجوبة.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (4): وأما حملكم الحديث على قول المطلق: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره، يرده، فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف على عهده وعهد خلفائه، وهلم جرا. . . آخر الدهر، ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر، وصادق وكاذب، بل يرده إلى نيته، وكذلك من لا يقبله في الحكم لا يقبله مطلقا برا كان أو فاجرا.
وأيضا فإن قوله: " إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم "، إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم؛ لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يده من أول وهلة فيعز عليه تداركه؛ فجعل له أناة ومهلة يستعتبه فيها ويرضيه، ويزول ما أحدثه الغضب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر أن يلزمهم ما التزموا عقوبة لهم فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث. . هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستنكر الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بلا تنبو عنه وتنافره.
ويمكن أن يجاب عن جواب ابن القيم بما قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قال (5): وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة، الأول - أن الثلاث المذكورة فيها التي كانت تجعل واحدة ليس في شيء من روايات الحديث، التصريح بأنها دفعة بلفظ واحد، ولفظ كلامه الثلاث لا يلزمه منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات في وقت واحد فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صريح بالطلاق فيه ثلاث مرات، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة من أين أخذت كونها بكلمة واحدة، فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق على الطلاق بكلمة متعددة؟
فإن قال: لا يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلاشك في أن دعواه هذه غير صحيحة،
(1) معالم السنن 3/ 27
(2)
المختصر للمنذري 3/ 1126.
(3)
الفتح 9/ 298.
(4)
زاد المعاد 4/ 118، 119.
(5)
أضواء البيان: 180 - 183.
وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة وعلى ما أوقع بكلمات متعددة وهو أشد بظاهر اللفظ، قيل له: وإذا فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع.
ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه ما فهم من هذا الحديث إلا أن المراد بطلاق الثلاث لفظ أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات؛ ولذا ترجم في سننه لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث، وقد سبق في الوجه الثالث ثم قال: فنرى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد بل بألفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائي رحمه الله من الحديث ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت - الحديث، فإنه قال فيه ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا إلا من فعل، وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفه ثلاثا، وشتمه ثلاثا، وسلم عليه ثلاثا، اهـ بلفظه.
وهو دليل واضح لصحة ما فهمه النسائي رحمه الله من الحديث؛ لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة آنفا - وبعد أن نقل كلام ابن سريح وأن القرطبي ارتضى هذا الجواب، ونقل عن النووي جوابه عنه وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كله في أول الجواب، ثم قال - قال مقيده - عفا الله عنه -: وهذا الوجه لا إشكال فيه لجواز تغيير الحال عند تفسير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.
وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت؛ فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى، قال مقيده - عفا الله عنه - ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم من حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أحمد وأبي يعلى، من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، وقوله صلى الله عليه وسلم «" كيف طلقتها؟ " قال ثلاثا في مجلس واحد (1)» ؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كان اللفظ واحدا لقال بلفظ واحد، ولم يحتج إلى ذكر المجلس، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب كما هو ظاهر. انتهى كلام الشيخ الشنقيطي.
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/ 265).
الجواب السادس: عن حديث طاوس عن ابن عباس أن سائر أصحاب ابن عباس رووا عنه إفتاءه بخلاف ذلك، وما كان ابن عباس ليروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: أنا أقول لكم سنة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر، قاله في فسخ الحج وغيره، ولهذا اتجه الإمام أحمد بن حنبل إلى دفع حديث طاوس هذا بما رواه سائر أصحاب ابن عباس عن ابن عباس، قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة (1)» ، بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور، ذكر جميع ذلك الإمام ابن القيم (2)، وجاء في مسودة آل تيمية ما نصه (3):
" وفيه - أي معاني الحديث للأثرم - أيضا في حديث ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة (4)»؛ فقال أبو عبد الله: ادفع هذا الحديث بأنه قد روي عن ابن عباس خلافه من عشرة وجوه، أنه كان يرى طلاق الثلاث ثلاثا " اهـ.
وقال البيهقي في " باب من جعل الثلاث واحدة؛ وما ورد في خلاف ذلك "(5). هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم فأخرجه مسلم وتركه البخاري، وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس. .، ومنها ما أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة بن خالد أن سعيد بن جبير أخبره أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: تأخذ ثلاثا وتدع تسعمائة وسبعة وتسعين، ورواه عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا حرمت عليك.
وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن قالا: نا أبو العباس، نا الربيع، نا الشافعي، نا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي مائة، قال: تأخذ ثلاثا، وتدع سبعا وتسعين.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ: نا أبو عمرو بن مطر، نا يحيى بن محمد، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج، عن مجاهد قال: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (6) " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن " (7) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وعبيد بن محمد بن محمد بن مهدي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا ابن جريج، عن عبد
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406).
(2)
إغاثة اللهفان 1/ 158 - 159.
(3)
المسودة - 242.
(4)
صحيح مسلم الطلاق (1472)، سنن النسائي الطلاق (3406).
(5)
السنن الكبرى 7/ 337 - 338
(6)
سورة الطلاق الآية 2
(7)
قراءة شاذة للآية الأولى من سورة الطلاق.
الحميد بن رافع، عن عطاء أن رجلا قال لابن عباس: طلقت امرأتي مائة، فقال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين، وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق أنا حسين بن محمد، نا جرير بن حازم، عن أيوب عن عمر بن دينار " أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال: إنما يكفيك رأس الجوزاء ".
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا ابن نمير عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس قال: أتاني رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: " إن عمك عصى الله فأندمه الله، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، قال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه ".
أخبرنا أبو أحمد المهرجاني، أنا أبو بكر بن جعفر المزكي، نا محمد بن إبراهيم البوشنجي، نا ابن بكير، نا مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير أنه قال:" طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا له: لا نرى أن تنكحها حتى تزوج زوجا غيرك، قال: فإنما كان طلاق إياها واحدة فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل ".
فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير، وروية عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الطلاق بالثلاث وأمضاهن. . اهـ. كلام البيهقي - رحمه الله تعالى -.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال: (1). " لا يترك الحديث الصحيح المعصوم لمخالفة راويه؛ فإن مخالفته ليست معصومة، وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة:«من استقاء فعليه القضاء (2)» ، وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه - وذكر جملة أمثلة نسبها إلى الحنابلة والحنفية والمالكية والشافعية إلى أن قال رحمه الله: والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضا في نفسه الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما ولم توجب مخالفته؛ لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له
(1) أعلام الموقعين 3/ 31 وما بعدها
(2)
موطأ مالك الصيام (679).
ذلك. اهـ.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تعليقا على هذا الوجه (1): قال مقيده - عفا الله عنه - فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده وتغير عقائده أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - قال للأثرم وابن منصور: أنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد؛ لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - وهو هو - ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولاشك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.
فإن قيل رواية طاوس في حكم المرفوع ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس والمرفوع لا يعارض بالموقوف، فالجواب أن الصحابي إذا خالف ما روي ففيه للعلماء قولان، وهما روايتان عن أحمد رحمه الله، الأولى: أنه لا يحتج بالحديث لأنه أعلم الناس به راويه، وقد ترك العمل به وهو عدل عارف، وعلى هذه الرواية فلا إشكال.
وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته لا بقوله، فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا لأن تكون الطلقات مفرقة كما جزم به النسائي، وصححه النووي والقرطبي وابن سريج.
فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدة يدل على أن معنى الحديث الذي روى ليس كونها بلفظ واحد، واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى بالثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن ابن عباس قال: إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسماعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة، انتهى.
الجواب السابع: حمل الثلاث فيه على أن المراد بها لفظ ألبتة، وكان يراد بها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أراد بها ركانة ثم تتابع الناس فأرادوا بها الثلاث فألزمهم عمر إياها.
(1) أضواء البيان: 1/ 189 - 191.
وهذا جواب الخطابي وقواه ابن حجر قال الخطابي (1): ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق ألبتة؛ لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ركانة أنه جعل ألبتة واحدة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث، وإليه ذهب غير واحد من الصحابة، رضي الله عنهم، روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه جعلها ثلاثا، وكذلك روي عن ابن عمر، وكان يقول: أبت الطلاق طلاق ألبتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل، وهذا كصنيعه بشارب الخمر، فإن الحد كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أربعين ثم إن عمر لما رأى الناس تشايعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها قال: أرى أن تبلغ فيها حد المفتري؛ لأنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وكان ذلك على ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق " ألبتة " على شاكلته، انتهى كلام الخطابي.
وقال ابن حجر: (2). هو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها " ألبتة " والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث، كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن " ألبتة " إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ " ألبتة " على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث، وإنما المراد لفظ ألبتة، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال: أردت بألبتة الواحدة فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم، انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
الجواب الثامن: حمل الحديث على أنه شاذ، وقد حمله على ذلك جماعة من أهل العلم فقال ابن عبد الهادي قال ابن رجب في كتابه " مشكل الأحاديث الواردة أن الطلاق الثلاث واحدة " وساق حديث ابن عباس ثم قال (3): فهذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان:
أحدهما وهو مسلك الإمام أحمد ومن وافقه ويرجع الكلام في إسناد الحديث بشذوذه وانفراد طاوس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد الراوي بالحديث وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذا ومنكرا إذا لم يروا معناه من وجه يصح وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين، كالإمام أحمد ويحيى القطان ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، وهذا الحديث لا يرويه عن ابن عباس غير طاوس، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس يعني رووا عنه خلاف ما روى طاوس.
(1) معالم السنن 3/ 126.
(2)
فتح الباري 9/ 299
(3)
سير الحاث - 74.
وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، قال وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر؛ فلم أجد له أصلا، قال المصنف: ومتى أجمع الأمة على إطراح العمل بحديث وجب إطراحه وترك العمل به، وقال ابن مهدي: لا يكون إماما في العلم من عمل بالشاذ.
وقال النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث، وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة؛ فإن عرف وإلا فدعه، وعن مالك قال:" شر العلم الغريب "، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس، وفي هذا الباب شيء كثير لعدم جواز العمل بالغريب وغير المشهور. . قال ابن رجب: وقد صح عن ابن عباس - وهو راوي الحديث - أنه أفتى بخلاف هذا الحديث ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشافعي كما ذكره في المغني، وهذه أيضا علة في الحديث بانفرادها فكيف وقد ضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة!.
وقال القاضي إسماعيل في كتاب " أحكام القرآن ": طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاوس.
وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث.
قال ابن رجب وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل، انتهى المقصود.
الثاني: أنه منسوخ - وقد سبق ما يغني عن إعادته.
ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال (1): رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب - قال - وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس.
ونقل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن ابن العربي المالكي ما يختص بحديث ابن عباس هذا، فقال (2): فإن قيل: ففي صحيح مسلم عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور؟ قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه:
الأول: أنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا.
الثاني: أن هذا الحديث لم يرد إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا عن طريق طاوس فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد، وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس، وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاوس؟ انتهى محل الغرض من كلام ابن العربي، انتهى.
(1) تفسير القرطبي 3/ 129
(2)
أضواء البيان 192
وقال ابن حجر (1): الجواب الثاني دعوى شذوذ ورواية طاوس وهي طريقة البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم انتهى.
وقال ابن التركماني وطاوس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه، وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم، انتهى.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال بعد عرضه لهذا المسلك (2): وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لا يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع، ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء.
قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة، لم يروها غيره، وعلمت بها الأمة ولم يردوها بتفرده هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ركانة وهو موافق لحديث طاوس عنه، فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض، فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.
فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ: أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به، لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذا، وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده، ولا مسوغا له.
قال الشافعي: " وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات "، قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به، ثم إن هذا القول لا يمكن أحدا من أهل العلم، ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم، والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثير من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم، وذلك أشهر وأكثر من أن يعد.
وبعد ما ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كلام يتفق مع ما سبق ذكره عن ابن القيم قال (3): نعم لقائل
(1) الفتح 9/ 363.
(2)
إغاثة اللهفان 1/ 295 - 296.
(3)
أضواء البيان 1/ 193 - 1956.
أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كان الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه، أن ذلك يدل على عدم صحته، ووجهه أن توفر الدواعي يلزم منه النقل تواترا والاشتهار، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة في الأصول أشار إليها في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر " وخبر الآحاد في السنى ".
حيث دواعي نقله تواترا
…
نرى له لو قاله تقررا
وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب جمع الجوامع عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة، اهـ منه بلفظه.
ومراده أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله، وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوفر الدواعي إلى نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة اهـ. محل الغرض منه بلفظه، وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول.
قال مقيده - عفا الله عنه -: ولاشك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمسلمون في زمن أبي بكر وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك، فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره؛ لأن (1) يرد بذلك التغيير الذي أحدثه عمر، فسكوت جميع الصحابة عنه، وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين:
أحدهما: أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناها أنها بلفظ واحد بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا، وكما جزم به النسائي: وصححه النووي والقرطبي وابن سريج، وعليه فلا إشكال؛ لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم، والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2)» فمن قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونوى التأكيد فواحدة، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث، واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه لقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:«وإنما لكل امرئ ما نوى (3)» .
(1) قوله " لأن " كذا بالأصل المطبوع.
(2)
صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647)، سنن النسائي الطهارة (75)، سنن أبو داود الطلاق (2201)، سنن ابن ماجه الزهد (4227)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 43).
(3)
صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647)، سنن النسائي الطهارة (75)، سنن أبو داود الطلاق (2201)، سنن ابن ماجه الزهد (4227)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 43).
والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله، والأول أولى وأخف من الثاني، وقال القرطبي في المفهم في الكلام على حديث طاوس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر، فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه اهـ. منه بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري عنه، وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى. انتهى.
الجواب التاسع: أن الحديث مضطرب، نقل هذا الجواب ابن حجر عن القرطبي (1)، وذكر ابن القيم (2) هذا الجواب وناقشه فقال: وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر فقالوا هو حديث مضطرب لا يصح؛ ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في صحيحه على خلافه فقال: " باب فيمن جوز الطلاق الثلاث في كلمة لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) ثم ذكر حديث اللعان وفيه: «فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يغير عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو لا يقر على باطل (4)» .
قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروي عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند.
وأما المتن فإن أبا الصهباء تارة يقول: " ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة "، وتارة يقول: " ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فهذا يخالف اللفظ الآخر، وهذا المسلك من أضعف المسالك، ورد الحديث به ضرب من التعنت، ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه.
ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته، وكيف يتهيأ القدح في صحته، ورواته كلهم أئمة حفاظ، حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار، وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاوس، وحدث به ابن طاوس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاوس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه: أن الثلاث واحدة، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس، فلم ينفرد به عبد الرزاق ولا ابن
(1) فتح الباري 9/ 364.
(2)
إغاثة اللهفان 1/ 293 - 295.
(3)
سورة البقرة الآية 229
(4)
صحيح البخاري الطلاق (5309)، صحيح مسلم اللعان (1492)، سنن النسائي الطلاق (3402)، سنن أبو داود الطلاق (2245)، سنن ابن ماجه الطلاق (2066)، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201)، سنن الدارمي النكاح (2229).
جريج، ولا عبد الله بن طاوس، فالحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه: الجامع المختصر الصحيح، ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ في العلم.
وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة - وهو الظاهر - فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء، إلى أبي الجوزاء، فإنه كان سيء الحفظ، والحفاظ قالوا " أبو الصهباء "، وهذا لا يوهن الحديث، وهذه الطريق عند الحاكم في المستدرك، وأما رواية من رواه مقيدا " قبل الدخول " فإنه تقدم أنه لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه؛ فإن تعارضها فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح.
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - صريح في كون الثلاثة واحدة في حق المدخول بها وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء أن قوله: " قبل الدخول " زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى، وحينئذ فيدل أحد حديثي ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر، وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا، فأحد الحديثين يقوي الآخر ويشهد بصحته، وبالله التوفيق.
الجواب العاشر: أن حديث ابن عباس معارض بالإجماع، والإجماع أقوى من خبر الواحد كما ذكر ذلك الشافعي وغيره، وقد سبق استدلال الجمهور بالإجماع مع ذكر أدلتهم لمذهبهم وبيان من قال به، ومناقشة ابن القيم له، فاكتفى بذلك عن الإعادة هنا.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في المسند قال: حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة - مولى ابن عباس - عن ابن عباس قال: «طلق ركانة ابن عبد يزيد - أخو بني المطلق - امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف طلقتها "؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال فقال: " في مجلس واحد؟ " قال: نعم، فقال: " فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت " قال: فراجعها (1)» فكان ابن عباس يروي الطلاق عند كل طهر.
قال ابن القيم (2) وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث عمرو بن شعيب عن
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/ 265).
(2)
أعلام الموقعين 3/ 40.
أبيه عن جده، «أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد (1)» هذا حديث ضعيف أو قال واه، لم يسمعه الحجاج عن عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي، والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الذي رواه أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أقرها على النكاح الأول، وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد؟ هذا وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس عند الترمذي فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه؟ ثم ساق رواية أبي داود وستأتي وهي الدليل الثالث، ثم قال ابن القيم: قال شيخنا رضي الله عنه وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي في مسند أحمد يعني الذي ذكرناه آنفا، فقال: حديث ألبتة أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا؛ لأنهم أهل بيته، ولكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث ألبتة وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين أنه الصواب، وقال حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته ألبتة وفي رواية عنه: حديث ركانة في ألبتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون الثلاثة ألبتة. قال الأثرم: قلت لأحمد حديث ركانة في ألبتة فضعفه، انتهى.
وقد سبق الكلام على رواية الإمام أحمد لحديث ركانة، وكذلك رواية الزبير بن سعيد، ورواية نافع بن عجير عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية.
الدليل الثالث: قال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح، قال حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج، قال أخبرني بعض بني أبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس قال:«طلق يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعى بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: " أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلانا لابنه الآخر يشبه منه كذا وكذا؟ " قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد " طلقها " ففعل فقال: " راجع امرأتك أم ركانة وإخوته " فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: وتلا (3)» .
وقد سبقت مناقشة رواية أبي داود عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية فاكتفي بما هناك عن إعادته هنا.
(1) سنن الترمذي النكاح (1142)، سنن ابن ماجه النكاح (2010).
(2)
سنن أبو داود الطلاق (2196).
(3)
سورة الطلاق الآية 1 (2){يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
الدليل الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا فاحتسب بواحدة وقد سبقت مناقشة حديث ابن عمر برواياته، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة، وذلك عند الكلام على الدليل السادس فاكتفي بما ذكر هناك عن إعادته هنا.
وأما الإجماع فممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء، فقد بينوا أن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة في عهد أبي بكر، وثلاث سنين من خلافة عمر، ويمكن أن يجاب عنه بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة في أن الثلاث بلفظ واحد تكون ثلاثا وقد سبقت.
وأما القياس فقد قال ابن القيم: (1): وأما القياس فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} (2)، ثم قال:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (3) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق، وقالت: أشهد بالله أربع شهادات أنه كاذب، كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا، فكيف يكون قوله: أنت طالق ثلاثا ثلاث تطليقات، وأي قياس أصح من هذا؟ وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه؛ ولهذا لو قال المقر بالزنا: إني أقر بالزنا أربع مرات كان ذلك مرة واحدة، وقد قال الصحابة لماعز: " إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو قال: أقر به أربع مرات كان مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء.
وقد أجاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن هذا القياس فقال: (4): وقياس أنت طالق ثلاثا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشيء منها أصلا، بخلاف الطلقات الثلاث، فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعا وحصلت به البينونة بانقضاء العدة إجماعا.
وأما الآثار فما جاء عن الصحابة في ذلك، فقد روى طاوس وعكرمة عن ابن عباس الإفتاء بذلك ورواية طاوس عند أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ورواية عكرمة عند أبي داود من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، وحكى ابن وضاح وعنه ابن مغيث الإفتاء يكون الطلاق الثلاث في كلمة واحدة واحدة عن علي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر قال: أخبرنا أبو يعلى حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنحكت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح، وكذلك ما نقل من الآثار عن أهل البيت.
(1) إغاثة اللهفان 1/ 289.
(2)
سورة النور الآية 6
(3)
سورة النور الآية 8
(4)
أضواء البيان 1/ 195 - 196.
ويضاف إلى هذه الآثار ما سبق ذكره من الآثار مما لم يذكر هنا وذلك في الكلام على رد استدلال الجمهور بالإجماع.
وأجيب عن تلك الآثار بما يأتي: أما ما روى طاوس عن ابن عباس أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إنما تلزمه طلقة واحدة فقد اعتبره أبو جعفر النحاس من مناكير طاوس التي خولف فيها طاوس (1)، قال: وطاوس وإن كان رجلا صالحا فعنده عن ابن عباس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم، منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال في رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إنما تلزمه واحدة ولا يعرف هذا عن ابن عباس إلا من روايته، والصحيح عنه وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنها ثلاث كما قال الله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} (2). أي الثالثة.
وأما ما روى حمادي بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة " فقد تعقبه أبو داود في سننه بقوله: ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، ولم يذكر ابن عباس وجعله قول عكرمة، وعلى فرض ثبوتهما فقد رجع ابن عباس عن ذلك كما صرح أبو داود قال (3)، وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى، وهذا حديث أحمد قالا: نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، قال أبو داود وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن الأشج عن معاوية بن أبي عياش أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير إلى ابن الزبير وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك فقال: اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة رضي الله عنها ثم ساق هذا الخبر، قال أبو داود وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث يبينها من زوجها مدخولا بها أو غير مدخول بها، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، هذا مثل خبر الصرف، قال فيه ثم إنه رجع عنه يعني ابن عباس. اهـ (4).
وقد ساق في الباب الذي أورد فيه ذلك، وهو باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث آثارا عن سائر أصحاب ابن عباس بخلاف ما ذكر عن طاوس وعكرمة حيث قال: حدثنا حميد بن مسعدة، نا إسماعيل أنا أيوب، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق مرأته ثلاثا، قال فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس
(1) الناسخ والمنسوخ 71.
(2)
سورة البقرة الآية 230
(3)
سنن أبي داود بشرح عون المعبود 2/ 226 - 227.
(4)
سنن أبي داود بشرح عون المعبود: 2/ 226 - 227.
يا ابن عباس وإن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1)، وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2)، قال أبو داود: روى هذا الحديث حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن ابن عباس، ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيوب وابن جريج جميعا عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع عن عطاء عن ابن عباس، ورواه الأعمش عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس وابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قالوا في الطلاق الثلاث: إنه أجازها، قال: وبانت منك، نحو حديث إسماعيل عن أيوب عن عبد الله بن كثير. . اهـ.
وقال الباجي بخصوص ما نقل عن ابن عباس من فتواه بأن الثلاث بفم واحد واحدة (3) ما نصه: " قد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع " اهـ.
وأما ما نقله أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي عن ابن وضاح، من أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قد أفتوا بأن من طلق ثلاثا في كلمة واحدة لا يلزمه سوى طلقة واحدة، فيتوقف الاستدلال به على ثبوت السند إليهم بذلك، ولم يثبت.
وقد تعقبه أبو بكر بن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ ونقله عنه ابن القيم قال (4) قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (5) " زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم وجعلوه واحدة، ونسبوه إلى السلف الأول فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة المغموز المرتبة ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه وقالوا: إن قوله: أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا كما لو قال: طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة وكما لو قال: أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة، ومر أبو بكر بن العربي إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا في رواية له عن أحد وقد أدخل مالك في موطئه عن علي أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة فهذا في معناها فكيف إذا صرح بها، وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة.
قال ابن العربي لم يعرف في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان بالاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم، نقل العدل عن العدل ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. اهـ.
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2)
سورة الطلاق الآية 1
(3)
المنتقى 4/ 4.
(4)
مختصر سنن أبي داود ومعه التهذيب والمعالم ج3 ص128.
(5)
سورة البقرة الآية 229
وقد ذكر ابن القيم ذلك في إغاثة اللهفان ص179 بقوله: " لعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلاشك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس الإلزام بالثلاث إن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم، من الصحابة بذلك؛ فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق " اهـ كلام ابن القيم.
وقال البيهقي في السنن الكبرى في عزو ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - (1) أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني، أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، ثنا محمد بن عبد الوهاب بن هشام نا علي بن سلمة اللبقي، ثنا أبو أسامة عن الأعمش قال: كان بالكوفة شيخ يقول سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة والناس عنقا واحدا إذ ذلك يأتونه ويسمعون منه، قال فأتيته فقرعت عليه الباب فخرج إلي شيخ فقلت له: كيف سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: فيمن طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد؟ قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة، قال فقلت له: أين سمعت هذا من علي - رضي الله تعالى عنه -؟ قال: أخرج إليك كتابا فأخرج فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. قال: فقلت ويحك هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك " اهـ.
وأما ما روى أبو يعلى عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - من قوله: " ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق " إلخ فلا يصح الاحتجاج به على أن عمر قد ندم آخر حياته على إمضاء الثلاث لأمرين:
أحدهما: أن يزيد بن أبي مالك لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وقد قال الحافظ الذهبي في " ميزان الاعتدال " في يزيد بن أبي مالك: صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك، وذكره الحافظ ابن حجر في " تعريف أهل التقديس بالموصوفين بالتدليس " وقال - وصفه أبو مسهر بالتدليس.
الثاني: أن خالد بن يزيد بن أبي مالك وهاه ابن معين، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال النسائي: غير ثقة، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي عن ابن أبي عصمة عن أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: خالد بن يزيد بن أبي مالك ليس بشيء، وقال ابن أبي الحواري سمعت ابن معين يقول بالعراق: كتاب ينبغي أن يدفن: كتاب الديات لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه
(1) السنن الكبرى ج / 7 ص: 339 - 340.