الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجه الدلالة: هذا الأثر يفيد أن عراك بن مالك توسل إلى الله تعالى بإجابة دعوة الله إلى الصلاة، وهي الأذان وبصلاة فريضة الجمعة، وبانتشاره من بعد الصلاة كما أمره الله وسائر المسلمين في قوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (1) وهذه كلها أعمال صالحة توسل إلى الله تعالى بها في أن يرزقه من فضله، مما يؤكد مشروعية التوسل بالعمل الصالح.
(1) سورة الجمعة الآية 10
النوع الثالث: التوسل إلى الله بدعاء الصالح الحي:
وهو توسل المسلم الذي وقع في ضيق أو حلت به مصيبة بدعاء إنسان يظهر عليه الصلاح والتقوى، ويتم بطلب من المتوسل، كما يتم من غير طلب.
مثال الأول: كأن يذهب المسلم الذي حلت به مصيبة وعلم من نفسه التفريط في جنب الله إلى رجل يعتقد فيه الصلاح، ويطلب منه أن يدعو الله له أن يرفع عنه ما حل به.
ومثال الثاني: كأن يرى العبد الصالح أخا له في ضيق وشدة فيدعو الله له أن يفرج عنه.
ويكون في حضور المدعو له، كما يكون في غيبته، ولا فرق أن يدعو الأعلى للأدنى، أو الأدنى للأعلى، فكل ذلك جائز ومقبول - إذا شاء الله سبحانه وتعالى.
مثال الأعلى للأدنى: توسل الصحابة بدعاء نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ومثال الأدنى للأعلى: طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم عمرته أن يدعو الله له (1).
الأدلة: لقد دل على مشروعية هذا النوع من التوسل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
أولا: الأدلة من الكتاب وكثيرة. منها ما يلي:
1 -
وجه الدلالة: في الآية إرشاد لمن ظلم نفسه بارتكاب خطيئة إلى سببين ينقذان منها:
الأول: الاستغفار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عمل صالح يقدمه الإنسان وسيلة للاستجابة.
الثاني: استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وهذا هو محل الشاهد إذا هو توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم. وعليه فكل
(1) انظر: قاعدة جليلة ص 14، 43، 44 والفتاوى ج 1 ص 131، 132، ج 27 ص 69 والتوسل للألباني ص 41.
(2)
سورة النساء الآية 64
إنسان يصح له أن يتوسل بدعاء أخيه كأن يقول: استغفر لي، أو يدعو لأخيه كأن يقول: اللهم اغفر لفلان.
ومما يجب التنبيه عليه أن المجيء في الآية المراد به: مواجهته صلى الله عليه وسلم وهو حي لا المجيء إلى قبره؛ لأن استغفاره صلى الله عليه وسلم قد انقطع بوفاته، وعليه فلا يجوز المجيء إلى قبره أو قبر أحد من الصالحين لأجل سؤالهم أن يستغفروا الله لنا من ذنوب اقترفناها (1).
2 -
قوله تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2).
وجه الدلالة: في الآية الأولى إخبار من الله تعالى بأن إخوة يوسف عليه السلام طلبوا من أبيهم أن يستغفر الله لهم عما بدر منهم من أخطاء نحو أخيهم يوسف وأبيهم. وهو توسل بدعائه عليه السلام.
ثم في الآية الثانية: استجابة من يعقوب عليه السلام لطلبهم حيث وعدهم بالاستغفار.
(1) انظر: تفسير ابن سعدي ج 2 ص 44 وقاعدة جليلة ص 137، والتوصل ص 143، 144.
(2)
سورة يوسف الآية 97
مما يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي؛ ذلك أن العقيدة واحدة لا تتغير من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم (1).
3 -
وجه الدلالة: يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه بأن المخلفين من الأعراب سيعتذرون بأموالهم وأهليهم، ويطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم وهو توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وهذا الطلب - وإن كان مصانعة وتقية - فإنه يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي من وجهين:
الأول: أنهم طلبوه ولولا علمهم بمشروعيته لما طلبوه.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ولو كان غير مشروع لاعترض على طلبهم (3) وبذلك دلت الآية على مشروعية هذا النوع من التوسل والله أعلم.
(1) انظر تفسير النسفي ج 2 ص 129، وروح المعاني ج 13 ص 55، 56 وتفسير ابن سعدي ج 4 ص 99.
(2)
سورة الفتح الآية 11
(3)
انظر: تفسير ابن سعدي ج 7 ص 177 والتوصل ص 147. .
ثانيا: الأدلة من السنة- وهي كثيرة- منها ما يلي:
1 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو باب دار القضاء- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
قال: أنس ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فلا والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس (1)» (2)
وجه الدلالة: يفيد الحديث أن المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابهم جدب فتقدم أحدهم إلى رسول الله
(1) صحيح البخاري الجمعة (1013)، صحيح مسلم صلاة الاستسقاء (897)، سنن النسائي الاستسقاء (1528)، سنن أبي داود الصلاة (1174)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1180)، مسند أحمد (3/ 271).
(2)
رواه البخاري برقم 1013، 1014 في كتاب الاستسقاء، باب 6، 7.
صلى الله عليه وسلم طالبا منه أن يدعو الله أن يغيثهم، فدعا الله فأغيثوا، ثم تقدم إليه هو أو غيره طالبا أن يدعو الله أن يمسكه عنهم فدعا الله فانجاب السحاب عن المدينة. كل هذا يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح (1) الحي لا بذاته أو جاهه، إذ لو كان ذلك مشروعا لأرشدهم صلى الله عليه وسلم إليه عندما شكوا الجدب ولما احتاج منهم المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، إذ التوسل بالجاه أو الذات لا يحتاج إلى ذلك.
2 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي وقال: "لا تنسنا يا أخي من دعائك (2)» .
وفي رواية قال: «أشركنا يا أخي في دعائك، قال عمر: فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا (3)» .
وجه الدلالة: في الحديث دلالة على أمرين:
الأول: على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي حيث أكد صلى الله عليه وسلم على عمر أن يدعو له في قوله: «لا تنسنا يا
(1) انظر: فتح الباري ج 2 ص 506.
(2)
سنن الترمذي الدعوات (3562)، سنن أبي داود الصلاة (1498)، سنن ابن ماجه المناسك (2894)، مسند أحمد (1/ 29).
(3)
رواه أبو داود برقم 1498 في الصلاة، باب الدعاء، والترمذي برقم 3557 في الدعوات، باب 121 وقال الترمذي: حديث حسن صحيح انظر: جامع الأصول حد ما 6444.
أخي من دعائك (1)» ذلك أن أقواله صلى الله عليه وسلم من السنة التي هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله.
الثاني: أن التوسل بدعاء الصالح كما يكون بدعاء الأعلى يكون بدعاء الأدنى حيث طلب صلى الله عليه وسلم وهو الأعلى من عمر أن يدعو له (2) وفيه دلالة أيضا على مبلغ حرصه صلى الله عليه وسلم على الخير وعلى تعليم أمته إياه.
3 -
(1) سنن الترمذي الدعوات (3562)، سنن أبي داود الصلاة (1498)، سنن ابن ماجه المناسك (2894)، مسند أحمد (1/ 29).
(2)
انظر الفتاوى ج 27 ص 69.
(3)
أخرجه أحمد في المسند برقم 17240، ورقم 17241، انظر المسند ج 28 ص 478، 479 والترمذي برقم 3573 في الدعوات، باب من أدعية الإجابة وإسناده صحيح، وقد صححه غير واحد من العلماء- انظر: جامع الأصول حديث 2375 (المتن والحاشية).
وجه الدلالة: الحديث يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي من وجوه:
أحدها: أن الأعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا ما هو فيه من ضر، وسأله أن يدعو له ولولا علمه مشروعيته لما أتى وسأل.
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خيره بين الصبر وبين الدعاء ثم أقره حيث أصر على الدعاء، ولو لم يكن مشروعا لما خيره ثم أقره.
الثالث: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له، ويفهم من أمور منها:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت دعوت لك وأن شئت صبرت (1)» ، ثم قول الأعمى- فادعه.
2 -
تعليمه دعاء يدعو به يكون بجانب دعاءه صلى الله عليه وسلم وما تضمنه من قوله. . . «اللهم فشفعه في (2)» وهذا لا يكون إلا إذا كان صلى الله عليه وسلم داعيا له.
من كل ما ذكرنا يتضح أن الحديث يدل دلالة صريحة على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي، أما ما ورد في الحديث من قوله (بنبيك) فالمراد منه بدعاء نبيك بدليل قوله:
(1) سنن الترمذي الدعوات (3578)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).
(2)
سنن الترمذي الدعوات (3578)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).
إن شئت دعوت لك، وقوله «اللهم فشفعه في (1)»
ثالثا: الأدلة من أفعال الصحابة "رضي الله عنهم" وهي كثيرة منها ما يلي:
1 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون (2)» وقد روي عن ابن عمر أن هذا الاستسقاء كان عام الرمادة (3).
وجه الدلالة: يفيد الأثر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة استسقى بالعباس بن عبد المطلب- أي بدعائه- مثل ما كانوا يعملون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلبوا منه أن يدعوا الله أن يغيثهم، ويؤكد ذلك الواقع فقد أخذ يدعو (4) وهم يؤمنون- ولو كان المراد بجاهه لاختار جاه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أعظم، لكن نظرا لأنه بالدعاء والدعاء لا يمكن من الرسول صلى الله عليه وسلم لوفاته فاختار لذلك التوسل بدعاء
(1) انظر: قاعدة جليلة ص 99، والتوسل للألباني ص 76 - 79.
(2)
رواه البخاري برقم 1010 في كتاب الاستسقاء باب 3.
(3)
انظر: فتح الباري ج 2 ص 497.
(4)
انظر: فتح الباري ج 2 ص 497.
العباس وقد أقره الصحابة على ذلك فكان إجماعا، والإجماع حجة قاطعة عند الجمهور (1)، فتأكد بذلك مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي لا بجاهه أو ذاته.
2 -
روى أبو زرعة الدمشقي، ويعقوب بن سفيان في تاريخيهما، وابن الجوزي في صفة الصفوة عن سليم بن عامر الخبائري (أن الشام قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس فأقبل يتخطى، فأمره معاوية فصعد المنبر فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس وهبت لها ريح فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم
وجه الدلالة: ما ورد في الأثر من قوله: (اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا) إلى قوله: (يا يزيد ارفع يديك إلى الله) يدل على
(1) انظر: قاعدة جليلة ص 154 - 131، وروضة الناظر ص 67.
أن معاوية رضي الله عنه توسل بدعاء صالح حي، ولولا علمه بمشروعيته لما عمله ولو علم أن التوسل بما سوى الدعاء من جاه أو ذات جائز لما عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما سواه، فهو من الصحابة الذين هم أعلم هذه الأمة بشرع الله وأحرصهم على الالتزام به.
النوع الرابع: التوسل إلى الله بذكر الحال.
وهو أن يتوسل إلى الله بذكر حال الداعي المبينة لاضطراره وحاجته.
مثاله: توسل موسى عليه السلام بذكر حاله بعد أن سقى للمرأتين من ماء مدين.
الدليل. على مشروعيته: قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (1).
وجه الدلالة: أن في الآية بيان أن موسى عليه السلام بعد أن سقى للمرأتين تولى إلى الظل ثم توجه إلى ربه مبينا افتقاره للخير الذي يسوقه إليه.
وهذا سؤال منه بحاله (2) وقد استجاب الله دعائه قال تعالى:
(1) سورة القصص الآية 24
(2)
انظر: تفسير ابن سعدي ج 6 ص 11.