الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الأزمان الفاضلة في القرآن الكريم
اختص سبحانه بعض الأزمنة بأن جعلها مواسم للطاعات، وأياما مباركة للقربات، وحث الناس على اغتنام أجرها، فهي لطلب الرضى، وإجابة الدعوات، ومضاعفة الحسنات، حيث يفتح الله فيها أبواب الرحمة، فالموفق من تزود لآخرته، وأقبل على ربه راجيا مغفرته.
وهذا هو مدلول قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة، لا يشقى بعدها أبدا (1)» .
وهذا هو مفهوم التفاضل في الأوقات؛ لأن الأزمان في حقيقتها متجانسة ومتشابهة، وتفضيل بعضها على بعض إنما هو على معنى أن الطاعة في البعض أفضل، والثواب عليها أكثر.
ومن هنا، فقد ميز الله يوم الجمعة على غيره من أيام الأسبوع، وشهر رمضان على غيره من شهور السنة، وليلة القدر على غيرها من الليالي، وميز بعض ساعات الليل والنهار على غيرها.
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال عنه: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفيه من لم أعرفهم، ومن عرفتهم، وثقوا". وذكره بلفظ آخر عن أنس بن مالك، وقال فيه:"رواه الطبراني ورجال إسناده رجال الصحيح، غير عيسى بن موسى بن إياس بن البكير، وهو ثقة". انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد، كتاب الزهد، باب التعرض لنفحات رحمة الله، ج 10، ص 231.
سنته الشريفة حيث قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر (2)» .
قال عبد الغني النابلسي: "وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم هي الأربعة المذكورة في هذا الحديث"(3).
وسميت هذه الأشهر حرما لتعظيم انتهاك المحارم فيها، فالمعصية فيها أشد عقابا، وبالمقابل، فإن الطاعة فيها تكون أكثر ثوابا.
أما القول بأنها سميت كذلك لتحريم القتال فيها (4)، مصداقا لقوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (5) فهذا منسوخ؛ لأن تحريم القتال فيها إنما كان في
(1) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب التفسير، باب رقم 8، ج 9، ص 221.
(2)
(1) الذي بين جمادى وشعبان
(3)
النابلسي، عبد الغني: فضائل الشهور والأيام، ص 68.
(4)
انظر: المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة. حجازي، محمد: التفسير الواضح، ج10، ص 49.
(5)
سورة التوبة الآية 5
أول الإسلام، إلا أن يقاتل المسلمون، ثم أذن الله تعالى في قتال المشركين في جميع الأوقات، فقال:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (1) وبقيت حرمة الأشهر الحرم في تضعيف الأجور والأوزار فيهن، فقد خص الله تعالى هذه الأشهر بزيادة المنع فيهن عن الظلم (2). ولذلك، فقد غلظ الإمام الشافعي رحمه الله في دية من قتل خطأ في الأشهر الحرم (3).
وعلى ذلك، فإن قوله:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (4) عائد على الأربعة الحرم، وليس على الاثني عشر شهرا؛ لأنه أقرب مذكور؛ ولأن هذا هو مدلول الضمير (فيهن) في اللغة العربية.
وفي اختصاص الأشهر الحرم بالذكر هنا تشريف لها. وفي خصها بالنهي عن الظلم، مع أنه منهي عنه في كل زمان، مزيد من التشريف (5). وجاء ذكر الأشهر الحرم في القرآن الكريم بصيغة المفرد الدال على الجنس فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} (6) وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} (7).
(1) سورة التوبة الآية 36
(2)
البيهقي: فضائل الأوقات، ص 86.
(3)
انظر: الشافعي: الأم، ج 6، ص 47 كفاية الأخيار، ص 604.
(4)
سورة التوبة الآية 36
(5)
الرازي: التفسير الكبير، ج 6، ص 41 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 135.
(6)
سورة المائدة الآية 2
(7)
سورة المائدة الآية 97
فالمراد بالشهر الحرام في هاتين الآيتين، الأشهر الحرم الأربعة، إلا أنه عبر عنها بلفظ الواحد؛ لأنه ذهب بها مذهب الجنس (1). ووردت آيتان يبين سبب نزولهما أنهما تدلان على أحد هذه الأشهر الأربعة، وهما:
قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} (2).
فهي جاءت لتدل على شهر ذي القعدة الذي منع المسلمون فيه من دخول مكة، ولكنهم عادوا في العام المقبل، وفي نفس هذا الشهر (3).
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} (4)، وهذه نزلت حين قتل أحد المسلمين رجلا من المشركين في شهر رجب (5).
وهاتان الآيتان وإن جاءتا للدلالة على شهر معين من الأشهر
(1) الرازي: التفسير الكبير، ج 4، 40 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 6، ص 325.
(2)
سورة البقرة الآية 194
(3)
الواحدي: أسباب النزول، ص 43. الزمخشري: الكشاف، ج 1، ص 119.
(4)
سورة البقرة الآية 217
(5)
الواحدي: أسباب النزول، ص (51، 52). ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج 1، ص 271.