الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأموات على حياه الأحياء، وعليه فتبطل هذه الشبهة.
ثانيا: شبهاتهم فيما استدلوا به من السنة، ومن أقوال وأفعال الصحابة والتابعين
.
وهى: إما استشهاد في غير محله، أو حديث أو أثر ضعيف أو موضوع منها ما يلي:
الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس الذي مر ذكره في أدلة أهل السنة على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي، وهو ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون) (1).
وجه استدلالهم: قالوا: ورد في الحديث " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ".
قالوا: المراد بعم نبينا، أي: بجاهه، فهم فهموا أن توسله بالعباس كأنه مجرد ذكر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد بزعمهم ما يدعون.
(1) سبق تخريجه.
وعللوا: عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس صلى الله عليه وسلم لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل (1)
يقول أحمد دحلان بعد أن أورد هذا الحديث مستدلا به: (وإنما خص عمر العباس من دون سائر الصحابة رضي الله عنهم لإظهار شرف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل)(2).
ومثل ذلك قال محمد الفقي بعد أن أورده مستدلا به (3).
الجواب: يقال لهم: استدلالكم خاطئ فإن عمر رضي الله عنه والصحابة إنما توسلوا بدعاء العباس، ويدل على ذلك أمور منها:
1 -
أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وفي هذه الحادثة بالعباس.
ومما لا شك فيه أن التوسلين من نوع واحد وإذا تبين للقارئ - مما يأتي- أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان بدعائه، فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه، ومما يؤكد
(1) التوسل للألباني ص 55، 56 وانظر: الدرر السنية ص 10 - 12 والتوسل محمد الفقي ص 174، 175.
(2)
الدرر السنية ص 10 - 12.
(3)
انظر التوسل محمد الفقي ص 174، 175.
أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم في حياته إنما كان بدعائه صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ: «كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به فيستسقي لهم فيسقون، فلما كان في إمارة عمر (1)» فذكر الحديث (2) فقوله: (فيستسقي لهم) صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى، وهذا هو التوسل بدعائه، كذلك حديث الأعرابي الذي دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب وشكا له الجدب ونحوهما، كل ذلك يدل على أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم في حياته إنما كان بدعائه.
2 -
ما ورد في بعض روايات هذا الحديث الصحيحة أن العباس لما استسقى به عمر دعا. يقول ابن حجر في الفتح: (وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث)(3).
هذه الرواية تدل على أنهم توسلوا بدعاء العباس لا بذاته، إذ
(1) صحيح البخاري الجمعة (1010)، المناقب (3710).
(2)
فتح الباري ج 2 ص 495.
(3)
فتح الباري ج 2 ص 497.
لو كان التوسل بذاته أو جاهه لما كان هناك حاجة ليقوم العباس فيدعو بعد عمر بهذا الدعاء.
3 -
لو كان توسلهم بالعباس - بذاته أو جاهه- لما عدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس؛ إذ ذاته صلى الله عليه وسلم أفضل وجاهه أعظم من جاه العباس، لكن لما كان بدعائه والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يدعو لهم لوفاته عدلوا إلى حي فاضل، فاختاروا العباس لفضله رضي الله عنهم
قال ابن تيمية: (ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا " يدل على أن التوسل المشروع عنهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس)(1).
كل ما ذكرنا يدل دلالة واضحة على أن توسل الصحابة بالعباس إنما كان بدعائه.
(1) قاعدة جليلة ص 64.
وأما قولهم: أن عمر رضي الله عنه، عدل عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل.
فنقول: كلام مردود من وجوه، منها:
الأول: أنه ليس من المعقول أن الصحابة يقرون عمر على ترك التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم لو كان ممكنا- إلى التوسل بعمه، ولن يقبل العباس أن يتركوا التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم لو كان ممكنا- إلى التوسل به إذ في ذلك ترك للسنة المشروعة وعدول عن الأفضل، أضف إلى ذلك أنهم رضي الله عنهم يعرفون قدر نبيهم صلى الله عليه وسلم ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد، فلن يؤثروا عليه أحدا لو كان ممكنا لأي سبب من الأسباب.
الثاني: أن سؤال الله بأضعف السببين إنما يكون في وقت الرخاء، أما في وقت الشدة فالناس أحرص على أكبر وسيلة لزوالها، وعام الرمادة معلوم ما أصاب المسلمين فيه من شدة.
الثالث: لنفرض أن الذي حمل عمر على ترك التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه ما زعموه، فما الذي حمل معاوية والضحاك بن قيس عندما توسلا بيزيد بن الأسود الجرشي، وأيضا لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة
واحدة ولما استمر عليه كلما استسقى بدليل ما ورد في هذا الحديث من قوله: (إن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس) فإن في هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بالعباس كل ما ذكرت يؤكد بطلان استدلالهم بهذا الحديث على التوسل بالجاه أو غيره من التوسل الممنوع.
الشبهة الثانية: حديث الضرير وهو ما روي عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه: «أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: " إن شئت دعوت لك وإن شئت أخرت ذاك فهو خير" وفي رواية "وإن شئت صبرت فهو خير لك "، فقال: ادعه: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في) قال: ففعل الرجل فبرأ (1)» وقد استدل به السبكي (2)، والزهاوي (3)، وأحمد دحلان (4)
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم 17240، ورقم 17241، انظر المسند ج 28 ص 478، 479 والترمذي برقم 3573 في الدعوات، باب من أدعية الإجابة وإسناده صحيح، وقد صححه غير واحد من العلماء- انظر: جامع الأصول حديث 2375 (المتن والحاشية).
(2)
انظر: شفاء السقام ص 139، 140.
(3)
الضياء الشارق ص 537.
(4)
الدرر السنية ص 8، 9.
على جواز التوسل بالذات أو الجاه.
وجه استدلالهم: قالوا الحديث يدل على جواز التوسل بذات أو جاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه. حيث أمره أن يدعو بهذا الدعاء (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك) وقد فعل الأعمى ذلك فبرأ (1).
يقول الزهاوي: بعد أن ساق هذا الحديث: (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الضرير أن يناديه ويتوسل به إلى الله في قضاء حاجته)(2) ويقول أحمد دحلان: (ومن الأحاديث الصحيحة التي جاء التصريح فيها بالتوسل ما رواه الترمذي، ثم ساق الحديث، وقال: ففي هذا الحديث التوسل والنداء أيضا)(3).
الجواب: يقال لهم استدلالكم بهذا الحديث على جواز التوسل بذات أو جاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره استدلال خاطئ فالحديث إنما يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي لا غير وذلك لما يلي:
1 -
أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له بدليل قوله: «ادع الله أن يعافيني (4)» ولو كان قصده التوسل بذاته
(1) انظر: التوسل للألباني ص 76.
(2)
الضياء المشارق ص 537.
(3)
الدرر السنية ص 8.
(4)
سنن الترمذي الدعوات (3578)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385)، مسند أحمد (4/ 138).
صلى الله عليه وسلم أو جاهه لما احتاج منه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل ممكن أن يتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه وهو في بيته أو في أي مكان، فمجيئه وطلبه من الرسول أن يدعو له دليل واضح على أنه إنما توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين الدعاء وبين أن يصبر مع بيان فضيلة الصبر ونصحه به حيث قال: «إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت فهو خير لك (1)» .
3 -
إصرار الأعمى على الدعاء بقوله: ادعه، فهذا يدل على أنه اختار الدعاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له؛ لأنه وعده بقوله:«إن شئت دعوت لك (2)» وقد شاء الدعاء وأصر عليه فإذا لا بد أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا له فهو خير من وفى بما وعد، ولحرصه صلى الله عليه وسلم على أن يستجيب الله دعاء له وجهه إلى عمل صالح يقدمه بين يدي دعائه صلى الله عليه وسلم ليكون أحرى بالقبول حيث أمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه بدعاء علمه الرسول صلى الله عليه وسلم إياه.
4 -
ورد في الدعاء الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم إياه «اللهم فشفعه في (3)» وهذا صريح في أن الرسول صلى الله عليه
(1) سنن الترمذي الدعوات (3578)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).
(2)
سنن الترمذي الدعوات (3578)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385)، مسند أحمد (4/ 138).
(3)
سنن الترمذي الدعوات (3578)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).
وسلم قد دعا له وأن توسله إنما كان بدعائه، فهو يدعو أن يقبل الله دعاء نبيه له فقوله " اللهم فشفعه في " معناه: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم أي اقبل دعائه - في أن ترد علي بصري، ولو كان توسل بذاته أو جاهه لم يكن لهذا فائدة ولا معنى في الحديث، وهذا مردود كذلك ما يستلزمه. قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر الحديث:(فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: "وشفعه" فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه)(1)
5 -
أن هذا الحديث قد ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب مما يدل على أن التوسل فيه توسل بالدعاء، وأن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره)(2) أما ما تضمنه الدعاء من قوله: " أسألك بنبيك " فالمراد بدعاء نبيك بدليل طلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له وبدليل قوله في دعائه " اللهم فشفعه في " فهذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم سيدعو له فهو
(1) قاعدة جليلة ص 92.
(2)
الفتاوى ج 1 ص 266.
دعاء في أن يقبل الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له- كما تقدم بيانه آنفا.
أضف إلى ذلك أن التوسل بالشخص في مفهوم الصحابة وعرفهم إنما هو طلب الدعاء منه حال حياته، أما التوسل بالجاه أو الذات فهم لا يقرونه؛ لأنه من مفاهيم الجاهلية التي بعث صلى الله عليه وسلم لأجل القضاء عليها، وعليه فالحديث إنما يدل على التوسل بالدعاء لا بالجاه أو الذات كما يزعمون.
قال شيخ الإسلام: (وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته)(1).
(1) قاعدة جليلة ص 64.
الشبهة الثالثة: ما روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا قال: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب
إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك (1)» وقد استدل به أحمد دحلان، والزهاوي ومن وافقهما على جواز التوسل بكل عبد مؤمن.
يقول أحمد دحلان - بعد أن ساق الحديث-: (فانظر قوله: (بحق السائلين عليك) فإن فيه التوسل بكل عبد مؤمن) (2).
ويقول الزهاوي بعد أن ساق الحديث: (فقد توسل النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "إني أسألك بحق السائلين عليك" بكل عبد مؤمن وأمر أصحابه أن يدعوا بهذا الدعاء فيتوسلوا مثل توسله)(3).
الجواب: يقال لهم:
أولا: الحديث شديد الضعف فلا يحتج به؛ لأنه من طريق فضيل بن مرزوق عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري، وفضيل وعطية كلاهما ضعيف.
فأما فضيل فقد ضعفه أبو حاتم والنسائي والحاكم، وقال ابن
(1) رواه ابن ماجه برقم 778 في المساجد والجماعات، باب المشي إلى الصلاة وأحمد في المسند برقم 11156 وإسناده ضعيف انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة ج 1 ص 34 - 37. ومسند الإمام أحمد ج 17 ص 248 (الحاشية) وجامع الأصول ج 4 ص 318 (الحاشية).
(2)
انظر الدرر السنية ص 6، 7.
(3)
الضياء الشارق ص 532.
حبان: (يخطئ على الثقات ويروي عن عطية الموضوعات)، وقال الرازي: لا يحتج به. .
وأما عطية بن سعد فقال ابن تيمية والذهبي مجمع على ضعفه، وأورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين (1) وقال ابن حجر كان شيعيا مدلسا (2).
وقال ابن حبان: (سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبي فإذا قال الكلبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظ ذلك ورواه عنه وكناه أبا سعيد فيظن أنه أراد (الخدري) وإنما أراد (الكلبي) لا يحل كتب حديثه: إلا على التعجب). (3)
والكلبي: هو محمد بن السائب أحد المعروفين بالكذب في الحديث (4).
(1) قاعدة جليلة ص 107 وديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي ج 2 ص 159 وانظر ميزان الاعتدال ج 5 ص 100، 101.
(2)
تقريب التهذيب ج 2 ص 24.
(3)
الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ج 2 ص 180.
(4)
انظر: صيانة الإنسان ص 106 والتوسل للألباني ص 104.
وعلى هذا فعطية شيعي مدلس مجمع على ضعفه فلا يحتج بروايته.
وقد روي من طريق آخر مع اختلاف يسير في اللفظ، أخرجه أبو بكر بن السني في عمل اليوم والليلة برقم 84 من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال رضي الله عنه (1)، وهو حديث ضعيف أيضا كما قال النووي وابن تيمية (2)؛ ذلك أن في سنده الوازع وهو ضعيف الحديث جدا ليس بشيء كما قال أبو حاتم وأبو زرعة، بل قال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، وكذا قال غيره وقال ابن عدي: عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ.
وقال النووي والهيثمي متفق على ضعفه، وقال أحمد وابن معين ليس بثقة
وعليه فلا يحتج بالحديث على كلا الروايتين.
ثانيا: على فرض صحة الحديث فإنه لا يؤيد مدعاهم، ذلك أنه توسل بحق السائلين وبحق ممشاه إلى المسجد وهو حق العابدين
(1) انظر: عمل اليوم والليلة باب ما يقول إذا خرج إلى الصلاة ص 42 - 43.
(2)
انظر: الأذكار للنووي ص 32 وقاعدة جليلة ص 107.
وحق السائلين أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهما مما جعله على نفسه حقا تكرما وفضلا، قال تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (3)
وفي الصحيح من حديث معاذ: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقهم على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم (4)» فيكون السائل- هنا- قد توسل بالإجابة، والإثابة التي هي من صفات الله الفعلية والتوسل بأسماء الله وصفاته مشروع قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (5).
قال ابن تيمية: (وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد وهو ضعيف بإجماع أهل العلم وقد روي من طريق آخر،
(1) سورة الروم الآية 47
(2)
سورة غافر الآية 60
(3)
سورة الزلزلة الآية 7
(4)
صحيح البخاري الاستئذان (6267)، صحيح مسلم الإيمان (30)، سنن الترمذي الإيمان (2643)، سنن ابن ماجه الزهد (4296)، مسند أحمد (5/ 242).
(5)
سورة الأعراف الآية 180
وهو ضعيف أيضا ولفظه لا حجة فيه فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم) (1)
(1) قاعدة جليلة ص 107، 108.
الشبهة الرابعة: عن أبي أمامة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك (1)» . . . الحديث.
وجه استدلالهم: أنه ورد فيه سؤال بحق السائلين- فدل على جواز السؤال بكل عبد مؤمن- كالحديث السابق.
الجواب: يقال لهم هذا الحديث لا يحتج به لضعفه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني - وفيه فضالة بن جبير، ضعيف مجمع على ضعفه)(2)، وقال ابن عدي:(ولفضاله عن أبي أمامة قدر عشرة أحاديث كلها غير محفوظة)(3)، وروى الكناني عن
(1) رواه الطبراني المعجم الكبير 8 ص 316، 317.
(2)
مجمع الزوائد ج 10 ص 120.
(3)
الكامل لابن عدي ج 6 ص 21.
أبى حاتم الرازي قال: "ضعيف الحديث"(1) وقال ابن حبان: (لا يحل الاحتجاج به بحال: يروي أحاديث لا أصل لها)(2).
وقال الألباني: (الحديث شديد الضعف فلا يجوز الاستشهاد به)(3).
وعلى هذا فالحديث شديد الضعف فلا يحتج به، ولو فرض صحته فإن قوله:"وبحق السائلين عليك" إنما هو سؤال بالإجابة، وهي من صفات الله الفعلية. والتوسل بصفات الله مشروع (4). وعليه فلا دلالة الحديث على شيء من التوسل الممنوع.
(1) صيانة الإنسان ص 130
(2)
صيانة الإنسان ص 130.
(3)
التوسل للألباني ص 110.
(4)
انظر: كشف غياهب الظلام ص 263 وسلسلة الأحاديث الضعيفة ج 1 ص 46.
الشبهة الخامسة: عن أنس بن مالك قال: «لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري يحفرون قبرها، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: " الحمد لله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها وأوسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي،
فإنك أرحم الراحمين». . . الحديث) رواه الطبراني (1)
وممن استدل به أحمد دحلان (2) والزهاوي (3) والعظمي (4) وموسى محمد علي (5)
وجه الاستدلال: قالوا ورد في الحديث " وأوسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي. . . " وفي ذلك توسل بذاته وبإخوانه النبيين (6).
يقول موسى محمد علي: (ففي هذا الحديث توسله عليه الصلاة والسلام إلى ربه بذاته وبإخوانه من النبيين)(7).
الجواب: يقال لهم الحديث غير صحيح (8) لأن في سنده روح بن صلاح وقد تفرد به كما قال أبو نعيم (9) واتفقت عبارات كثير من أئمة الجرح على تضعيف روح.
(1) في المعجم الكبير ج 24 ص 351، 352 برقم 871 والأوسط ج 1 ص 152، 153 برقم 191.
(2)
انظر: الدرر السنية ص 7.
(3)
انظر: الضياء الشارق ص 535.
(4)
انظر: كشف غياهب الظلام ص 267.
(5)
انظر حقيقة التوسل والوسيلة ص 49.
(6)
انظر: الدرر السنية ص 7 وحقيقة التوسل والوسيلة ص 49.
(7)
حقيقة التوسل والتوسل ص 49.
(8)
انظر: التوصل ص 235.
(9)
حلية الأولياء ج 3 ص 121.
يقول ابن عدي: (روح بن صلاح ضعيف) وقال الدارقطني: ضعيف في الحديث، وقال ابن ماكولا (ضعفوه)، وقال أبو يونس: رويت عنه مناكير، وقال ابن عدي بعد أن خرج له حديثين " ولروح أحاديث ليست بالكثيرة وفي بعض حديثه نكرة"(1). وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين (2)
وقال الشيخ الألباني بعد أن ذكر كلام بعض الأئمة فيه: (فأنت ترى أئمة الجرح قد اتفقت عباراتهم على تضعيف هذا الرجل وبينوا أن السبب روايته المناكير فمثله إذا انفرد بالحديث يكون منكرا لا يحتج به)(3)
وقال الشيخ عبد الرحمن الدوسري: (هذا الحديث لا يصح دراية فإن صيغة متنه وركاكة ألفاظه وما فيه من المبالغة مما يدل على عدم ثبوته، زيادة على غرابته وما في سنده من الضعف الذي تكلم عليه المؤلف)(4)
مما ذكر اتضح أن الحديث لا يصح دراية ولا رواية وإنما هو
(1) انظر الكامل لابن عدي ج 3 ص 146 ولسان الميزان ج 2 ص 573، 574.
(2)
الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ج1 ص 287.
(3)
سلسلة الأحاديث الضعيفة ج 1 ص 33 وانظر التوسل للألباني ص 111.
(4)
انظر: صيانة الإنسان ص 129 " المتن والحاشية".
منكر لا يحتج به والله أعلم.
الشبهة السادسة: عن عمر بن الخطاب مرفوعا: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك (2)» أخرجه الحاكم.
يقول أحمد دحلان: (وقد توسل به صلى الله عليه وسلم أبوه آدم عليه السلام قبل وجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها)(3) ثم ساق الحديث.
الجواب: يقال لهم:
أولا: الحديث موضوع كما قال الذهبي (4) وغيره فلا تقوم به حجة.
(1) المستدرك ج 2 ص 615.
(2)
كذا في المستدرك، وفي شفاء السقام: وإذ سألتني بحقه. (1)
(3)
الدرر السنية ص 9.
(4)
التلخيص للذهبي (حاشية المستدرك ج 2 ص 615).
يقول الذهبي: (عبد الله بن مسلم أبو الحارث الفهري روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبرا باطلا فيه «يا آدم لولا محمد ما خلقتك» (1)، وكذا قال الحافظ ابن حجر في اللسان (2)
وقال البيهقي: (إنه تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو متهم بالوضع رماه بذلك الحاكم)(3) ولا نغتر برواية الحاكم لهذا الحديث فإنه مما أنكره عليه العلماء وعدوه تناقضا منه.
يقول ابن تيمية: ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه فإنه نفسه قد قال في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.
قلت (4): وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرا ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم، وقال أبو حاتم بن حبان: كان
(1) ميزان الاعتدال ج 4 ص 199.
(2)
ج 3 ص 442.
(3)
التوسل للألباني ص 117.
(4)
ابن تيمية.
يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته، فاستحق الترك، وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا ما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. (1)
ومما يؤكد بطلان هذا الحديث أنه يخالف كتاب الله في موضعين:
الأول: أنه تضمن أن الله غفر لآدم بسبب توسله بمحمد صلى الله عليه وسلم، والله يقول:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)
وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن ابن عباس بما يخالف هذا الحديث، فقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (3) قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسبق إلي رحمتك قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم، قال:
(1) قاعدة جليلة ص 85.
(2)
سورة البقرة الآية 37
(3)
سورة البقرة الآية 37
فهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (1)
وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي (2).
وأخرج الثعلبي، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (3) قال: قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4)
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله، وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك مثله، وأخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة وابن زيد مثله، وبهذا قال كثير من المفسرين كابن جرير، وابن سعدي، والسيد محمد رشيد رضا، وأبي بكر الجزائري
ويؤيده قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5)
(1) سورة البقرة الآية 37
(2)
المستدرك ج 2 ص 545 والتلخيص للذهبي ج 2 ص 545.
(3)
سورة البقرة الآية 37
(4)
سورة الأعراف الآية 23
(5)
سورة الأعراف الآية 23
ولا منافاة بين القولين بل أحدهما يتمم الآخر ذلك أنها كلها من الكلمات.
يقول ابن جرير: (حدثني المثنى قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (1) قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب أرأيت إن تبت وأصلحت، فقال الله: إذا أرجعك إلى الجنة، فهي من الكلمات ومن الكلمات أيضا {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2)(3)
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن قتادة في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (4) قال: (ذكر لنا أنه قال: يا رب أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال: فإني إذن أرجعك إلى الجنة. {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5)
وبذلك ثبتت مخالفة هذا الحديث للقرآن، فتأكد بطلانه.
الثاني: كذلك مما يؤكد بطلانه قوله في آخره «ولولا محمد ما خلقتك» والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (6) فالآية تفيد أن الحكمة من الخلق إنما هي عبادة الله وحده لا شريك
(1) سورة البقرة الآية 37
(2)
سورة الأعراف الآية 23
(3)
تفسير ابن جرير ج 1 ص 193 وانظر: تفسير ابن كثير ج 1 ص 81.
(4)
سورة البقرة الآية 37
(5)
سورة الأعراف الآية 23
(6)
سورة الذاريات الآية 56
له، لا من أجل ملك مقرب ولا نبي مرسل (1).
ثانيا: على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط -كما يزعم بعض المخالفين- فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه؛ لأنه على قولهم عبادة مشروعة وأقل أحوال العبادة أن تكون مستحبة والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة، فإذا كان الحديث عندهم ضعيفا فلا حجة فيه البتة (2).
وبذلك اتضح بطلان هذه الشبهة.
(1) انظر: التوسل للألباني ص 125 - 127.
(2)
التوسل للألباني ص 127، 128، وصيانة الإنسان ص 135 - 142.
الشبهة السابعة: عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين، وفي رواية يستنصر بصعاليك المسلمين (1)» .
يقول عبد الله الحسيني: (الدليل العاشر من أدلة التوسل بسيد الأنبياء وبغيره من الأولياء والصالحين) ثم ذكر الحديث (2).
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ج 1 ص 292، برقم 857، 858 وفي رواية من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب عن أمية بن عبد الله بن خالد قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ج 1 ص 292 برقم 859.
(2)
إتحاف الأذكياء ص 28.
الجواب: يقال لهم أولا: الحديث مرسل ضعيف، ذلك أن مداره على أمية بن عبد الله بن خالد مرفوعا، وأمية لم تثبت له صحبة (1).
يقول ابن عبد البر في الاستيعاب (2) بعد أن ذكر روايته لهذا الحديث- قال: (لا تصح عندي صحبته والحديث مرسل)، وقال الحافظ في الإصابة (3):(وأمية هذا ليست له صحبة ولا رؤية)، وقال ابن حبان:(يروي المراسيل، ومن زعم أن له صحبة فقد وهم)(4)، وقال البغوي:(أمية بن خالد لا أرى له صحبة)(5).
كما أن في سنده -في كلا الروايتين- أبا إسحاق. وفيه علة العنعنة (6).
قال الألباني بعد أن ذكر هاتين العلتين: (فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة)(7).
ثانيا: على فرض صحة الحديث فإنه لا يدل إلا على التوسل بدعاء الصالح الحي وهو مشروع.
يقول المناوي في فيض القدير: (كان يستفتح) أي يفتتح
(1) التوسل للألباني ص 113.
(2)
ج 1 ص 38.
(3)
ج 1 ص 133.
(4)
الإصابة ج1 ص 132.
(5)
الإصابة ج1 ص 132.
(6)
التوسل للألباني ص 114.
(7)
التوسل للألباني ص 114.
القتال، (ويستنصر) أي يطلب النصرة (بصعاليك المسلمين) أي بدعاء فقرائهم) (1)
ويقول الألباني بعد أن ذكر كلام المناوي: (وقد جاء هذا التفسير من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم (2)» (3) فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين لا بذواتهم وجاههم، ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع بلفظ:(كان يستفتح ويستنصر .... ) وبهذا يكون هذا الحديث إن صح دليلا على التوسل المشروع وحجة على التوسل المبتدع) (4).
(1) فيض القدير ج 5 ص 279.
(2)
صحيح البخاري الجهاد والسير (2896)، سنن النسائي الجهاد (3178)، مسند أحمد (1/ 173).
(3)
أخرجه النسائي في الجهاد باب الاستنصار بالضعيف وانظر جامع الأصول حديث 2781.
(4)
التوسل للألباني ص 114، 115.
الشبهة الثامنة: يقول أحمد دحلان - وهو يتكلم عن التوسل بالذات: (ويؤيد ذلك أيضا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «حياتي خير لكم تحدثون وأحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ما رأيت من خير حمدت الله تعالى وما رأيت من شر استغفرت لكم» (1).
(1) أخرجه ابن سعد عن القطان عن بكر بن عبد الله مرسلا. طبقات ابن سعد 2 ص 194.
ويقول عبد الله محمد الحسيني: (وهذا الحديث يدل دلالة صريحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأمته بعد انتقاله باستغفاره لهم، وعلى هذا يجوز التوسل به لأنه استشفاع). (1)
الجواب: يقال لهم:
أولا: الحديث ضعيف بجميع طرقه، فالحكم عليه بالصحة غير صحيح.
يقول الألباني: بعد أن ساق كلام العلماء في هذا الحديث: (وجملة القول أن الحديث ضعيف بجميع طرقه، وخيرها حديث بكر بن عبد الله المزني وهو مرسل وهو من أقسام الحديث الضعيف عند المحدثين، ثم حديث ابن مسعود وهو خطأ، وشرها حديث أنس بطريقيه)(2).
وقال ابن عبد الهادي الحنبلي في معرض رده على من استدل بهذا الحديث قال: (هذا خبر مرسل)(3).
وقال محمد بشير: بعد أن ذكر كلام ابن عبد الهادي في هذا الحديث- قال: (فالحكم عليه بالصحة غير صحيح)(4).
(1) إتحاف الأذكياء ص 24، 25.
(2)
انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ج 2 ص 404 - 406.
(3)
انظر: صيانة الإنسان ص 258، 259.
(4)
انظر: صيانة الإنسان ص 258، 259.
ثانيا: أن الحديث معارض (1) بحديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان أنه صلى الله عليه وسلم قال: «"ليردن على حوضي أقوام، ثم يختلفون فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (2)» أخرجه البخاري ومسلم.
والشاهد من هذا الحديث قوله: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (3)» والحديث الضعيف يقول: «تعرض علي أعمالكم» أي هو صلى الله عليه وسلم يعلم ما عليه أصحابه وغيرهم من أمته من خير أو شر، فإما أن نقول: السنة متناقضة وهذا لا يقول به مسلم، أو نقول الحديث الضعيف غير صحيح كما قال الأئمة وبذلك يزول الإشكال ويتضح بطلان هذه الشبهة.
(1) انظر: القول الجلي ص 45.
(2)
صحيح البخاري الرقاق (6576)، صحيح مسلم الفضائل (2297)، مسند أحمد (5/ 393).
(3)
صحيح البخاري الرقاق (6576)، صحيح مسلم الفضائل (2297)، مسند أحمد (5/ 393).
الشبهة التاسعة: يقول أحمد دحلان: (ومن أدلة جواز التوسل قصة سواد بن قارب رضي الله عنه التي رواها الطبراني في الكبير (1)، وفيها أن سواد بن قارب أنشد رسول الله صلى الله عليه
(1) المعجم الكبير للطبراني ج 7 ص 111.
وسلم قصيدته التي فيها التوسل ولم ينكر عليه. ومنها قوله.
وأشهد أن الله لا رب غيره
…
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة
…
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل
…
وإن كان فيما فيه شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة
…
سواك بمغن عن سواد بن قارب
فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (أدنى المرسلين وسيلة) ولا قوله: (وكن لي شفيعا)(1)
الجواب: يقال لهم:
أولا: أن الروايات التي ورد فيها الحديث كلها ضعيفة واهية، وفي المتن: اضطراب، وإذا كان كذلك لم تقم به حجة.
يقول ابن حجر الهيثمي: بعد أن أورد الحديث بروايتين: (وكلا الإسنادين ضعيف)(2)، وقال محمد بشير بعد أن ذكر كلام الهيثمي:(قد ثبت منه أن كلا الإسنادين ضعيف، وفي المتن اضطراب فتنبه)(3)، وقال الرفاعي:(كما ثبت أن كافة طرقه وروياته التي ورد فيها ضعيفة واهية)(4).
(1) الدرر السنية ص 27.
(2)
مجمع الزوائد ج 8 ص 253.
(3)
صيانة الإنسان ص 287.
(4)
التوصل ص 308.
ثانيا: على فرض صحة الحديث فإنه لا يدل على جواز التوسل بالذات، إذ ليس في الأبيات التي وردت في الحديث أي معنى من معاني التوسل بالذات كما زعم ابن دحلان، بل كل ما تدل عليه أن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم هي أعظم أعمال المرسلين فصار بذلك أدناهم وأقربهم إلى الله تعالى كما في البيت الثاني كما تدل على أن سواد بن قارب يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ويرجوه أن يدعو الله تعالى أن يكون له شفيعا يوم القيامة كما في البيت الرابع، وهذا الخطاب في حياته وطلب الشفاعة منه حال حياته جائز؛ لأنه طلب لدعائه صلى الله عليه وسلم أن يكون سواد في جملة من يشفعه الله بهم يوم القيامة وهي من التوسل بدعاء الصالح الحي (1).
قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ: (وقول سواد بن قارب هذا من جنس طلب دعائه صلى الله عليه وسلم في حياته)(2)، وبذلك يتضح بطلان استدلالهم بهذا الحديث على التوسل بالذات أو غيره من التوسل الممنوع. والله أعلم.
(1) انظر: صيانة الإنسان ص 287 - 289 والتوصل ص 307.
(2)
مصباح الظلام ص 205.
الشبهة العاشرة: ما روي عن عبد الملك بن هارون بن عنترة
عن أبيه عن جده أن «أبا بكر الصديق أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أتعلم القرآن ويتفلت مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل: اللهم إني أسألك بمحمد نبيك، وبإبراهيم خليلك، وبموسى نجيك، وبعيسى روحك وبتوراة موسى وإنجيل عيسى، وزبور داود، وفرقان محمد، وبكل وحي أو حيته وقضاء قضيته» . . . الحديث " (1)
الجواب: يقال لهم الحديث غير صحيح وإنما هو مكذوب، يقول ابن تيمية: "وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدري في جامعه، ونقله ابن الأثير في جامع الأصول (2)، ولم يعزه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكن قد رواه من صنف في عمل اليوم والليلة كابن السني، وأبي نعيم، وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء، وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال، وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة موضوعة، ورواه أبو موسى المديني من حديث زيد بن الحباب عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، وقال: ليس بالمتصل، يريد أنه لو كان رجاله ثقات فإن
(1) روى هذه الشبهة عنهم شيخ الإسلام، انظر: قاعدة جليلة ص 83.
(2)
ج4 ص302 برقم 2302.
إسناده منقطع) (1).
ثم قال ابن تيمية: (عبد الملك بن هارون بن عنترة من المعروفين بالكذب)(2).
وقال يحيى بن معين: كذاب، وقال السعدي: دجال كذاب، وقال أبو حاتم ابن حبان: يضع الحديث، وقال النسائي متروك الحديث، وقال البخاري منكر الحديث، وقال ابن عدي: له أحاديث لا يتابعه عليها أحد، وقال الحاكم في كتاب المدخل: عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث.
وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في اللآليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، وقال: عبد الملك دجال مع ما في السند من الإعضال (3) وعلى هذا فالحديث رجاله ليسوا ثقات، ولو فرض أنهم
(1) قاعدة جليلة ص 83، 84.
(2)
قاعدة جليلة ص 84.
(3)
اللآليء المصنوعة ج 2 ص 57 س.
ثقات فإنه منقطع كما قال أبو موسى المديني وعليه فلا يحتج به. والله أعلم.
الشبهة الحادية عشر: ما ذكره موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير بإسناده عن ابن عباس مرفوعا أنه قال: «من سره أن يوعيه الله حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف أو في صحف قوارير بعسل وزعفران وماء مطر وليشربه على الريق وليصم ثلاثة أيام وليكن إفطاره عليه ويدعو به في أدبار صلواته: اللهم إني أسألك بأنك مسئول لم يسأل مثلك ولا يسأل، وأسألك بحق محمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك (1)» وذكر تمام الدعاء.
الجواب: يقال لهم هذا الحديث مكذوب فلا يحتج به.
يقول ابن تيمية: (وموسى بن عبد الرحمن هذا من الكذابين)، وقال ابن عدي فيه: منكر الحديث. وقال أبو حاتم ابن حبان: دجال يضع الحديث، وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتابا في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل، وقال الذهبي ليس بثقة (2).
(1) روى هذه الشبهة عنهم شيخ الإسلام، انظر: قاعدة جليلة صر 87، 88.
(2)
انظر: قاعدة جليلة ص 88، وميزان الاعتدال ج 6 ص 549.
ومما يؤكد أن الحديث مكذوب تضمنه بعض الكلمات التي لا تبدو إلا من كافر، مثل قوله:". . لم يسأل مثلك ولا يسأل". فقوله "مثلك" يؤكد وضع الحديث وأن واضعه كافر ماكر خبيث من هو هذا المثيل لله الذي لم يسأل ولا يسأل؟ (1)، لذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، والسيوطي في اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة.
(1) انظر التوصل ص 321.
الشبهة الثانية عشر: ما يرويه بعض الجهال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» . وبعضهم يرويه بلفظ: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» .
أورد هذه الشبهة محمد التيجاني والسمنهودي مستدلين بها
على مشروعية التوسل بالجاه
وجه استدلالهم: قالوا في الحديث أمر بالتوسل بالجاه فهو إذا مشروع.
الجواب: يقال هذا الحديث كذب لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة (1).
قال شيخ الإسلام: (وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث. مع أن جاهه عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالق سبحانه ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب، والله سبحانه وتعالى: لا شريك له، كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (2){وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (3).
(1) انظر: قاعدة جليلة ص 129 وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ج ص 30 والأسنة الحداد ص 232.
(2)
سورة سبأ الآية 22
(3)
سورة سبأ الآية 23
وقال الشيخ الألباني: (هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة، إلى أن قال: فلا يلزم إذا من كون جاهه صلى الله عليه وسلم عند ربه عظيما أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه وسلم (1) وقال العلامة الألوسي: (وما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم»، لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث)(2).
مما ذكرنا اتضح أن الحديث باطل لا أصل له. لكن لا يلزم من بطلانه نفي الجاه عنه صلى الله عليه وسلم بل نقول إن جاهه أعظم من جاه جميع الأنبياء إلا أنه لا يلزم من ذلك أن نتوسل به؛ لأن التوسل أمر توقيفي ولم نقف على نص من الكتاب أو صحيح السنة يثبت (3) ذلك والله أعلم.
(1) التوسل للألباني ص 128، 129 وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة له ص 30.
(2)
روح المعاني 6 ص 127.
(3)
انظر قاعدة جليلة ص 29 والتوسل للألباني ص 129.
الشبهة الثالثة عشر: حديث: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستعينوا بأهل القبور (1)» .
(1) روى هذه الشبهة عنهم شيخ الإسلام، انظر قاعدة جليلة ص 152 والفتاوى ج11 ص 293.
الجواب: يقال لهم هذا الحديث مكذوب باتفاق العلماء فلا يحتج به.
قال شيخ الإسلام بعد ذكر هذا الحديث: (فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة)(1).
وقال أيضا: (وما يرويه بعض الناس من أنه قال: «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور» أو نحو هذا. فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء)(2).
وقال ابن القيم: وهو يعد الأمور التي أوقعت عباد القبور في الافتتان بها، ومنها أحاديث مكذوبة وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور (3)» .
ومما يؤكد أنه مكذوب ما يلي:
أولا: أن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها عن الصلاة عند القبور إنما هي لئلا تكون ذريعة إلى نوع من الشرك ومن
(1) قاعدة جليلة ص 152.
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم ص 337.
(3)
إغاثة اللهفان ج1 ص 233.
المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة فيدعو لاستجلاب خير أو دفع شر حاله في الافتتان بالقبور إذا رجا الإجابة عندها أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية.
فإذا كانت العلة التي لأجلها نهي عن الصلاة عندها متحققة في حال من يتوسل بها كان نهيهم عن ذلك أوكد (1). وعليه فكل أمر يناقض هذا النهي فهو مكذوب.
ثانيا: أن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة رجاء أكثر من رجاء الإجابة في غير ذلك الموطن أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين، وقد أجدب الصحابة مرات ومع ذلك لم يستسقوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن الحديث مكذوب (2).
ثالثا: أن الحديث يتعارض مع النقل الصريح، قال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3){إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4)
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 337، 338 (بتصرف).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم ص 338. (بتصرف) وإغاثة اللهفان ج 1 ص 223".
(3)
سورة فاطر الآية 13
(4)
سورة فاطر الآية 14
وقال صلى الله عليه وسلم: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" "يحذر ما صنعوا (1)» . (2).
وما يتعارض مع الكتاب أو السنة الصحيحة فهو مكذوب.
(1) صحيح البخاري الصلاة (436)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531)، سنن النسائي المساجد (703)، مسند أحمد (6/ 274)، سنن الدارمي الصلاة (1403).
(2)
رواه البخاري ومسلم انظر جامع الأصول حديث 3670
الشبهة الرابعة عشر: وهى استدلالهم بآثار وحكايات ضعيفة أو موضوعة وهي مهما كثرت أو صح شيء منها فلا دلالة فيها على جواز التوسل بالجاه أو الذات أو غيرهما من التوسل الممنوع، ذلك أن العقيدة الإسلامية توقيفية على الكتاب وصحيح السنة وما سواهما إن وافق الكتاب والسنة الصحيحة أخذ به مؤيدا وليس دليلا وإن خالفهما أو أحدهما فهو مردود، ونذكر شيئا منها مع بيان درجتها من الصحة والضعف وهل فيها دلالة على ما يزعمونه أم لا؟
الأثر الأول: قال ابن حجر: (وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري وكان خازن عمر قال: (أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام، فقيل له: ائت عمر. . . " الحديث.
وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأي المنام المذكور هو
بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة). (1) وممن استدل به السبكي وأحمد بن دحلان، والزهاوي، ومحمد الفقي، ومحل استدلالهم طلبه الاستسقاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. (2).
الجواب: يقال لهم:
أولا: عدم التسليم بصحة هذه القصة؛ لأن مالكا الداري غير معروف العدالة والضبط وهما شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح ولا ينافي هذا قول الحافظ بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان؛ لأن التصحيح ليس نصا في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لقال عن مالك الداري وإسناده صحيح وعليه فالأثر ضعيف لجهالة مالك فلا يحتج به.
ثانيا: على فرض أن القصة صحيحة فلا حجة فيها لأن مدارها على رجل لم يسم كما أن فيها مخالفة للسنة من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، ولأن عمل الصحابة على خلافها وهم أعلم الناس بعد رسول الله بالشرع ولذا لم ينقل عن أحد منهم أنه أتى إلى قبره صلى الله عليه وسلم
(1) فتح الباري ج 2 ص 495، 496
(2)
انظر: شفاء السقام ص 145 والدرر السنية ص9 والضياء الشارق ص 546، والتوسل محمد الفقي ص 154.
يسأله السقيا ولا غيرها، ولو كان مشروعا لفعلوه ولو مرة واحدة بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الاستسقاء بالعباس ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل ذلك على أن ما فعله عمر هو الحق وأن ما فعله هذا الرجل لو قدر أنه صحيح منكر ووسيلة إلى الشرك.
وأما تسمية السائل في رواية سيف المذكورة (بلال بن الحارث) فمردودة أيضا؛ لأن سيفا هذا هو ابن عمر التميمي متفق على ضعفه عند المحدثين بل قال ابن حبان فيه: (يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث) ومن كانت هذه حاله فلا تقبل روايته لا سيما عند المخالفة. .
الأثر الثاني: قال أحمد دحلان: (ذكر السمهودي في خلاصة الوفاء أن من الأدلة الدالة على صحة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ما رواه الدارمي في سننه عن أبي الجوزاء قال: " قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف فعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم
فسمي عام الفتق". (1). (2). كما استدل به محمد الفقي. (3). وعبد الله الحسيني. (4).
الجواب: يقال لهم: أولا: هذا الأثر غير صحيح فلا تقوم به حجة لما يلي:
أ- أن في سنده أبا النعمان- محمد بن الفضل- يعرف بعارم - اختلط في آخر عمره قال الذهبي: تغير قبل موته وترك الأخذ منه، وقال البخاري: تغير في آخر عمره، والحكم فيمن اختلط: أن لا يقبل حديث من أخذ منه بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ منه قبل الاختلاط أو بعده؟ وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أم بعده؟ فهو إذا غير مقبول.
ب- في سنده سعيد بن زيد - فيه ضعف- قال الذهبي: قال: يحيى بن سعيد ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره ليس بالقوي.
ج- في سنده عمرو بن مالك النكري قال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام.
(1) سنن الدارمي ج 1 ص 43 عن أبي النعمان- عن سعيد بن زيد عن عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء
(2)
الدرر السنية ص 20
(3)
انظر: التوسل محمد الفقي ص 155
(4)
انظر: إتحاف الأذكياء ص 35.
د- في سنده أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال الحافظ في التقريب: يرسل كثيرا، وقال البخاري: في إسناده نظر. (1).
وقال محمد بشير بعد أن تكلم في سند هذا الأثر: (فقد ثبت من هناك أن هذا الحديث ضعيف منقطع). (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، وإنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة). (3).
ثانيا: على فرض أنه صحيح فإنه موقوف على عائشة - فلا يحتج به عند المحققين؛ لأنه يصبح من الآراء الاجتهادية التي يخطئ أصحابها ويصيبون، والعقيدة توقيفيه لا مجال للاجتهاد فيها إضافة إلى ذلك كله فإنه يعارضه ما روي عن عمر أنه أمر بتعمية قبر دانيال خشية الافتتان به، فقد ذكر محمد بن إسحاق عن خالد بن دينار عن أبي العالية قال: (لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له
(1) انظر: التوسل للألباني ص 140، 141، وصيانة الإنسان ص 253، 254
(2)
صيانة الإنسان ص 254
(3)
تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري ص 68، 69
بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس، لا ينبشونه). (1)
فانظر ما في هذه القصة من صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعمية قبر هذا الرجل لئلا يفتتن به الناس. (2)، هذا يؤكد أنه مستحيل من رجال هذا صنعهم أن يبرزوا قبر رسول الله، أو يرضوا بذلك لأجل نزول المطر كما زعم من نقل هذا الأثر.
الأثر الثالث: خبر مرثية صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول أحمد دحلان: (وكذا من أدلة التوسل مرثية صفية رضي الله عنها عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها رثته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بأبيات فيها: قولها:
ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا
…
وكنت بنا برا ولم تك جافيا
ففيها النداء بعد وفاته مع قولها (أنت رجاؤنا) وسمع تلك المرثية الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر عليها أحد قولها: " يا رسول الله أنت رجاؤنا ". (3)
(1) السير والمغازى ص 66
(2)
انظر: صيانة الإنسان ص 254، 255 والتوسل للألباني ص 141 وإغاثة اللهفان ج 1 ص 222 - 228.
(3)
الدرر السنية ص 27
الجواب: يقال لهم:
أولا: قيل أن هذه القصيدة ليست لصفية رضي الله عنها، يؤيد ذلك أن ابن هشام لم يذكرها في سيرته في جملة المراثي التي قيلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
ثانيا: أن هذا الخبر ذكر في سنده أنه عن عروة بن الزبير قال: قالت. (1) صفية: وفيه انقطاع بين عروة وبين صفية جدته لأبيه فقد ولد عروة سنة 29 هـ كما في التهذيب ونحوه.
ولما كانت المرثية عقب وفاته صلى الله عليه وسلم فتكون ولادته بعد القصيدة بتسعة عشر سنة. وصفية ماتت سنة 20 هـ أي قبل ولادة عروة بتسع سنين، وعليه فإن عروة لم يدرك صفية وروايته عن أبيه الزبير مرسلة، فكيف عن أم أبيه فإنها أيضا منقطعة ومرسلة؟
ثالثا: أن في هذا البيت الذي استشهد به تحريفا عن أصله فقد ذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد. (2) فقال: روى الطبراني بإسناد حسن عن عروة بن الزبير قال: قالت صفية ترثي رسول الله صلى الله
(1) انظر: مجمع الزوائد ج 9 ص 42
(2)
مجمع الزوائد ج 9 ص 42
عليه وسلم:
ألا يا رسول الله كنت رجاؤنا
…
وكنت بنا برا ولم تك جافيا
هكذا رواه الطبراني فحرفه أحمد دحلان فقال: (أنت رجاؤنا) ليدل هذا اللفظ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء في الحياة وبعد الممات.
وإذا ثبت تحريفه بطل الاستدلال به.
أما قول صفية كما رواه الطبراني وهو (كنت رجاؤنا) فهو حجة عليهم، حيث فرقت بين الحياة، وبعد الممات فهو في حياته كانوا يرجعون إليه فيدعو الله لهم، وإنما لجئوا إلى هذا التحريف ليثبتوا باطلهم، وعلى هذا فإن الخبر ضعيف لا تثبت به حجة وعلى فرض صحته فإنه محرف المتن واحتجوا به بعد التحريف.
رابعا: لو قدر أنه صحيح غير محرف فإنه لا دلالة فيه على ما زعموه، ذلك أن المراد من المرثية أنه صلى الله عليه وسلم رجاء بمعنى مرجو في الأمر الذي يقدر عليه في حياته وبعد وفاته فيما ثبت بالكتاب والسنة كونه رجاء فيه.
أما ما ورد في الخبر من النداء فنقول:
أولا: أن (يا) هنا للندبة لا للنداء كقول فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه أجاب ربا دعاه.
ثانيا: لو سلم ثبوت النداء منها فلا يثبت منه مطلوب
الخصم، ذلك أن النزاع إنما هو في نداء يتضمن الدعاء والطلب مثل أن يقال: يا رسول الله اشفني أو يا رسول الله استغفر لي، فالأول: شرك، والثاني: بدعة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ووسيلة إلى الشرك وليس في المرثية دعاء شيء ولا طلبه، وعليه فلا دلالة في هذا في على ما زعموه.
خامسا: إضافة إلى ما ذكرنا كله فإنه لا يصح الاستدلال في أمور العقيدة بمثل كلمة في جملة ينطق بها صحابي أو صحابية لا سيما في الشعر الذي اعتاد أهله المبالغة في المدح والتلهف، فالله لم يتعبد الأمة بغير قوله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. (1).
الرابع: حكاية الإمام مالك مع المنصور في التوسل.
يقول أحمد دحلان: (وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك للخليفة المنصور، وذلك أنه لما حج المنصور وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم سأل الإمام مالكا وهو بالمسجد النبوي فقال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو؟
فقال له الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة بل استقبله
(1) انظر: صيانة الإنسان ص 289 - 298 (المتن والحاشية)، والتوصل ص 330 - 332
واستشفع به فيشفعه الله فيك، قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (1). ذكرها القاضي عياض في الشفا. (2) عن محمد بن حميد (3).
الجواب: يقال لهم هذه الحكاية غير صحيحة (4) عنه- لأمور:
أولا: في الإسناد علل منها:
أ- أنه منقطع إذ أن فيه محمد بن حميد الرازي - لم يدرك مالكا لا سيما في زمن أبي جعفر فإن أبا جعفر توفي سنة 158 هـ، وتوفي مالك سنة 179 هـ، وتوفي محمد بن حميد سنة 248 هـ، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث كذبه أبو زرعة، وابن وارة، وقال صالح محمد الأسدي: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه، وأحذق بالكذب منه. وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن عبد الهادي الحنبلي: (وابن حميد هو محمد بن حميد
(1) سورة النساء الآية 64
(2)
الشفاء ج 2 ص 35 بإسناد غريب منقطع- كما قال شيخ الإسلام- انظر: قاعدة جليلة ص 66، 67
(3)
الدرر السنية ص 9، 10 كما استدل بها محمد الفقي انظر: التوسل له ص 153.
(4)
انظر: قاعدة جليلة ص 70، والصارم المنكي ص 345.
الرازي وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته لم يسمع عن مالك شيئا ولم يلقه بل روايته عنه منقطعة) (1).
ب- أن هذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه ولم تعرف إلا من جهة محمد بن حميد وهو ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته (2).
ج- أن في الإسناد أيضا من لا يعرف حاله كما قال شيخ الإسلام (3).
ثانيا: أن أصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه ذلك أنهم إنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين.
فكيف بمسألة فقهية عقدية تناقض مذهبه المعروف عنه مناقضة صريحة رواها واحد من الخراسانين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث (4).
ثالثا: أن هذه الحكاية مناقضة لمذهب مالك المعروف عنه من
(1) قاعدة جليلة ص 67 والكاشف للذهبي ج 3 ص 32 والصارم المنكي ص 345.
(2)
قاعدة جليلة ص 67.
(3)
قاعدة جليلة ص 67.
(4)
قاعدة جليلة ص 125 (ينصرف) وانظر تقديم المحقق ص 28.
وجوه منها:
الأول: قوله: "ولم تصرف وجهك عنه. . . " فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة التابعين أن الداعي إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في المسجد. قال ابن تيمية: (ومذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإن يستقبل القبلة)(1)، أما عند القبر فيقتصر على السلام، بل كره مالك إطالة القيام لذلك (2).
قال القاضي عياض في المبسوط: عن مالك قال: (لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي)(3).
الثاني: قوله: (استقبله واستشفع به) كذلك مناقض لمذهب مالك وغيره من سلف هذه الأمة مخالف لأقوالهم وأفعالهم؛ إذ لم يقل به أحد من السلف لا مالك ولا غيره ولم يفعلوه، بل كانوا لا يستقبلون القبر للدعاء لأنفسهم فضلا عن أن يستقبلوه ويستشفعوا به ذلك أنه غير مشروع.
(1) قاعدة جليلة ص 150.
(2)
الفتاوى 1 ص 230.
(3)
الفتاوى ج1 ص 230.
ولذا قال شيخ الإسلام في معرض رده على هذه الشبهة: (فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: (استقبله واستشفع به) كذب على مالك مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي يفعلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء) (1).
رابعا: كذلك مما يؤكد عدم صحتها أن ما نسب إلى مالك منها لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سنه لأمته ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل مع علو قدر مالك وتمام رغبته في اتباع السنة (2).
فتبين بما ذكرنا أنها غير صحيحة ولو كانت صحيحة مخالفة للكتاب أو السنة لم يلتفت إليها فكيف وهي مكذوبة.
الخامس: حكاية توسل الشافعي بأبي حنيفة وبأهل البيت، يقول أحمد دحلان:(وقال ابن حجر في كتابه المسمى: (بالخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان) في الفصل الخامس والعشرين أن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة) (3)،
(1) قاعدة جليلة ص 70.
(2)
قاعدة جليلة ص 74، 75. (بتصرف).
(3)
الدرر السنية ص 27، 28، كما أوردها عبد الله الحسيني مستدلا بها في كتابه إتحاف الأذكياء ص 41.
وقال أيضا: وذكر العلامة ابن حجر في كتابه المسمى: (بالصواعق المحرقة لإخوان الضلال والزندقة): أن الإمام الشافعي رحمه الله توسل بأهل البيت النبوي حيث قال:
آل البيت ذريعتي
…
وهم إليه وسيلتي
أرجو بهم أعطى غدا
…
بيدي اليمين صحيفتي (1)
الجواب: يقال لهم:
أولا: لا بد من رفع الحكايتين إلى أصحابها بسند يعتمد عليه، وإلا فهي مجرد دعوى لا قيمة لها (2). لا سيما إذا كان المتهم من أشد العلماء تمسكا بالسنة ومحاربة البدعة.
ثانيا: أن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن بها قبر ينتاب للدعاء البتة بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا، وقد رأى الشافعي بالحجاز والشام والعراق من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة؟ (3)
ثالثا: أن الإمام الشافعي يعلم تمام العلم أنه غير مشروع في
(1) الدرر السنية ص 27، 28، كما أوردها عبد الله الحسيني مستدلا بها في كتابه إتحاف الأذكياء ص 41.
(2)
انظر صيانة لإنسان ص 29.
(3)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 343، 344.
الكتاب والسنة، ولذا ثبت عنه كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها (1)، فكيف يقدم على بدعة لا يقرها هذا مستحيل من مثله، ولذا قال ابن تيمية: بعد أن أورد هذه الحكاية: (وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل)(2). وقال ابن القيم: (والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر)(3).
رابعا: أن الأبيات المذكورة مكذوبة على الإمام الشافعي لخلوها من السند الصحيح كما أشرت إليه آنفا ولمخالفتها لمنهجه رحمه الله، ولو قدر أنها صحيحة فإنها لا تضمن التوسل بالذات؛ إذ معناها: أن حب آل البيت واتباعهم وشفاعتهم والصلاة عليهم ذريعتي ووسيلتي، وكذا قوله:(أرجو بهم) أي أرجو بحبهم واتباعهم وشفاعتهم، مثل قول عمر:(اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) فإن المراد إنا كنا نتوسل إليك بدعاء نبينا (4).
مما ذكرنا اتضح أن هاتين الحكايتين مكذوبتان على الإمام الشافعي رحمه الله،
(1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 343، 344.
(2)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 343.
(3)
إغاثة اللهفان ج1 ص 236.
(4)
انظر: صيانة الإنسان ص 298، 299.