الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفتن والمخرج منها
لمعالي الدكتور/ محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. وبعد:
فإن الله سبحانه يمتحن إيمان عباده، وصدقهم في الثبات على ما يحب، ويذكرهم عن الغفلة بالمصائب والفتن، لينتبهوا لما حصل من تقصير، أو اقترفوا من سيئات، حتى تتحرك القلوب، وتبدأ محاسبة النفس، مع هذا الابتلاء يقول سبحانه:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (1) والفتن والمصائب التي تصيب الفرد، أو يتعدى ضررها للمجتمع، هي محك الإيمان، والبوتقة التي يبرز فيها تطهير القلوب، ليكون من ذلك تحسين الأعمال، إذ لا يجلأ صدأ الفتنة إلا التوبة، فقد تكون المصيبة أو الفتنة للمؤمن وراءها خير أو داعية إلى خير، ودافعة عن شر أكبر حتى يرجع العبد إلى ربه، ويتوب من ذنبه،
(1) سورة الملك الآية 2
فيصلح من عمله ما فسد، وقد تكون للفاسق والكافر، فيما يتعدى للناس خيرا ومكاسب، فيزداد في عمله الذي يبغضه الله استدراجا، ليزداد إثما فوق إثمه جزاء وفاقا، يقول سبحانه:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) كما ابتلي قارون بكثرة المال، ففرح بذلك وازداد غرورا، ولم يشكر نعمة الله عليه، بل قال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (2).
والفتنة قد تكون في النفس، وقد تكون بالمال كثرة أو قلة، وقد تكون بسبب الولد، وقد تكون بأي شأن من شؤون الحياة الإنسانية، سواء كان الإنسان فردا أو مع أسرته، أو جماعة.
ولما كان قد جاء في القول المأثور، عن بعض علماء السلف: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا دفع إلا بتوبة، فإن الفتن للمؤمن امتحان وابتلاء، ومثلها الكوارث والمصائب، يؤجر عليها، وتزيده تمكينا في طاعة الله، وعرفانا بفضله سبحانه، ليحمده عليها ويشكره، على أن أعانه على تحملها، والصبر عليها، كما حصل لأنبياء الله، وحتى يحاسب نفسه، لإدراك المدخل الذي جاءته الفتنة معه، ليعالج نفسه، ويحسن عملها، توبة وإنابة إلى الله، يقول سبحانه:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (3).
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2)
سورة القصص الآية 78
(3)
سورة البقرة الآية 216
ولذا قال عنها بعض العارفين: (إنها محك الإيمان، وتمحيص العمل)، وما ذلك إلا أن الفتن التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في آخر الزمان، يرقق بعضها بعضا، وأعظمها فتنة الدين، التي يوقد جذوتها، ويشعل فتيلها عدو الله إبليس، ويثيرها أعوانه من شياطين الإنس، وأعداء الله ورسالاته:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (1).
وهذه هي التي يحذر الله ورسوله منها، وجاء بها الدعاء المأثور:(ولا تجعل مصيبتنا في ديننا). والفتنة إذا وقعت، اصطلى بنارها الجميع، ويعمهم عقاب الله سبحانه، ويبعثون على نياتهم، ألم يقل سبحانه:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (2) وحذر صلى الله عليه وسلم في قوله الكريم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بين قلوبكم، ثم يلعنكم كما لعن الذين من قبلكم (3)» .
جاء هذا التحذير الشديد من الرسول الكريم صلى الله عليه
(1) سورة الأنعام الآية 112
(2)
سورة الأنفال الآية 25
(3)
رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود: جامع الأصول 1: 327 - 330.
وسلم في تأكيد لدلالة الآية الكريمة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1){كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2).
كما أن الفتنة لغير المؤمنين: إنذار وامتحان، لكي يعودوا إلى دين الله الحق، ومن لم يستفد من أثر الفتنة، فإنما لتقوم عليه الحجة، وحتى يزداد في غوايته بإصراره يقول تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3).
وفي نزول أول آيات سورة العنكبوت يقول سبحانه: {الم} (4){أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (5){وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (6).
قال بعض المفسرين: أمورا متعددة في سبب النزول، منها ما ذكره السيوطي في تفسيره، قال: أخرج ابن ماجه وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق أول من أسلم
(1) سورة المائدة الآية 78
(2)
سورة المائدة الآية 79
(3)
سورة آل عمران الآية 178
(4)
سورة العنكبوت الآية 1
(5)
سورة العنكبوت الآية 2
(6)
سورة العنكبوت الآية 3