الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى غير ذلك من النماذج الرائعة التي يظهر فيها حرص القوم على كل لحظة من لحظات الزمن. ولا غرابة في ذلك، فإنهم ذاقوا طعم القرآن وحلاوته، فحرصوا على وقتهم. فحري بنا أن نقتدي بتلك الكوكبة، ونسير على خطاهم، ونعدهم قدوة لأبناء هذا العصر، الذين شغل الكثير منهم باللهو والترف عن جلائل الأمور، والذين ضيعوا كثيرا من أوقاتهم فيما لا يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالفائدة والخير.
ثالثا: عناية القرآن الكريم بالزمن
عني القرآن الكريم بالزمن عناية فائقة، وجاءت عنايته بالزمن من وجوه، أهمها:
1 -
اعتبار الزمن من النعم العظيمة
يقول الله سبحانه في معرض الامتنان، وبيان عظيم فضله على الإنسان:{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) فالليل والنهار نعمة جليلة أنعم الله تعالى بها على الإنسان، وهي
(1) سورة النحل الآية 12
نعمة ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري، ولا يمكن لنا أن نتصور في هذه الأرض حياة للإنسان لو كانت الدنيا نهارا بلا ليل، أو ليلا بلا نهار.
ويقول سبحانه في موضع آخر، في سياق تعداد نعمه على الإنسان:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (1){وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (2).
فالليل والنهار مسخران "وفق حاجة الإنسان وتركيبة، وما يناسب نشاطه وراحته. ولو كان نهار دائم أو ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان؛ فضلا عن فساد ما حوله كله، وتعذر حياته ونشاطه، وإنتاجه"(3).
2 -
اعتباره من الآيات الدالة على وجود الله.
ومما يدل على أهمية الزمن في القرآن، وعناية القرآن الكريم به، أن الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر من الآيات الدالة على وجوده، فقال في ذلك:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (4) فالليل والنهار آيتان دالتان على وجود
(1) سورة إبراهيم الآية 33
(2)
سورة إبراهيم الآية 34
(3)
قطب، سيد: في ظلال القرآن، ج 4، ص 2108.
(4)
سورة الإسراء الآية 12
الصانع، وعظيم القدرة؛ لأنه لا بد لكل متغير من مغير. وهو سبحانه لم يجعل الليل والنهار على هذه الصورة- بحيث يخلف أحدهما الآخر- عبثا، وإنما جعلهما كذلك لمن أراد أن يتذكر أي "لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل ومغير"(1) كما يلحظ في الآية الكريمة تخصيص الليل والنهار بأنهما آيتان دون غيرهما من الوحدات الزمنية. وفي ذلك لطيفة قرآنية نلمح من خلالها الإشارة إلى أن الليل والنهار هما بمثابة المحور الذي تشد إليه وتقاس بالنسبة له كل الوحدات الزمنية، سواء تلك التي تقل عنه ابتداء من الثانية، أو تلك التي تزيد عنه إلى ما شاء الله تعالى من السنين والقرون، فما الثانية إلا جزء من الليل والنهار، والسنة إلا مجموعة من الأيام، والقرن إلا مجموعة من السنين (2).
3 -
الإشارات القرآنية إلى قيمة الزمن
وفي القرآن الكريم إشارات لطيفة إلى قيمة الزمن وأهميته في حياة الإنسان، وحض على الاستفادة منه بعيدا عن الغفلة
(1) انظر: الزمخشري: الكشاف، ج 3، ص 282.
(2)
انظر: باجودة، حسن: تأملات في سورة الإسراء، ص 84.
والتسويف، وما كلمات "استبقوا" و"سارعوا" ونحوها إلا تأكيد لهذه المعاني.
قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) وأصل السبق: هو التقدم في السير. والمراد منه هنا المعنى المجازي، وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه، خشية هادم اللذات، وفجأة الفوات (2).
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (3) والمسارعة: هي المبادرة أي الحرص والمنافسة في عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة ودخول الجنة، حتى لكان كل واحد من الناس يسرع ليصل قبل غيره (4).
وفي لفظتي "استبقوا" و"سارعوا" ما يشير إلى قيمة الزمن؛ فالعمر قصير، ولا يكفي المؤمن -إذا أراد الدرجات العلى- أن يفعل الخيرات وهو متراخ في ذلك، بل لا بد من الاستباق في الخير والمسارعة إلى المغفرة، بمعنى: أن يستغل كل لحظة من وقته للسير في
(1) سورة البقرة الآية 148
(2)
انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 2، ص 43.
(3)
سورة آل عمران الآية 133
(4)
انظر: ابن عطية: المحرر الوجيز، ج 1، ص 507. ابن عاشور: التحرير والتنوير، 4، ص 88.
الطريق الموصلة إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وكأنه في صراع حقيقي مع الزمن.
4 -
الدعوة إلى استثمار الزمن في الخير
من منهج القرآن الكريم في العناية بالزمن، الدعوة إلى الحرص عليه، والعمل على استثماره والإفادة منه، وتسخيره دائما في الخير، ويبرز القرآن الكريم هذه القضية في صور عديدة ومناسبات شتى.
فحينما يبين أن نهاية هذه الحياة إنما هو الموت سواء طالت أم قصرت، فإنه يوجه نحو استثمار هذه الحياة في الخير؛ لأنها ليست نهاية المطاف، وإنما بعدها حياة أخرى هي خير وأبقى، يقول سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1){وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (2).
وللتدليل على قصر هذه الحياة الدنيا وأهمية استثمارها والإفادة منها، يصورها القرآن الكريم بالنبات الذي يخضر بنزول الغيث، ثم ما يلبث بعد وجيزة من الزمن أن يصفر ويموت. يقول تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (3).
(1) سورة المنافقون الآية 9
(2)
سورة المنافقون الآية 10
(3)
سورة الحديد الآية 20