الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويخطئون أحيانا.
ثانيا: قيمة الزمن
الزمن هو أنفس وأثمن ما يملك الإنسان، فهو الوعاء الحقيقي لكل عمل وإنتاج، وبقدر إفادة الإنسان من هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه، بقدر ما يعود ذلك عليه وعلى مجتمعه بالنفع والخير، سواء أكان ذلك في الدنيا أم في الآخرة؛ ولذلك ينبغي على الإنسان أن يعرف شرف زمنه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة وطاعة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. وما عمر الإنسان في حقيقته إلا مجموعة من الأيام، وكل يوم يمضي من هذه الأيام، وكل لحظة تمر لا يمكن استعادتها أو تعويضها. وفي ذلك يقول الحسن البصري رحمه الله:"يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك"(1). ويقول: "ما من يوم ينشق فجره، إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة"(2). وما أجمل قول الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له
…
إن الحياة دقائق وثواني (3)
(1) انظر الخبر في: الأصفهاني: حلية الأولياء ج 2، ص 148.
(2)
انظر: المرجع السابق، ج 2، ص 147.
(3)
البيت لأحمد شوقي، قاله في رثاء مصطفى كامل. انظر: شوقي، أحمد: الموسوعة الشرقية، ج 5، ص 356.
ومع أن الزمن على هذه الدرجة من الأهمية، إلا أنه ينقضي بسرعة، ويسهل ضياعه، فهو يمر مر السحاب، ويجري جري الريح، سواء أكان زمن مسرة وفرح، أم زمن اكتئاب وترح، وإن كانت أيام السرور تمر أسرع، وأيام الهموم تسير ببطء وتثاقل، لا في الحقيقة ولكن في شعور صاحبها. وفي ذلك يقول الشاعر:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
…
وأراه أسهل ما عليك يضيع
يقول ابن القيم في الحديث عن منزلة الغيرة: "ومنها (1) الغيرة على وقت فات، فإن الوقت أبي الجانب، بطيء الرجوع، فالوقت أعز شيء على العابد، يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك (2)، فإذا فاته الوقت لا يمكن استدراكه البتة؛ لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص
…
فالوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، فطلب الرجعى، فحيل بينه وبن الاسترجاع، وطلب تناول الفائت، وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد (3).
(1) أي من درجات الغيرة.
(2)
أي بدون عبادة.
(3)
ابن القيم: مدارج السالكين، ج 2، ص 840، 841.
وقد كان السلف الصالح، ومن سار على نهجهم من الخلف، أحرص الناس على كسب الزمن، والإفادة منه في الخير، فقد كانوا ينافسون الزمان، يسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، حرصا منهم على الزمن، وعلى ألا يذهب منهم هدرا. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، نذكر فيما يلي بعضا منها:
نقل عن عامر بن عبد قيس أن رجلا قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس (1). يعني أوقف لي الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلمك، فإن الزمن دائب المضي، لا يعود بعد مروره، فخسارته لا يمكن استدراكها؛ لأن لكل زمن ما يملأه من العمل. وكان الواحد منهم يحفظ كل لحظة من زمنه حتى في حال النزاع. نقل في ذلك عن ثابت البناني أنه قال: ذهبت ألقن أبي، فقال: يا بني دعني، فإني في وردي السادس (2). كما يروي الفقيه أبو الحسن الولوالجي، أنه دخل على أبي الريحان البيروني، وقد حشرج نفسه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوما حساب الجدات الفاسدات فقلت له إشفاقا عليه: أفي هذه
(1) انظر الخبر في: ابن الجوزى: صيد الخاطر، ص 18.
(2)
انظر الخبر في: أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج 2، ص 322.
الحالة؟ قال لي: يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أخليها وأنا جاهل بها فأعدت ذلك عليه، فحفظ، وعلمني ما وعد، وخرجت من عنده، وبينما أنا في الطريق سمعت الصراخ عليه (1).
ولقد كان أمثال هؤلاء يحسنون المحافظة على كل لحظة من وقتهم، حتى أن أحدهم كان يستحي من سواد الليل وظلمته، إذا مرت عليه ليال وأيام لم يقم فيها لله ركعتين. وفي ذلك يقول الفضيل بن عياض رحمه الله:"أدركت أقواما يستحون من الله في سواد الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي خذي حظك من الآخرة "(2).
وهاهو الإمام ابن الجوزي رحمه الله يصف لنا حال الناس كيف يضيعون أزمانهم في الزيارات والحديث الذي لا طائل من ورائه، ويبين لنا كيف كان يصنع إذا زاره بعض البطالين لئلا يذهب الزمن فارغا دون فائدة ترجى، فيقول رحمه الله:
"لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطيلون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، ويتخلله غيبة. وهذا شيء
(1) انظر القصة في: الحموي، ياقوت: معجم الأدباء، ج 5، ص (123، 124).
(2)
ابن الجوزي: صفة الصفوة، ج 2، ص 241.
يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصا في أيام التهاني والأعياد، فنراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم، وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم، ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغا. فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد (1)، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي. (2) وإذا علمنا أن ذلك مبلغ حرصه على الزمن، والإفادة من كل جزء منه في القراءة والتصنيف، لم نستغرب قوله: "وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز .. ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد
(1) الكاغد: هو القرطاس أو الورق. انظر: الفيروز آبادي: القاموس المحيط، ج 1، ص 333.
(2)
ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص 184، 185.
كان أكثر، وأنا بعد في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد (1).
وهناك من الخلف من سار على نهج السلف القويم وأدرك قيمة الزمن الذي يعيشه. فها هو الإمام حسن البنا رحمه الله يدرك قيمة الزمن، ويستغرب من أناس يضيعون أوقاتهم دونما فائدة ترجى، وفي ذلك يقول:
"ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء. وكم كنا نعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة والخليون هاجعون يتسكعون بين المقاهي ويترددون على أندية الفساد والإتلاف. فإذا سألت أحدهم عما يحمله على هذه الجلسة الفارغة المملة، قال لك: أقتل الوقت، وما درى هذا المسكين أن من يقتل وقته إنما يقتل نفسه، فإنما الوقت هو الحياة "(2).
(1) المرجع السابق، ص 337، 338.
(2)
البنا، حسن: مجموعة الرسائل، ص 169.