الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- وأخذوا من النصارى والهنود الحلول والتناسخ. .
وغيرها من العقائد التي أفسدت عليهم دينهم، ولا أخص بذلك غلاة الشيعة بل كل من أتى بفكر غال، كالمعتزلة غلاة القدرية والحلولية والاتحادية والباطنية وعموم الزنادقة قبحهم الله.
ثالثا: أسباب نشأة الغلو في الدين
يتحصل من دراستي للفرق الغالية خاصة، ونشأة الغلو والشرك بين الموحدين، أن الشيطان تمكن من قلوب أولئك وعقولهم وأفسدها كما أراد، وسلك معهم الأساليب المختلفة، وهذا مسلكه مع عباد الله {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (1).
(1) سورة الحشر الآية 16
فهو يظلمهم ويتبرأ منهم، ويكون قوله يوم القيامة، كما قصه الله علينا في سورة إبراهيم:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
وسأحاول هنا تعداد الأسباب التي أدت بأقوام أو أفراد إلى الانحراف عن المنهج الوسط القويم إلى الغلو والضلال، فمن هذه الأسباب:
أ- الجهل بأحكام الشرائع السماوية وقلة البصيرة فيها أو مخالفتها ولو بمقصد شرعي ابتداء كما حصل لقوم نوح عليه السلام، وهذا يؤدي إما على فهم زائد عن الواجب وهو الغلو والإفراط، أو عكسه تفريط وغلو فيه عن الواجب.
ولا بد من التنبه إلى أنه لا يكفي حسن المقصد لتبرير تصويب الوسيلة أو التغافل عنها البتة.
2 -
دخول كثير من أهل الأديان السابقة الإسلام بقصد
(1) سورة إبراهيم الآية 22
الكيد له، وإفساده- كما يدعون أنه أفسد عليهم دينهم بفتح بلدانهم ونشر الإسلام فيها- فكان هذا من المنافقين والزنادقة أقوى وسيلة لتقويض دعائم الدين وتهوين أصوله ببث العقائد المغرضة فيه، وتأمل النقل السابق عن الباقلاني في فضائح الباطنية، وكيدهم للإسلام، واتخاذهم الرافضة مطية لذلك.
كذلك ما سبق هذا من حنق اليهود وغيرهم من المجوس والنصارى على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، كما هو معروف في سيرتهم بالمدينة والجزيرة.
3 -
الاعتماد على مصادر مغايرة لمصادر الشريعة الإسلامية في التحاكم إليها كالعقول المجردة الفاسدة والمناطق والفلسفات الكلامية العقيمة التي نزع ما فيها من خير واعتبر بحال المعطلة وغلاتهم وأمثالهم.
4 -
التعصب الأعمى، والتقوقع على المعتقد القديم، تعصبا يكون معه رد ما عند المخالف ولو كان حقا، بل وطرح الأدلة القطعية وعدم الاعتداد بها- وهي أدلة الكتاب والسنة- أو صرف الهمة إلى الفروع وبناء الولاء والبراء عليها فيؤدي إلى ظهور مظاهر غير محمودة كالعنف في التعامل، والتزام التضييق على الناس مع قيام موجبات التسهيل ودواعيه، وأسبابه التيسير عليهم، مثل حال الخوارج إلى هذا الوقت، ومن مظاهرها ما يحصل من مقلدة المذاهب
الفقهية، المتعصبين لها مقابل النصوص والأقوال الصحيحة.
5 -
وجود التفريط في العمل بالأحكام الشرعية أو فكرة معينة أو عقيدة ما، الذي يفضي بدوره إلى وقوع ردة فعل قوية أو العكس فتكون بين طرفين متناقضين.
كذلك وجود المنكرات جهارا علانية، بل الكفر الواضح في مجتمع معين أو فكر محدد، يولد غلوا في مكافحته ودفعه، كالمرجئة مقابل الخوارج، والمعتزلة في باب الأسماء والأحكام، وكالمعطلة مقابل المشبهة في الصفات، وكالرافضة مقابل الناصبة الخوارج في آل البيت خصوصا. . . إلخ.
- أو استخدام القوة أو العنف بدلا من الحكمة والحسنى يقابله زيادة التمسك بفكرة الغلاة وأقوالهم، ومثله وجود تساهل في منهج فرقة معينة يقابله التشديد في منهج فرقة مقابلة، وتأمله في واقع الفرق الإسلامية قديما وحديثا ثم استلهم العبر.
6 -
الاستقلالية في استنباط الأحكام الشرعية دون ضابط محدد ومنهج حق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومستند السلف الصالح واللغة العربية، وفي الوقوف على الأدلة ودلالتها وأقوال أهل الفقه والبصيرة فيها.
- فما حصل من واصل بن عطاء الغزال في قصة اعتزاله عن الحسن البصري نوع من هذا.
- وكذا ما حصل عند كبار المتصوفة والباطنية الذين خاضوا وتكلموا بالنصوص السمعية بأهوائهم لا بما تدل عليه، فالنص يدور في فلك معين وهم في فلك آخر مغاير له.
- وكذا ما يقع من بعض الجماعات المعاصرة وخاصة الشباب من استقلالية بالأخذ عن الكتاب والسنة بدون ضابط حتى ظهرت العبارة المشهورة " نحن رجال وهم رجال " دون الاعتداد بأهل العلم والبصيرة من علمائهم.
7 -
نقص أو انعدام التربية الحقيقية الإيمانية القائمة على مرتكزات ودعائم قوية من نصوص الوحي، واستبصار المصلحة العامة ودرء المفاسد الطارئة، وقلة إدراك عبر التاريخ ودروس الزمان وسنن الحياة في واقع الناس.
- ومما يؤكد النقص الواضح في التربية، تخلي بعض العلماء أو أكثرهم على مر العصور عن حقوق العلم وواجباتهم نحوه، وهذا أمر نسبي يختلف من زمن لآخر، ولكنك تراه واضحا في زمان أو مكان قلوا فيه أو انعدموا فتكون البيئة عندئذ خصبة، والدواعي معتبرة، والجو مهيئا لقبول الغلو وظهوره وانتشاره.
- ولكن أبرز الأسباب التي أجدها معتبرة في عزو الغلو إليها، وهي بذاتها أسباب الغلو في قوم نوح وبداية الدعوة المحمدية الإسلامية، وبعد مقتل عثمان، والغلو المعاصر، فإن هذه الأسباب
هي كبرى البواعث غالبا على الغلو وآثاره.
- يعزو أحد العلماء المعاصرين، أسباب الغلو إلى الاعتماد على المتشابهات، فهل المقصود الآيات المتشابهات مقابل المحكمات أو غيرها؟ فإذا كان هذا، فهذا ثم سبب متداخل مع ما سبق وربما يكون وسيلة من وسائله، وهو نتيجة لبعض ما سبق من أسباب: كالجهل والاستقلالية بالاستنباط وردود الأفعال.
أو كان المراد به المتشابهات التي هي قسيم الواضحات الجلية من المسائل فإي نعم؛ لأنها تجنح بالأفكار إلى مدى بعيد عن الحقيقة والصواب، والله سبحانه يقول:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (1).
رابعا: النصوص الواردة في التحذير من الغلو وذمة (موقف الإسلام من الغلو)
لما كان الدين منزلا من عند بارئ السماوات والأرض وما فيهما كان سبحانه أعلم بحدود البشر وإمكانياتهم، فشرع لهم ما يناسبهم ويوافق قدراتهم فجاء الإسلام دينا سمحا سهلا، دين يسر دفعت فيه المشقة بالقدرة والاستطاعة (2)، كما قال تعالى:
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2)
من القواعد الخمس الكلية: قاعدة المشقة تجلب التيسير.
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) وإذا كان الدين الإسلامي بهذا الوضع، وكونه دين اعتدال وتوسط وقصد في كل شيء، علم أن الغلو فيه والزيادة على اعتداله والتشدد في قصده ضلال عن هديه، وبعد عن مقاصده، وكذلك في التفريط والتهاون بأحكامه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) وقال سبحانه فيمن خالف صراطه المستقيم فحرم ما أحله الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3) فعد هذا الفعل من الاعتداء على شرع الله وحكمه وتقديره.
- ومن مقررات عقيدة أهل السنة والجماعة التمسك بالكتاب والسنة والبعد عن مزلات الأقدام في الأفهام والأفعال، كما قال الطحاوي في عقيدته:"ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو بين الغلو والتقصير". وقال: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم" اهـ. وأول ما يعول عليه في التشخيص والعلاج قوله تعالى من آخر
(1) سورة البقرة الآية 286
(2)
سورة الأنعام الآية 153
(3)
سورة المائدة الآية 87
سورة هود: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) ولا شك أن الغلو طغيان، فهذا تحذير منه سبحانه من طريق الغواية وأمر بلزوم في منهاج الاستقامة فتأمل، وهذه بعض ما تيسر الوقوف عليه من الآيات والأحاديث التي تحدد معالم موقف الإسلام من الغلو في الجملة:
1 -
ويضاهئون: يشابهون ويماثلون، كما هو عند غلاة الرافضة من القول بالحلولية، والتناسخ، وعند غيرهم.
2 -
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون (3)» .
المتنطعون هم المجاوزون الحد، المتعمقون الغالون في القول والفعل والفكر. فتوعدهم النبي عليه السلام بالهلاك وكررها ثلاثا للتأكيد، ولا أشد من هلاك الدين. والله المستعان.
(1) سورة هود الآية 112
(2)
سورة التوبة الآية 30
(3)
رواه مسلم في كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، وأبو داود في كتاب السنن، باب لزوم السنة، وانظر: تيسير العزيز الحميد ص 305 - 318.
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:
«لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم، فقال: فمن الناس إلا أولئك؟ (1)» . رواه البخاري ومسلم.
قاله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التحذير والنهي عن سلوك مسالكهم واتباعهم، وفي إشارته إلى فارس والروم: تحذير من ديانة أهل هذين القطرين، ففارس مجوس فيهم يهود في أصبهان، والروم نصارى وفيهم يهود.
وفي حديث أبي سعيد عندهما التصريح باليهود والنصارى، ولا تعارض بين الحديثين «"فمن الناس إلا أولئك؟ (2)» استفهام على سبيل التقرير المتضمن للإنكار، وفيه حصر الضلال والاتباع بأولئك أهل فارس المجوسية، ومنهم دخل على المسلمين باب الفتنة وانفتح على مصراعيه.
4 -
«وعن أنس رضي الله عنه قال: أنه كان يصلي بالمدينة صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها فلما سلم قال له رجل: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته قال:
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319)، سنن ابن ماجه الفتن (3994)، مسند أحمد (2/ 527).
(2)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319)، مسند أحمد (2/ 367).
إنها المكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار (2)» رواه أبو أوفى وأبو يعلى وغيرهما (3).
5 -
وقال البخاري في صحيحه، باب الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة (4)» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة (5)» .
الحنيفة ملة إبراهيم عليه السلام، السهلة السمحة الميسورة، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (6) قال الحافظ في الفتح 1/ 117، 118:
(1) سنن أبي داود الأدب (4904).
(2)
سورة الحديد الآية 27 (1){وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}
(3)
أبو داود كتاب الأدب، باب الحسد، ورواية أبي يعلى ذكرها ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية.
(4)
مسند أحمد (1/ 236).
(5)
البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، وقد شرحه الحافظ ابن رجب في رسالة حافلة اسمها "بيان المحجة في سير الدلجة".
(6)
سورة الحج الآية 78
"والمشادة- بالتشديد- المغالبة، يقال: شاده يشاده مشادة إذا قاواه، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، قال ابن المنير: إن هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الكمال والأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل" اهـ.
والسداد هو التوسط وطلب الصواب من غير غلو أو تقصير، وعليه دلالة اللغة.
قال ابن رجب في هذا الحديث: "فإن شدة السير والاجتهاد مظنة السآمة والانقطاع، والقصد أقرب إلى الدوام، ولهذا جعل عاقبة القصد البلوغ؛ كما قال: من أدلج بلغ المنزل".
ومنه حديث أنس مرفوعا: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (1)» .
6 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها
(1) البخاري في كتاب العلم، باب ما كان رسول الله عليه السلام يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، ومسلم في كتاب الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير رقم 1734، وانظر: الفتح 1/ 137 - 196.
الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة قال: الرجل التافه في أمر العامة (1)» رواه ابن ماجه والحاكم وصححه الذهبي ورواه أحمد في المسند 1/ 291.
- قال السندي في شرحه على السنن 2/ 494: "خداعات، بتشديد الدال، للمبالغة، قال السيوطي: أي تكثر فيها الأمطار ويقل الربيع
…
وقيل: الخداعة القليلة المطر، من خدع الريق إذا جف، والرويبضة، بالتصغير، التافه الحقير قليل العلم" اهـ.
وفي رواية الذهبي في التلخيص على المستدرك: "قال: السفيه يتكلم بأمر العامة" اهـ.
وهذا واقع كثير من الفرق الغالية الخارجة عن الإسلام أو التي كادت تخرج عن الإيمان قديما أو حديثا. فما زالوا يتخذون السفهاء أئمة وزعماء وربما شابههم بعض المسلمين في جماعتهم وطوائفهم، فالله المستعان على انقلاب المفاهيم واختلاف الموازين.
7 -
وكتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر فأجابه: "أما بعد: أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في الأمر، واتباع
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب شدة الزمان رقم 4036، والحاكم 4/ 512، وله شاهد عند أحمد في مسنده عن أنس 3/ 220، والحديث ذكره الألباني في الصحيحة برقم 1887.
سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدثه المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق.
فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصد، وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم قوم فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير- بإذن الله- وقعت، ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة: أي الشدة في العزاء والإيمان به، من القول بأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وما
أصابنا لم يكن ليخطئنا.
ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقينا وتسليما لربهم وتضعيفا لأنفسهم، أن يكون في شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدرته، وأنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه، ومنه تعلموه. ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا، ولم قال كذا لقد قرأوا ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب الله وقدره، وكتبت الشقاوة وما يقدر يكن، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا، ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا" اهـ.
الله أكبر فما بعد القول من قول، رسم فيه منهج أهل الكتاب والسنة والجماعة، فيما يتعلق بالقدر خاصة وغيره، أبدع رسم، فرحمة الله تعالى عليه، كيف حذر من الغلو وحاذر من ضده!.