الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من التراجع والذل والخضوع، حتى صاروا في ذيل القافلة، وقد كانوا منها في مأخذ الزمام، وهانت عليهم نفوسهم، فاحتلت أوطانهم، واستمرءوا العيش في الحضيض. وما وصل الغربيون إلى القمة في العلوم التقنية والإنسانية إلا بمحافظتهم على الزمن والإفادة من ساعاته ودقائقه اليسيرة في كل أحوالهم.
ومن هنا يأتي هذا البحث لبيان قيمة الزمن، والتنبيه إلى مكانته، انطلاقا من النصوص القرآنية الغنية بالتوجيهات التي تبين قيمة الزمن وتنوه بشرفه وفضله. وذلك في محاولة للخروج من حالة الركود والتثاقل إلى حالة الحركة والفاعلية، وهذا لا يتأتى إلا من خلال الوعي التام بقيمة الزمن في الحياة الإنسانية.
المبحث الأول: مفهوم الزمن وأهميته
أولا: مفهوم الزمن
الزمن في اللغة: اسم لقليل الوقت وكثيره. يقال: زمان وزمن، والجمع أزمان وأزمنة. ويقال: أزمن الشيء أي طال عليه الزمن، وأزمن بالمكان أقام به زمانا. ويقولون: لقيته ذات الزمين؛ فيراد بذلك تراخي المدة. والزمن والزمان لفظتان تحملان نفس المعنى،
ولا فارق بينهما فهما تنتميان إلى مادة لغوية واحدة.
أما مفهوم الزمن في اصطلاح علماء المسلمين فهو مرتبط بمعناه اللغوي، فهو يعني: ساعات الليل والنهار، ويشمل ذلك الطويل من المدة والقصير منها. وبذلك عرفه الزركشي إذ يقول: "إن الزمان الحقيقي هو مرور الليل والنهار، أو مقدار حركة الفلك. ولا يخفى ما بين هذا المعنى والمعنى اللغوي من ارتباط وثيق.
وبالنظر في القرآن الكريم، فإننا نجد أنه لم يستخدم مصطلح "الزمن" وإنما وردت فيه ألفاظ دالة على الزمن، ومن ذلك:
- الوقت. قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (1){إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (2).
- الحين. قال تعالى: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (3).
(1) سورة الحجر الآية 37
(2)
سورة الحجر الآية 38
(3)
سورة هود الآية 5
- الدهر. قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (1).
أما في السنة النبوية، فإننا نجد هذا المصطلح قد ورد في أكثر من موضع، ومن ذلك:
- قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب (2)» .
- وقوله صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل، القتل (3)» .
هذا إضافة إلى ورود المفردات الزمنية الأخرى كالدهر
(1) سورة الإنسان الآية 1
(2)
رواه مسلم. انظر: مسلم: صحيح مسلم، كتاب الرؤيا، حديث رقم 2263، ج 4، ص 1415.
(3)
رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب الأدب، باب رقم 39، حديث رقم 6037، ج 12، ص 72.
والوقت، ونحوها.
ولا بد من الإشارة هنا إلى وجود ارتباط وثيق بين مفهوم الزمن وبين دلالته الفلسفية، ولذلك فإن قواميس اللغة، وكتب التاريخ والتفسير عندما تتحدث عن مفهوم الزمن، تتخذ مسارا فلسفيا مقصودا، بحيث يصعب بالتالي إدراك المعنى الأصلي للزمن بعيدا عن المذاهب الفلسفية. ونظرا لهذا الارتباط، فإني سأعرج - باختصار- على مفهوم الزمن في الفلسفة. فأفلاطون - على سبيل المثال- يرى أن الزمن حادث ومخلوق (1). ويدل على أن هذا هو مذهبه في الزمن، قول أرسطو: إن الأقدمين جميعا ما عدا أفلاطون اعتقدوا أن الزمان قديم، أما هو، فقد جعله حادثا، إذ قال: إنه وجد مع السماء، وإن السماء حادثة (2).
أما أرسطو فهو يرى أن الزمن فعل واحد، وشيء متصل، بسبب اتصال الحركة، وقد تصوره متصلا وعد الوقفات فيه وهما؛
(1) العاتي، إبراهيم: الزمان في الفكر الإسلامي، ص 76. مترجم عن كتاب "طيماوس" لأفلاطون.
(2)
انظر: أكرم، يوسف تاريخ الفلسفة اليونانية، ص 87.
لأن الحركة والزمان لا بداية لهما ولا نهاية (1).
وإذا ما انتقلنا إلى الفلسفة الإسلامية، نجد أن بعض الفلاسفة المسلمين قد تأثروا بالفلسفة اليونانية، بينما حافظ الآخرون على هويتهم الإسلامية. فأبو العلاء المعري من الفريق الأول، يقول بأن الزمن أزلي أبدي، أي لا بداية لوجوده ولا نهاية، ونجد ذلك ماثلا في أشعاره، فهو يقول:
نزول كما زال أجدادنا
…
ويبقى الزمان على ما نرى
نهار يضيء وليل يجيء
…
ونجم يغور ونجم يرى (2)
بينما رفض الفريق الثاني من الفلاسفة المسلمين الانجرار وراء هذه الأقاويل، ووافقوا جمهور المسلمين في القول بحدوث الزمن ومخلوقيته، كما هو الأمر عند الغزالي والكندي وغيرهما (3).
وعند إلقاء نظرة على أقوال الفلاسفة بشكل عام يتضح أن نظرتهم إلى الزمن هي نظرة عقلية تجريدية، خاضعة إلى نجاح العقل وفشله، وإلى إبداعه وتقصيره، مما جعلهم يدخلون في متاهات عديدة، ويضطربون في أقوالهم على غير هدى، فيصيبون حينا
(1) انظر: الألوسي، حسام الدين:"الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم" مجلة عالم الفكر، ص 476.
(2)
المعري، أبو العلاء: اللزوميات، ص 79.
(3)
انظر: الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص 56. الطباع، عمر: الكندي فيلسوف العرب والإسلام، ص 193.