الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض الصفوف، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وصمام الأمان في كل مجتمع، وخاصة في القرون الثلاثة المفضلة، حيث عرفوا حقيقة الإسلام من مصدريه، بعد أن تربوا على يد المعلم الأول نبي الله عليه الصلاة والسلام، فكانوا عارفين ومدركين، ووقفوا في التصدي للفتن ومجابهة الضلال بالدليلين العقلي والنقلي، وبالبرهان الساطع من مشكاة النبوة، فأعانهم الله، وتركوا لمن بعدهم نبراسا يضيء طريق الحيران، حتى ينزوى ويسترشد، وما ذلك إلا أن: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.
نماذج من الأشرار:
جعل الله سبحانه- لحكمة أرادها، وحكمته سبحانه بالغة-: الشر والخير متضادين ولكل منهما دعاته وأعوانه، فدعاة الخير وحماته هم الأخيار الأتقياء، المستنيرون بنور الإيمان، المستجيبون لله فيما أمر، والمهتدون بهدي رسل الله.
ودعاة الشر هم: الأشرار الأشقياء، العاصون لأمر الله، والراغبون في إثارة الفتن وتوسيع دائرة الفساد والفوضى، والتعاون مع أعداء الله وأعداء شرعه في هذا الأمر.
وبالتمعن في مصدر شرع الله، الذي بعث به أنبياءه نجد نماذج في كل أمة من الأمم بل وفي كل مجتمع من المجتمعات، وأن الأشرار هم مثيرو الفتن تلك التي وراءها عقاب من الله عاجل،
وآثار سيئة في المجتمعات، يصلى بنارها المسيء والمحسن على السواء إلا من رحم الله، ويبعثون على نياتهم، هذا علاوة على انعكاسها على من سعى فيها، والعدو يفرح بما حل بالمسلمين، ويتفرج على ما حل بأهل الحق، مستأنسا لهذه البادرة في المجتمع الإسلامي؛ لأنها تخدمه في تحقيق مآربه، في مثل:
1 -
قوم صالح عليه السلام لما عصوا الله وكفروا بنبيهم صالح، تمثل إفسادهم في قتل الناقة التي هي آية من آيات الله، وحرك الفتنة التي كانت سببا في هلكة القوم، حسبما جاء عن خبرهم في القرآن الكريم، حيث نجى الله المؤمنين الأخيار، وعاقب الأشقياء الأشرار، يقول سبحانه في مشعل فتيل الفتنة:{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} (1) قال السيوطي في تفسيره: أي أشقى القبيلة، وهو قدر بن سالف، عاقر الناقة وهو أحيمر ثمود الذي قال الله فيه:{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} (2) وكان هذا الرجل عزيزا فيهم، شريفا في قومه، نسيبا رئيسا مطاعا، فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ألا أحدثك بأشقى الناس؟ قال: بلى قال: رجلان: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي
(1) سورة الشمس الآية 12
(2)
سورة القمر الآية 29
على هذا- يعني قرنه- حتى تبتل منه هذه، يعني لحيته (1)» والذي قتل عليا هو من الخوارج: عبد الرحمن بن ملجم، وهم باطنية، عليه من الله ما يستحق.
2 -
يتآمر الكفرة على كل نبي من أنبياء الله؛ لأنه يدعوهم إلى دين الله، ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى واليقين، كما قص أخبارهم الله في القرآن الكريم، ويقود فتنتهم في محاولة لإطفاء نور الله، والإضرار بالمؤمنين، شرار الخلق كل في قومه، والكيد لدين الله، ففي كل قوم يتآمر شرارهم على نبيهم باعتباره المبلغ عن الله.
وذلك بعد أن تغلبت عليهم الشقاوة، يقول سبحانه في قصة موسى عليه السلام:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (2).
وقال في حوار شعيب مع قومه: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} (3).
(1) الدر المنثور للسيوطي 8: 531.
(2)
سورة القصص الآية 20
(3)
سورة هود الآية 91
ويقول سبحانه عن قوم صالح عليه السلام الذين ديارهم شمال مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (1){قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (2).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: المدينة هي مدينة ثمود فيها تسعة أنفار يفسدون في الأرض، وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود؛ لأنهم كانوا كبراءهم، قال ابن عباس: هؤلاء هم الذين عقروا الناقة، أي الذي صدر عنهم ذلك الرأي، وبمشورتهم قبحهم الله.
والمقصود أن هؤلاء الكفرة الفسقة كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليه (3) فكل دعوة صالحة، وكل نبي من أنبياء الله يقيض الله سبحانه شقيا يثير الفتنة ضده وضد دعوته صدا وعدوانا، ولكن بهذا الابتلاء، يجب المقابلة بالصبر والاحتساب؛ لأن الغلبة للحق، والنصر لمن ينصر دين الله، يقول سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (4).
(1) سورة النمل الآية 48
(2)
سورة النمل الآية 49
(3)
التيسير لتفسير ابن كثير تعليق الدكتور: عبد الله بن إسحاق 3: 314.
(4)
سورة الفرقان الآية 31
3 -
أما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من رؤوس المنافقين، المثيرين للفتنة ضد الرسول ودعوته، عبد الله بن أبي بن سلول، الذي جاء من خبره في سورة المنافقين هذا القول الكريم:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (1) يعني بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله، فلما جمع ابنه مقالة أبيه، التي فضحه الله بها في القرآن، أخذ سيفه فأناخ على مجامع طرق المدينة، فمنعه من دخولها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلا لأبيه: والله إن رسول الله هو الأعز، وأنت الأذل.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلى سبيله، بإفساح الطريق لدخوله، وقال: والله لو أذن لي رسول الله في قتله لقتلته (2)، ولم تأخذه في الحق لومة لائم؛ لأنه رضي الله عنه يعلم أن والده من مثيري الفتنة وزعمائها، فقدم الدفاع عن دين الله الحق، وعن رسول الله على والده، وما كلامه الذي بثه في نفر من المنافقين إلا بداية في تحريك الفتنة النائمة.
وقد أبان البغوي في تفسيره على هذه السورة نماذج من منافقي المدينة، وإثارتهم للفتن (3). وفي هذا السياق جاء خبر الريح
(1) سورة المنافقون الآية 8
(2)
يراجع في سبب وحكاية ابن أبي وما قال: ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير 8: 269 - 272.
(3)
تفسير البغوي: معالم التنزيل 8: 130 - 133.
الشديدة، التي آذت الناس وتخوفوها، فقال لهم نبي الله عليه الصلاة والسلام: لا تخافوا إنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، توفي بالمدينة، قيل: من هو قال: رفاعة بن زيد بن التابوت، وكان من عظماء اليهود، وكهفا للمنافقين.
أما ابن سلول: فلم يلبث بعد عودته للمدينة إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات، والمنافقون الذين يوقدون نار الفتنة، ويسعون فيها، يفضح أعمالهم ما في قلوبهم من مرض كما فضحهم الله في سورة التوبة، بأعمالهم الباطنية، ومؤامرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث سماها ابن كثير في تفسيره وغيره من المفسرين بالفاضحة.
4 -
ويهود المدينة: حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما وصل المدينة، وناصبوه العداء، وعلى رأسهم حيي بن أخطب رأس يهود المقدم فيهم، وكعب بن الأشرف تاجرهم، فكانوا يحرضون مشركي مكة، والأعراب حول المدينة، ويتآمرون مع المنافقين، ويدفعون أموالا، ويقدمون آراء يريدونها للإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقض اليهود عهدهم مع رسول الله، وحزبوا الأحزاب وجاءوا بهم في حملة كبيرة، رغبة في استئصال شأفة الإسلام، والقضاء على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظنا بأن خطتهم الدنيئة بما فيها من تخطيط وتدبير جاء ذكرها
في سورتي الأحزاب والحشر وغيرهما.
فقد صور الله البلاء الذي نزل في قلوب الصحابة، وامتنانه سبحانه بصرف ذلك عنهم، وعودة الأحزاب خائبين فقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (1){إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (2){هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (3).
ظن مثيرو الفتنة ومحزبو الأحزاب، أن عملهم الذي اعتمدوا فيه على أنفسهم وتحزبهم نافع ومفيد ونسوا قدرة الله وحمايته لدينه ونبيه والمؤمنين، محققا لهدفهم في إطفاء نور الله، ومسكتا لصوت الدعوة، والقضاء على رسالة الله، والحامل لواءها.
لكن الله سبحانه أبطل كيدهم، وفرق جمعهم وأنزل الرعب في قلوبهم، ونشر سبحانه خزيهم بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، حتى يعرف المسلمون، ويدركوا فضل الله الذي صرف عنهم هذه الفتنة العظيمة، ولتكون واقعهم عبرة وعظة، ليصرف أنصار دين الله، في كل زمان ومكان الطوابير التي تخفي نواياها، وتندس في صفوف
(1) سورة الأحزاب الآية 9
(2)
سورة الأحزاب الآية 10
(3)
سورة الأحزاب الآية 11
المسلمين، وتبرز رؤوسها كل ما بانت الفرصة في محاولة لإضعاف شوكة المسلمين، وتثبيط هممهم لكي تضعف رابطتهم بالله سبحانه، لكن الله هو الناصر والمعين سبحانه
وسورة التوبة والمنافقون فيهما وفي غيرهما من كتاب الله الكريم، بيان عن أسلوب المنافقين والباطنيين المندسين بين صفوف المسلمين في إثارة الفتن وسعيهم فيها، ونماذجهم بارزة في كل عصر، ومع كل فتنة تظهر: سواء صغرت أو كبرت.
ذلك أن الفتنة أول ما يبدأ ظهورها صغيرة، كالشرارة التي يتعاظم حجمها، كلما وجدت من يهتم بها وينفخ فيها:"ومعظم النار من مستصغر الشرر".
وسورة البقرة وآل عمران والتوبة، وغيرها من سور القرآن:
فيها تعرية بالصفات والأعمال لنوايا اليهود والمنافقين وكيدهم المبيت، ضد كل أمر يرفع راية الحق، ويدفع الباطل.
وكل ذلك من النماذج التي يجب أن يعتبر بها المسلم، ويأخذها قاعدة، بأن الفتنة تدور: إثارة وتتبعا وسعيا، دائما في أفئدة من ضعف الوازع الإيمان من قلبه، حيث ينشأ عنده إضمار الشر، ومحبة الفساد.
والتعاون مع المعينين عليه، والله سبحانه لا يحب المفسدين.
ومن يستقرئ التاريخ الإسلامي، يجد لذلك أعمالا ضمن النماذج الكثيرة، إذ خلف كل شر فتنة مثارة، يحركها ويسعى فيها رجال خانوا دينهم، وضيعوا أمانتهم، وتعاونوا مع أعداء الله في حماية فتنتهم، ابتغاء مطامع دنيوية، وحسدا مع حب الإضرار والإفساد.
ولنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريقته في معالجة الفتن، وتصرفه مع مثيريها خير قدوة بترسم خطاه، والاقتداء بمنهجه في معالجة الأمور: بالرفق ولين الجانب، والحلم والنظرة الشاملة للعواقب، حيث أمرنا الله بذلك قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1).
(1) سورة الأحزاب الآية 21