الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتعليم والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أهمية تأكيد الفتنة:
يقول البلاغيون: زيادة تأكيد المبني، زيادة في تمكين المعنى .. ولفظ الفتنة واشتقاقها مفردة ومجموعة، جاءت في كتاب الله عز وجل، أكثر من ستين مرة (60)، هذا علاوة على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا للأهمية وما وراءها من دلالات، لكن أشدها نكاية: من يسعى في الفتنة، ومن يحركها من سكونها: رغبة في تأجيج الشر، وحسدا ضد أهل الإيمان، ورغبة في تغيير بعض معالم دين الإسلام، ببذر ما يساعد على نقض عرى دين الله الحق: واحدة بعد أخرى، تحت مسميات وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان.
وإذا تأمل المسلم: ما جاء في كتاب الله، من آيات الفتن، فإن المستقرئ لها بتمعن وعمق، وربط آخر الآية بأولها، أو بحسب السياق والدلالة، فإنه يجد أغلبها يرتبط بأصحاب الأهواء، من أهل الكتاب المعادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الحق من ربه جل وعلا، رغبة في صرف أمر الله وتشريعه إلى ما تهوى القلوب، وتصف الألسن، والحق لا يتبع الهوى، يقول سبحانه:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (1).
(1) سورة المؤمنون الآية 71
كما يرتبط الجزء الآخر: بالباطنيين من المنافقين، ومن ارتبط بهم، ممن يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، فهم على منهج واحد مع أهل الكتاب في نظرتهم للفتن، من حيث معاندة الحق، والرغبة في زعزعة الأمة، وفتح ثغرة ينفذ منها العدو، للتشكيك في تعاليم الإسلام، محبة في تخفيف ثقله على بعض النفوس، يقول سبحانه في السحر، الذي هو فتنة من الفتن، وشر يفسد المجتمعات، ويفكك الأسر المترابطة:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (1).
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ذات نهار، ثم قام خطيبا إلى أن غابت الشمس، فلم يدع شيئا مما يكون إلى يوم القيامة إلا حدثناه: حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه. فكان مما قال: (يا أيها الناس إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تفعلون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء) (2)» إلى آخر الحديث المطول (3).
(1) سورة البقرة الآية 102
(2)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742)، سنن الترمذي الفتن (2191)، سنن ابن ماجه الفتن (4000).
(3)
ينظر مسند الإمام أحمد في الفتن، وكتاب النهاية لابن كثير 1:14.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أمته باجتناب طريق الشر، وعدم الوقوع في المحاذير التي تقودهم إلى المهالك، فإنه يحذرهم من الفتن، ويدعوهم إلى عدم الخوض فيها، بل واجتنابها، ومن ثم الانعزال عمن دخل فيها، في مثل هذا الحديث الذي رواه البخاري بسنده، إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأورده البخاري في باب الفتن، قال أبو إدريس الخولاني: سمعت «حذيفة بن اليمان، يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني.
فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك (1)».
(1) يراجع صحيح البخاري المتن 6: 93، وعند مسلم المتن أيضا 5: 729 - 813 وفيه أحاديث أخرى في الفتن، وانظر النهاية لابن كثير 1:16.
حتى أنه عليه الصلاة والسلام يأمر من عنده سيف أن يغمده ولا يخوض في الفتن، التي تموج في مجتمع المسلمين، كما يموج البحر، وتتكلم فيها الرويبضة.
قال الفيروز أبادي في القاموس المحيط: والرويبضة تصغير الرابضة: وهو الرجل التافه، أي الحقير، يتكلم وينطق في أمر العامة، وهذا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للكلمة (1).
وما ذلك إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف على أمته، ما علمه الله عن الفتن وما تجر إليه من مصائب، وما تكنه صدور من يخوضون في الفتن، التي تكون في مظهرها وبدايتها، لا تثير شيئا عند ضعاف الدراية، فيحذرهم منها، ويبين مساوئها، وما يجب على المؤمن عمله إذا أدركته؛ لأن أسلم ما لعقيدة المؤمن أن يعتزلها وأهلها.
كل هذا خوفا على الأمة من ولوج باب الفتن، بدون حصانة ولا قدرة على تمييز ما تحت رمادها، فيقودهم ذلك إلى مصائب لا تحمد عقباها في الدين فيفتتنوا.
ولذا اهتم الصحابة بالتبليغ واهتم علماء السلف والمحدثون بهذا الجانب، وأبرزه المحدثون في كتبهم، ورصدوا تحت باب الفتن،
(1) القاموس المحيط 2: 331.
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع حتى يعرف كل مسلم ومسلمة مداخل الفتن والمخرج منها، وهذا من رأفته ورحمته بالأمة عليه الصلاة والسلام، كما اهتم علماء التفسير رحمهم الله في توضيح الدلالة، عند المرور بنوعيات الفتن التي جاءت في كتاب الله، وتجلية المعنى وسبب تلك الفتنة، ثم التحذير من كل فتنة، مع بيان ما تدل عليه ومناسبتها ونوعية تلك الفتنة. كل هذا جاء في شرع الله، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضيحا وبيانا، ليعرفه المسلم، حتى يبتعد عنه، كما هو حرص حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: خوفا من الوقوع في المحاذير وما تجر إليه الفتن من انحراف وضلالات.
وندرك من ذلك: أن الظالمين والمفسدين الذين تكرر وصفهم بهذا في القرآن الكريم، وأن أصحاب الفكر المنحرف عن منهج الإسلام، والفئات الضالة ومرتبي الآثام: بتكفير علماء الأمة وولاة الأمر، والراغبين في تفريق الكلمة، وبث الإرهاب والفوضى، كل هؤلاء ومن يصير في ركابهم هم مشعلو نار الفتنة، ومحركوها من سكونها، طمعا في تحقيق الفوضى والاضطراب في المجتمع، وبما يفرح الأعداء: طعنا في الدين، وتشكيكا في تعليماته، وبث الاضطراب والفساد في المجتمع الإسلامي، ومن ثم يغتر الجهال والأحداث الذين لا يدركون العواقب، ولا نتيجة ما يقادون إليه، بل ولا عن نوايا من