الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفضل من غيره ممن كان دون ذلك، وحيث إن الإنسان مجبول على الظلم والجهل والطمع والأنانية؛ فقد أرسل الله رسله ليبينوا للناس حكمة وجودهم، وضرورة رعايتهم حقوق بني جنسهم من عقيدة ونفس وعقل ومال وعرض وغير ذلك مما يعود على هذه الحقوق الأساسية بالرعاية والعناية والبقاء، وجعل رسله قضاة بين الناس ليحكموا بالعدل، وأن يكون في أحكامهم من أسباب الاقتداء والاهتداء والعدل في القضاء ما يكون طريقا قويما لمن يأتي بعدهم من القضاة، قال الله تعالى:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (1)، وقال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (2)، والإسلام وهو خلاصة الأديان السماوية، وعنده الكلمة الفصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب في الأصول والفروع؛ له عنايته الفائقة بالقضاء، وبضرورة إعطائه السلطة العليا في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ورد المظالم، وفض الخصومات، والقضاء على التنازع.
(1) سورة ص الآية 26
(2)
سورة المائدة الآية 49
تتمثل
عناية الإسلام بالقضاء
فيما يلي:
1 -
الدقة في اختيار القضاة، وأن يكونوا على جانب كبير من العلم والتقوى والصلاح وصلابة الإيمان بالله وبوعده ووعيده، فضلا عما يجب أن يكونوا عليه من النزاهة والعفة وقوة الشخصية وصلابة الرأي وبعد النظر ودقة الإدراك ورجاحة العقل وجلال المظهر وطهارة المخبر.
2 -
التحذير ممن طلب القضاء، وضرورة رفض طلبه حتى لا يسند القضاء إلى من يمكن أن يستغله فيما تمليه عليه عواطفه ومشاعره وهواه، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:«من سأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده (1)» .
3 -
التحذير من ممارسة أعمال القضاء وإبراز خطورة القيام به، ومن ذلك ما روي
(1) سنن الترمذي الأحكام (1323)، سنن أبو داود الأقضية (3578)، سنن ابن ماجه الأحكام (2309)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 118).
عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض علم الحق فجار متعمدا فذلك في النار، وقاض قضى بغير علم واستحيا أن يقول: إني لا أعلم فهو في النار (1)» ، ولهذا كان مجموعة من أهل العلم والتقى والصلاح ينفرون من القضاء، ويجد السلطان مشقة كبيرة في تكليفهم، من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استدعى سعيد بن عامر الجمحي، فقال له: إني مستعملك على كذا، فقال له سعيد: لا تفتني، فقال عمر: والله لا أدعك قلدتموها عنقي وتتركوني.
وأراد أبو جعفر المنصور أحد ملوك بني العباس إسناد القضاء إلى الإمام أبي حنيفة فرفض، فحلف عليه الخليفة أن يتولاه، فحلف أبو حنيفة ألا يتولاه، وقال: اتق الله ولا تشرك في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب، وإني لا أصلح لذلك، فقال له الخليفة: كذبت أنت تصلح.
فقال له أبو حنيفة: أنت حكمت على نفسك، فكيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كذاب؟
ولولا الإطالة المملة لذكرنا العديد من هذه الصور المشرقة الناطقة بجلال القضاء، ومدى أهميته، واستشعار أولي الفضل والعقول والبصائر خطورة مزاولته.
4 -
ضرورة إكرام القضاة، وكفالة متطلبات حياتهم العامة والخاصة حتى لا تضطرهم الحاجة إلى الممالأة المفضية إلى الجور في الحكم والقضاء، في هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا (2)» .
5 -
كراهة مباشرتهم قضاء حاجاتهم بيعا أو شراء أو نحو ذلك مما يقتضي اختلاط
(1) سنن الترمذي الأحكام (1322)، سنن أبو داود الأقضية (3573)، سنن ابن ماجه الأحكام (2315).
(2)
سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2945).
القاضي بأهل الأعمال التجارية أو المهنية ممن يحتمل التجاؤهم إليه في قضائه، فيكون للعواطف والأحاسيس أثرها في الجور في القضاء.
6 -
ضرورة أن يكون للقاضي من الأصفياء والأصدقاء من ذوي العلم والتقى والصلاح من يجد لديهم القدرة على بذل النصح والمشورة فيما يستشكله في قضائه، وما يستعصي عليه من حل مشكلاته وفض خصوماته.
7 -
ضرورة أن يكون للقاضي صلاحية ما في تأديب من يتجاوز حده عند التقاضي حتى يكون للقاضي ولمجلس القضاء من الهيبة والجلال والتقدير والاحترام ما يكون سببا في إضعاف صوت الباطل وتقوية صوت الحق.
8 -
ضرورة أن يكون لمكان التقاضي شكل معين يعطي الضعيف قوة في إبراز حجته، ويحد من غطرسة المبطل فلا يجد مجالا لغمط الناس حقوقهم، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم (1)» .
9 -
مراعاة أولوية القضايا التي لها صفة الاستعجال والاهتمام الأكثر، كقضايا السجناء والغرباء ونحوهم.
10 -
ضرورة عناية القاضي بحفظ مشاعره وعواطفه بين الخصوم، وأن يظهر لهم سواسيتهم في مجلسه ونظره حتى لا يطمع مبطل في باطل، ولا ييئس محق من حقه.
11 -
منع القاضي من أن يحكم بعلمه فيما طريقه الإثبات حتى لا تتجه الريبة إليه في قضائه، وليكون حكمه مبنيا على وضوح المستند وقوة الاحتجاج.
12 -
منع القاضي من القضاء، وهو في حال من القلق والاضطراب، كأن يكون خائفا أو جائعا أو غاضبا أو في جو غير مناسب للراحة النفسية، حتى لا ينغلق عليه الإدراك ويتعذر عليه الفهم، وفي ذلك التوجيه النبوي الكريم:«لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان (2)» .
(1) سنن أبو داود الأقضية (3588)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 4).
(2)
صحيح البخاري الأحكام (7158)، صحيح مسلم الأقضية (1717)، سنن الترمذي الأحكام (1334)، سنن النسائي آداب القضاة (5406)، سنن أبو داود الأقضية (3589)، سنن ابن ماجه الأحكام (2316)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 46).
وفضلا عن ذلك كله فإن الإسلام يعتبر القضاء سلطة عليا لها استقلالها الكامل، فلا سلطان لأحد عليها مهما كان ذلك الأحد.
ولم يكن لتحذير الإسلام من القضاء أثر في تعطيل هذا المرفق العظيم، بل كان له أثره الكبير في القدرة على الانتقاء والاختيار، فمن كان أهلا للقضاء علما وخلقا وتقى وصلاحا ونزاهة، واستجاب لرغبة ولي الأمر في مزاولة القضاء؛ كان معنيا بفضل الله وكرمه بما جاء من النصوص في فضل القضاء والقضاة.
من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا (1)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها (2)» ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران (3)» ، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أن الإمام العادل ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله (4)» .
ومصادر القضاء في الإسلام تعتمد أول ما تعتمد على أصلين عظيمين هما: كتاب الله وهو القرآن، وسنة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهي أقواله وأفعاله وتقريراته، وفي التحذير والترهيب من الحكم بغيرهما نصوص صريحة منها قول الله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5)، وقوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (6)، وقوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (7)، ومن السنة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) صحيح مسلم الإمارة (1827)، سنن النسائي آداب القضاة (5379)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 160).
(2)
صحيح البخاري العلم (73)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816)، سنن ابن ماجه الزهد (4208)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 432).
(3)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352)، صحيح مسلم الأقضية (1716)، سنن الترمذي الأحكام (1326)، سنن النسائي آداب القضاة (5381)، سنن أبو داود الأقضية (3574)، سنن ابن ماجه الأحكام (2314)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 198).
(4)
صحيح البخاري الأذان (660)، صحيح مسلم الزكاة (1031)، سنن الترمذي الزهد (2391)، سنن النسائي آداب القضاة (5380)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 439)، موطأ مالك الجامع (1777).
(5)
سورة النساء الآية 65
(6)
سورة المائدة الآية 49
(7)
سورة المائدة الآية 44
حينما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا، قال له:«كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى به رسول الله (1)» .
وهناك مصدران متفرعان عن الأصلين السابقين هما: الإجماع والقياس، أما الإجماع: فالمراد به إجماع علماء المسلمين على الحكم في مسألة ما، ولا شك أن إجماعهم مفترض فيه أن يكون مبنيا على نص من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم علمه من علمه، وجهله من جهله، وأما القياس: فوجه الأخذ به أن النصوص متناهية، والقضايا غير متناهية، فليست كل قضية مهيأة لاختصاصها بنص ينص على الحكم فيها، وإنما تقاس الأشباه بالنظائر، وتلحق الجزئيات بكلياتها، فيكون الحكم فيما لا نص فيه بما فيه نص مما هو نظيره ومشابهه، فإذا لم يجد القاضي حكمه في كتاب الله، ولا في سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يجد للأمة الإسلامية إجماعا في ذلك، وتعذر عليه القياس؛ كان عليه أن يبذل قصارى جهده في الاجتهاد آخذا في تقديره ما لكل قضية من الملابسات والاعتبارات والتقديرات.
ثم إن هناك أمرا ذا أهمية بالغة في المحيط القضائي ألا وهو القرينة، فإن القرينة اعتبارها في الإسلام ذلكم الاعتبار يمثل في تقويتها جانب حاملها من المتخاصمين، فإذا انعدمت البينة، كانت اليمين مشروعة في جانب حاملها إن كان لها من القوة ما تشد به أزر صاحبها.
وللعلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "الطرق الحكمية" بحث في القرينة وضرورة اعتبارها والأخذ بها، يجدر بالمهتمين بشئون القضاء الاطلاع عليه، وإعطاؤه ما يستحقه من النظر والدراسة والاعتبار.
وللخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب لأحد قضاته يعتبر
(1) سنن الترمذي الأحكام (1327)، سنن أبو داود الأقضية (3592)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 230)، سنن الدارمي المقدمة (168).
نبراسا يستضيء به القضاة في أحكامهم، ونظاما قضائيا يجدر بالمهتمين بشئون القضاء إعارته ما يستحقه في الدراسة والتحليل والنظر والاعتبار، وأجد المقام يلح علي في إيراده:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك، أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت اليوم فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقا غائبا، أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت القضاء عليه فإن ذلك أبلغ للعذر وأجلى للغمة، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه في شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب.
فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات والأيمان والشبهات، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن صحت نيته وأقبل على الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اهـ.
وقد اعتنى علماء الإسلام بهذا الكتاب القيم الجامع المانع فتناولوه بالشرح والتحليل والاستنباط، وكان من أبرز من تناوله بالشرح المستفيض الإمام العالم العلامة ابن القيم رحمه الله فقد أورده في كتاب " أعلام الموقعين "، وشرحه شرحا وافيا أتى فيه على القضاء ومدى أهمية رسالته وخطورة مزاولته، وعلى الصلح ومدى صحته ونفاذه، وعلى