الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلم؛ فإن الشريعة ترد البيع وتعيد إلى البائع سلعته جزاء كذبه أو كتمانه أو تلزمه بثمن المثل، وإذا كان المشتري استفاد شيئا رد قيمته، يوضح ذلك حديث المصراة يقول صلى الله عليه وسلم:«لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردها صاعا من تمر (1)» وهذا ما يطلق عليه الفقهاء بخيار التدليس، ومثله خيار الغبن وذلك بأن يكتشف المشتري أن البائع غبنه في ثمن السلعة وأعطاه إياه بأكثر من ثمن المثل.
(1) متفق عليه.
أسباب الاهتزاز والضعف:
وإذا كان الأمر كما ذكرت في ثبات السنن الصالحة واطرادها وأنها أشد ما تكون في المجتمع المسلم، وأنها مهتزة وغير مطردة في المجتمع غير المسلم؛ فلماذا قل نصيبنا من نتائجها الطيبة في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة؛ بل نرى على النقيض من ذلك اهتزازا في الرؤية للغاية من الحياة، واضطرابا في السلوك، وضعفا عاما مكن اليهود من اغتصاب فلسطين، وجعل التيارات الغربية الوافدة تقسم الأمرة وتحاول التسلط عليها وتوجيهها.
إن إدراك أسباب هذا الواقع المر لا يخطئه صاحب البصيرة النافذة، ولا ذو التفكير المستقيم؛ فكما أسلفنا، إن حظ أي مجتمع من النجاح أو الفشل أو التقدم أو الهبوط إنما يكون بمقدار عمله بهذه السنن مجتمعة أو تركه لها، والواقع الذي نشهده أن حصيلتنا من العمل بسنن الله ووفائنا لها حصيلة ضعيفة؛ لذلك كان حالنا كما نرى، وصدق الله:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1).
ومن هنا فلا بد من معرفة الأسباب الكلية والعوامل الرئيسية التي سببت ذلك الاهتزاز الهائل في النفوس والأخلاق وتلك الحالة المرضية الخطيرة لندرك الطريق إلى
(1) سورة النحل الآية 33
العلاج ومن ثم النهوض والإصلاح، ويمكن إرجاع الأسباب إلى ثلاثة عوام رئيسية:
1 -
ضعف الأمة داخليا وفقدانها الثقة بنفسها.
2 -
عجز القيادة في الأمة وعدم قدرتها على ملء الفراغ وانفصالها نفسيا وفكريا وعمليا عن أهداف الأمة عامة.
3 -
تطلع هذه القيادة في كثير من مجتماعتنا لملء هذا الفراغ عن طريق استعارة نماذج الحضارة الغربية في النهوض والإصلاح وفرضها هذه النماذج بالحديد والنار على الأمة.
إن هذه العوامل الثلاثة متداخلة ومتشابكة وكل منها يساعد الآخر ولا يمكن فصلها عن بعضها الآخر. إلا أن السبب الرئيسي يبدأ من ضعف الأمة داخليا وعدم قدرتها على مكافحة أسباب العجز والضعف، ومن ثم تصبح عندها القابلية لتقبل أمراض التخلف والضعف كالجسم العليل الذي تضعف فيه المقاومة فيصبح مرتعا للجراثيم والميكروبات.
وضعف الأمة داخليا، لا يأتي فجأة ولا يحصل بغتة، وإنما هو نتيجة مراحل طويلة وأجيال متعاقبة أهملت فيه الأمة تجديد نفسها، فركنت إلى النوم واستسلمت للأحلام، وعاشت على الذكريات ورضيت بترديدها فأصبحت خارج الأحداث معزولة عن معركة الحياة، فلم تواكب التطورات في الوسائل ولم تواجه التحديات، فضعف فكرها، وسادها الخمود، وعم التقليد، وانتشرت الأمية، وانشغل الناس بالجزئيات، وافتقدوا الوعي بواقعهم والمشكلات التي تواجههم، واستفحل أمر الشهوات والأهواء، ففشا الظلم وظهرت النفعية والانتهازية وأخلاق النفاق، فانحلت رابطة الأمة وانعدم الروح العام الذي يربط بين أبنائها، وأصبح كل إنسان مشغولا بنفسه عن أمته. . وتأخرت الدولة وأجهزتها، وأصبحت غير قادرة على النهوض والعطاء والتجديد. . وبدأ الفراغ الداخلي يعمل عمله في التطلع إلى الأمم الأقوى.
وجاءت الموجة الأوروبية الاستعمارية المتربصة بتفوقها وقدرتها ونهمها وجشعها فأغارت على هذه المجتمعات لتستغل هذه الأمراض المنتشرة وتخترق الحواجز النفسية
وتبدأ في اصطناع قادة جدد لهذه الشعوب، وتستغل ما فيهم من ضعف. . . وتلوح لهم بالسلطان والدولة، وذلك كما حدث للشريف حسين في مكة، وكيف استعمله الإنجليز ولوحوا له بالخلافة العربية ليضربوا به جيش الخلافة العثمانية في ظهره، ويستعملوا البدو عن طريق لورانس في تحطيم خط حديد الحجاز شريان الحياة وأعظم مشروع آنذاك.
فانظر إلى المستوى الهابط من الجهل والأنانية وفقدان الوعي كيف أوصل الناس إلى التعاون مع العدو اللدود ودعوته إلى احتلال الأرض، واقتسام الأوطان على نحو ما تم بعد وبدأت به مأساتنا الحديثة التي لا زلنا نعيشها فكان الشريف حسين بحق كالمستجير من الرمضاء بالنار.
في هذا الجو المسموم بدأت الأفكار الأوروبية تأخذ طريقها وذلك مثل التشكيك في قدرة الدين على النهوض بالأمة، وأن الدين لا يتناسب مع عصر التنوير، وأن الدين من بقايا العصور الوسطى، وأنه مناقض للعلم، وأنه لا بد من الأخذ بالمنهج الأوروبي في الحياة والسياسة والأخلاق وفصل الدين عن السياسة. وأن الرابطة الإسلامية صارت عديمة الجدوى، قليلة النفع، ولا بد من التحول إلى الرابطة الوطنية والقومية والأخذ بالقوانين الغربية، وترك الشريعة والتخلص منها أو تقليصها وجعلها في الدائرة الشخصية البحتة.
وزاد الطين بلة القدرة الاجتماعية والسيادة السياسية للمستعمرين الأوروبيين واعتمادهم في إذابة مجتمعاتنا واحتوائها على بعض أبناء البعثات التي تعلمت على أيديهم والتي أرسلت إليهم من تركيا ومصر والشام وعلى الأقليات الموجودة في مجتمعاتنا، فقد عمل فريق من هؤلاء المبعوثين حينما عادوا على حمل رسالة التغريب يعاونهم في ذلك الأقليات، ويمنحهم القوة والنفوذ تمكن الدول المستعمرة في بلادنا آنذاك.
وبدأ تغيير بنية الحكم واتجاه الثقافة والولاء من الإسلام بشموله وقوته إلى الحضارة الغربية وقيمتها، وحدث الزلزال الكبير بالإجهاز على تركة الرجل المريض
(الخلافة العثمانية) كما كانوا يقولون، وتولى تلميذ مخلص من تلامذة الغرب ألا وهو مصطفى كمال أتاتورك حمل رسالة التغريب ليحمل فأسه ويحاول أن يقوض البناء من أساسه في تركيا، حاضرة الخلافة والمدافعة عن الإسلام والعالم العربي قرابة أربعة قرون والواقفة أمام أطماع اليهود في النصف الأول من القرن العشرين. . إلخ. لقد أجهز أتاتورك على الخلافة ونادى بالطورانية (1) محل الإسلام، وأراد أن يجتث الثقافة الإسلامية فحرم العربية وأجبر الناس على قراءة القرآن بالتركية، وحول كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية، ليعزل الجيل الجديد عن تراثه وثقافته، واستورد القوانين الغربية، وفرض السفور ووصل في عدائه أن ألغى قانون الأسرة وجعله قانونا علمانيا وفرض اللباس الأوروبي. . وحرم الطربوش والعمامة، كل ذلك بالحديد والنار.
بهذه التجربة المرة في مجتمعاتنا المعاصرة تمزق ولاء الأمة وتشتت فكرها، وتحطمت نفسيتها وتوقفت مسيرتها، فقد عاشت هذه الأمة بالإسلام، والإسلام بطبيعته رسالة حياة حضارة، وهو في قيمه ونظرته ووجوده في واقع الأمة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية يخالف مفهوم الدين عند الغربيين، فإذا كان الدين عند الغربيين قد حرف وبدل وصار مفهومه (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) بمعنى الفصل بين الدين والحياة. . .؛ فإن الإسلام هو توجيه الحياة كلها بمختلف أنشطتها وجعل غايتها ووجهتها لله عز وجل.
يقول الله تعالى على لسان رسوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2){لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) ولهذا كانت شريعة الإسلام هي دستور الحياة الفردية والاجتماعية بحيث لا يخرج أي أمر عن
(1) الطورانية: نسبة إلى سلالة طوران شاه التي جاءت منها قبائل الأتراك ما قبل الإسلام.
(2)
سورة الأنعام الآية 162
(3)
سورة الأنعام الآية 163
نطاقها ونظرتها. يقول الله تعالى على لسان رسوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ويقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (2){أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3).
ومن هنا فدعاة التغريب واللادينية في مجتمعاتنا إنما يحاربون الفطرة الخيرة في الأمة والتي جاء الإسلام فقواها ونماها وأعطاها وامتدادها؛ ولذلك فرغم المحاولات المريرة التي حاولها هؤلاء الدعاة ومن أبرز أمثلتهم أتاتورك، فإن شعبا كالشعب التركي رفض كل المحاولات التي حاولت ردته وتغيير وجهته وسلوكه، وحالما حانت الفرصة عبر عن إسلامه وتدينه ويكفي مثلا على ذلك شبابه ووفوده إلى بيت الله الحرام بعد انقطاع أكثر من خمس وعشرين عاما، لكن النتيجة أن هذا الصراع الذي قام به أتاتورك وطغمته دفع ضريبته هذا الشعب عزلة وتأخرا وتمزقا وضياعا. وعلى ذلك فقس باقي المجتمعات التي رزحت تحت أنظمة من هذا النوع.
والمشكلة الأساسية أن دعاة التغريب واللادينية، سواء كان يتبعون الفلك الغربي الأوروبي، أو يتبعون الفلك الشيوعي الاشتراكي، هم مقلدون تائهون يرددون كلام سادتهم وأوليائهم، ويلفقون ويزورون في دعاويهم وآرائهم، فلا قدرة عندهم على قول كلمة الحق، ولا شجاعة عندهم في النزول على حكم الأمة؛ وكل عملهم في الأمة هو عمل الغواة والسحرة، فما أضخم شعاراتهم، وما أكثر ضجيجهم، وما أسوأ أخلاقهم، افتقدت الأمة فيهم القدوة الصالحة، وانتشر بهم الكذب والفجور والتحلل، وعم بهم الإرهاب والتنكيل، وغاض العدل والإنصاف، وفقدت الطمأنينة وضاعت الثقة، فأصبحوا كابوسا ثقيلا وليلا طويلا، فما أبعد التحضر عن سلوكهم وأعمالهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2)
سورة المائدة الآية 49
(3)
سورة المائدة الآية 50
هذه هي أسباب الضعف والاهتزاز بشكل مجمل وبإشارات تغني عن عبارات، ولا خلاص منها إلا بعملية تغيير جذرية تقوم بها نفوس قوية تأخذ بسنن الله وتمضي على بركة الله، تزيل الخرائب وتعيد بناء الأمة من جديد في فكرها وعملها وسلوكها، وتواكب هذا العصر بكل ما فيه من وسائل ومبتكرات، وتستطيع حينذاك أن تغلب تيار الفساد وتنهي أمره، وتلم شعث الأمة وتمكنها من أن تستأنف مسيرتها من جديد فيتحقق لها ما وعدها الله به من عز ونصر وتمكين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحمد محمد العسال
(1) سورة محمد الآية 7