الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصلاة مستقبلا المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائما بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات.
ومن هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق (1).
فمن هذا التقسيم يتضح أن تروك النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأمور تختلف باختلاف أنواعها حسب التفصيل السابق، فيجب على طالب العلم الذي من الله عليه بالحرص على السنة والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يفقه هذا الباب ويتبصر به حتى يعبد الله على بصيرة وحتى لا يقع في بعض المزالق التي وقع فيها بعض الغلاة وحتى لا يضيع في متاهات العباد الذين لم يكن لديهم الفقه في الدين الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«من يرد الله به خيرا يفقه في الدين (2)» متفق عليه (3) لهذا فإن الفقه شرط للعمل، فعمل لا يستند إلى دليل، صاحبه في ضياع نسأل الله العافية.
(1) إعلام الموقعين 389/ 2 وما بعدها
(2)
سنن الترمذي العلم (2645)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 306)، سنن الدارمي المقدمة (225).
(3)
رياض الصالحين: باب فضل العلم.
5)
ترك بعض المندوبات خوفا من فهم العامة أنها واجبة
ورأي الإمام مالك ومناقشته:
لا شك أن الخير كل الخير في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه والاقتداء به في أقواله وأفعاله وتقريراته.
يدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1)» رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (2)» رواه الترمذي وقال حديث حسن (3) صحيح وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني (4)» متفق عليه.
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 180).
(2)
سنن الترمذي العلم (2676)، سنن ابن ماجه المقدمة (44)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 126)، سنن الدارمي المقدمة (95).
(3)
الأربعون النووية رقم 5 و 28
(4)
بلوغ المرام 120
والكلام عن السنة في هذا الموضع إنما هو من جهة أن الأمر قد يكون سنة قولية أو فعلية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى أن يفهم العامة من المداومة عليه وجوبه فهذا قد حصل فيه خلاف بين العلماء.
يرى الإمام مالك أن بعض المندوبات إذا خيف أن يفهم العامة من المداومة عليها وجوبها يرى أن تركها أفضل من فعلها، وقد بنى رأيه هذا على ما هو معروف عنه من القول بسد الذرائع الموصلة إلى الشرور ووجه ذلك أن الشارع قد ندب إلى أشياء ومعروف أن المندوب هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه والشارع الحكيم الرحيم لما لم يوجبه أراد ألا يجعل المسلم في حرج من التزام هذا المندوب بل متى قدر عليه وتيسر له فعله أتى به وإلا تركه من غير حرج ولا تبعة ولكن قد يعمد البعض إلى التزام هذه السنة ويستديم عليها استدامة على الواجب فلا يتركها تحت أي ظرف من الظروف، فهذا عمل في حد ذاته طيب يثاب عليه لأنه اقتداء بالسنة وعض عليها بالنواجذ.
غير أن في استمرار المسلم على هذا المندوب بطريقة منتظمة حتى لو اعتل جسمه أو وجد مشقة وعنتا ما يجعل السواد الأعظم من العامة يعتقد وجوب هذا المندوب وأنه بمرتبة الواجب لا المندوب فيحافظون عليه محافظتهم على الواجبات ويتأثرون من تركه. فينشأ من ذلك الضيق والحرج والمشقة على الناس بسبب إيجاب ما ليس واجبا والتزام ما ليس لازما، وفي إيجاب المندوب تجن على الشريعة وتشريع لما لم يأذن به الله وهذا مفسدة أي مفسدة.
فلهذا السبب وهو خوف اعتقاد العامة وجوب بعض المندوبات من جراء المداومة عليها كره بعض العلماء ومنهم مالك هذه المواظبة على السنة وذلك للحيلولة دون فهم العامة ذلك وسدا لهذه الذريعة لأن إيجاب ما لم توجبه الشريعة هو مفسدة يجب منعها وسد الطرق الموصلة إليها.
قال الشاطبي رحمه الله: وكان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة (أي مستديمة) وكان يكره مجيء قباء خوفا من ذلك مع ما
جاء في الآثار من الترغيب فيه، ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه.
وقال الشاطبي: فهذه أمور مندوب إليها ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها وهذا شأن السنة وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك (1).
والخلاصة: أن ما يخشى من فعله اعتقاد العامة وجوبه راعى فيه بعض الأئمة مفسدة اعتقاد العامة وجوب ما هو مندوب إليه فذهبوا إلى كراهته كما ذهب الإمام مالك إلى كراهة صوم ستة أيام من شوال مع صحة الحديث الوارد في فضلها خشية أن يعتقد العامة وجوبها، قال أبو إسحاق الشاطبي: والذي خشي منه مالك وقع فيه العجم فصاروا يتركون (المسحرين) على عادتهم و (البواقين) وكذلك قال أبو إسحاق المروزي في أصحاب الإمام الشافعي: لا أحب أن يداوم الإمام على مثل أن يقرأ كل يوم جمعة سورة الجمعة ونحوها لئلا يعتقد العامة وجوبه (2).
رأينا في هذه المسألة:
رغم ما ذكره الإمام الشاطبي عن الإمام مالك رحمه الله ومن وافقه من تبرير لكراهة بعض المندوبات فإنني أرى أن هذا رأي غير صائب ويترتب على الأخذ به خطأ كبير لأنه يؤدي إلى ترك بعض السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه يؤدي إلى إماتة بعض آخر منها ثم إنه قول مبني على الاجتهاد مع وجود النص ومعلوم أنه لا اجتهاد مع النص، فالمندوب إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخير في الإتيان به والعصمة من الشرور والمفاسد في اتباعه لا في إماتته وإهماله.
فلو كان ما تخوف منه الإمام مالك متحققا لنبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولحذر منه فضلا عن أن يسنه ويندب إليه.
(1) الاعتصام بتصرف 144/ 1 وما بعدها
(2)
رسائل الإصلاح للخضر حسين 80/ 3
أما إذا بلغ الجهل بالناس مبلغا يغلب على الظن إساءتهم فهم النصوص والخلط بين الواجب والمندوب فإن الواجب يقتضي حينئذ أن يهب العلماء والدعاة إلى الله لبيان حكم الله وإيضاح شرائعه وكشف ما قد يسبب اللبس والاشتباه على الناس.
أما أن نستسلم لأفهام السذج من الناس ونخضع الشريعة ونجمد بعض أحكامها تبعا لهذه الأفهام الخاطئة فهذا ما لا يجوز أن نلتفت إليه أو نوليه انتباهنا إلا بطريقة البيان والتوجيه وتصحيح الأخطاء، من ذلك فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قبل الحجر الأسود: إني أعلم أنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، (1) فقد جمع بين الأخذ بالسنة ودفع ما عساه يخطر في أذهان العامة من اعتضاد فاسد.
وخلاصة الرأي في هذا هو أن الامتناع من بعض السنن سد لذريعة توهم العامة وجوبها هو امتناع عن سنة ورد النص بها فيكون باطلا لأنه اجتهاد حيث لا يجوز الاجتهاد وهو ملغى لا اعتبار له ولا التفات إليه.
(1) متفق عليه، انظر رياض الصالحين، باب الأمر بالمحافظة على السنة
6 -
بعض المندوبات قد لا يحافظ عليه إلا بعض المبتدعة فهل يجوز هجر هذه السنة خوفا من التشبه بالمبتدعة؟
بعض الأمور يقوم الدليل على أنه مندوب ثم يتهاون فيه الناس ولا يحافظ عليه إلا البعض ممن عرفوا بالابتداع في الدين حتى صار هذا التمسك علامة مميزة لهم وذلك مثل لبس الخاتم باليمين وتسوية القبور وإعفاء اللحى في بعض الأقطار فبعض العلماء رأى ترك هذه السنة خوفا من التشبه بهؤلاء المبتدعة لأن ترك السنة أهون من مشابهة المبتدعة.
ولكن الحق الذي لا مراء فيه هو أن تحي هذه السنة ويعمل بها لثبوتها عنه صلى الله عليه وسلم ولأنها من قوله أو فعله لا لأنها من قول مبتدع أو فعل مخرف أما الخوف من مشابهة هؤلاء المبتدعة فلا يعول عليه ولا يلتفت إليه، لأن الحق
ضالة المؤمن أنى وجده أخذ به يدل لهذا:
1 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فأمر بصيامه ولم يمنعه صلى الله عليه وسلم من أن يصوم يوما كان اليهود يصومونه لأن هذا الصيام حق في نفسه فلا يضره أن صامه اليهود.
2 -
قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة لما أخبره أن إبليس علمه آية الكرسي ليقرأها إذا أوى إلى فراشه: قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب: ذاك شيطان» رواه البخاري (1).
فالحق يقبل ويؤخذ به مهما كان قائله ولا يضر أن يصدر من غير محق كما صوب الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله إبليس لأنه حق وافق الحق.
ولو أن الخوف من مشابهة الضالين ينبغي معه مخالفتهم حتى فيما جاء الشرع به لترتب على هذا مفسدة عظيمة حيث إن البعض من الناس قد يجعل هذا مطردا يتذرع به لترك بعض المشروعات، فمثلا:
لو أن غير أهل السنة لازموا إعفاء لحاهم أو حافظوا على دقة المواعيد أو لازموا النظافة في المأكل والملبس أو تميزوا بالصناعة وإتقانها فإن هذه الأمور ونحوها قد طلبها منا الشارع الرحيم لأن فيها عزنا وخيرنا في الدنيا والآخرة فلا يجوز لمدعي الاحتراز من المسلمين أن يقول: هذه أمور تميز بها غير أهل السنة فلا يجوز أن نحرص عليها خوفا من مشابهة هؤلاء، وهذا زعم واضح البطلان، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
(1) رياض الصالحين 394 فضل القرآن.
هل توجد في القرآن كلمات معربة
بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
الأستاذ بالجامعة الإسلامية "سابقا" والداعية الإسلامي
بمدينة الدار البيضاء بالمغرب العربي
ولد بسلجماسة " تفيلات " سنة 1311هـ
حصل على الدكتوراه في الأدب من جامعة برلين وعلى درجة أستاذ مساعد، ثم على درجة أستاذ من جامعة بغداد.
كان محاضرا في جامعة " بون " وأستاذا في جامعة بغداد، ثم في جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية، ثم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
يقوم الآن بالدعوة إلى اتباع الكتاب والسنة في مساجد الدار البيضاء بالمغرب.
مؤلفاته كثيرة، منها: سبيل الرشاد - ستة أجزاء، القاضي العدل في حكم البناء على القبور، أحكام الخلع في الإسلام، الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية، تقويم اللسانين ترجمة محققة لمعاني القرآن الكريم بالإنجليزية، بمشاركة الدكتور محمد محسن خان طبيب الجامعة الإسلامية سابقا.
اعلم أن علماء اللغات اتفقوا على أن كل لغة عظيمة تنسب إلى أمة عظيمة، لا بد أن توجد في مفرادتها كلمات وردت عليها من أمة أخرى، لأن الأمة العظيمة لا بد أن تخالف غيرها من الأمم وتتبادل معها المنافع من أغذية وأدوية ومصنوعات وتعلم وتعليم، فلا بد حينئذ من تداخل اللغات، ولا يمكن أن تستقل وتستغني عن جميع الأمم، فلا تستورد منها شيئا ولا تورد عليها شيئا، والقرآن نفسه يثبت هذا، قال تعالى:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1).
ذكر إبراهيم في دعائه أنه أسكن ذريته يعني إسماعيل وآله بواد غير ذي زرع وهو وادي مكة وإذا لم يكن فيه زرع لم تكن فيه ثمرات، وذكر أثناء دعائه ومناجاته لربه أنه أسكنه وذريته بذلك الوادي المقفر ليقيموا الصلاة، أي يؤدوها قائمة كاملة عند بيت الله ويعبدوه فسأل الله أن يجعل قلوب الناس تهوي إلى ذريته، أي تسرع إليهم شوقا ومحبة وتمدهم بما يحتاجون إليه وأن يرزقهم من الثمرات التي تجلب إليهم من الآفاق والأقطار المختلفة ليشكروا الله على ذلك فيزيدهم، وقد استجاب الله دعوته، فصارت أنواع الحبوب والثمرات والتوابل والأدوات والثياب والتحف والطرائف تجلب إلى مكة من جميع أنحاء المعمورة.
وهذه الأمور التي تجلب إليها كثير منها وضعت أسماؤها في البلدان التي تصدر منها فإذا جاءت مكة يسمونها بالاسم الذي جاءت به فتندمج في لغتهم وتصير جزءا منها والأصل في اللغات أن الأشياء العامة توجد لها أسماء في كل لغة، أما الأشياء الخاصة التي خص الله بها قطرا بعينه فإن الاسم الذي سماها بها أهل ذلك القطر الذي خلقت فيه يبقى في الغالب ملازما.
ولنضرب لذلك مثلا الجوز الهندي والنخيل الذي يثمره وهو "نارجيل" ويسمى بالهندية "ناريل" فهو يجلب إلى غير الهند، دون أن يبدل اسمه، وثمر
(1) سورة إبراهيم الآية 37
"الأنبه" وهو أحسن الفواكه في الهند وقد يكون أحسن الفواكه مطلقا يوجد دائما في مكة شرفها الله في أحقاقه، إذا أكلته تظن أنك أكلته تحت شجرته وهذه الفاكهة موجودة في مصر وتسمى "مانكة" وتنقل إلى بلدان أخرى ويبقى اسمها ملازما لها.
وكذلك ثمر "أناناس" يجلب من إندونيسيا ويبقى اسمه ملازما له وقس على ذلك، وقد قال أحد علماء الفيلولوجيا أعني علماء اللغات أن لغة سكان أستراليا الأصليين لا تزيد مفرادتها على مائة، لأنهم أبعد الناس عن المدينة التي تستلزم مخالطة الأمم الأخرى وتبادل المنافع معها فكلما عظمت اللغة دلت عظمتها وثروتها ووفرة ألفاظها على مخالطة أهلها لشعوب أخرى واقتباسها منهم فهي تعطي وتأخذ.
وقد أخبرنا القرآن أن قريشا كانت لهم رحلتان، رحلة في الشتاء إلى جنوب الجزيرة العربية اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام وكانوا تجارا ينقلون البضائع من بلد إلى بلد، وكانت مكة شرفها الله تعالى مركزا عظيما للتجارة قبل الإسلام فكانت تنقل إليها البضائع من الشرق والغرب والجنوب والشمال فكيف يتصور أن لغة العرب تبقى مغلقة مختوما عليها لا تخرج منها كلمة ولا تدخلها كلمة.
والأئمة الذين أنكروا وجود كلمات غير عربية في القرآن تمسكوا بظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1)، وقوله تعالى:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (2).
وما أشبه ذلك وهم على حق فيما قالوا فليس في القرآن كلمة أعجمية باقية على عجمتها ألبتة، فكل ما في القرآن من الكلمات تنطق به العرب وتفهمه وهو جار على سنن كلامها لا خلاف في ذلك نعلمه، إنما الخلاف في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا؟
(1) سورة يوسف الآية 2
(2)
سورة النحل الآية 103
قال السيوطي في الإتقان: " قد أفردت في هذا النوع " كتابا سميته (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب) وأنا ألخص فوائده فأقول: اختلف الأئمة في وقوع المعرب في القرآن فالأكثرون منهم الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (1) وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (2) وقد شدد الشافعي النكيرة على القائلين بذلك.
وقال أبو عبيدة: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فمن زعم أنه غير العربية فقد أعظم القول ومن زعم أن "لدا" بالنبطية فقد أكبر القول، وقال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العربية شيئا لتوهم أن العرب: إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها.
قال محمد تقي الدين الهلالي: إنما يمكن أن يقال ذلك إذا كان في القرآن تراكيب أعجمية، أو كلمات باقية على عجمتها، أما وجود كلمات قد صقلتها العرب بألسنتها، ونحت بها مناحي كلماتها، ودخلت في أوزانها فلا يمكن أحد أن يدعي ذلك فيها، وقد رد القرآن نفسه على من زعم ذلك من أعداء الإسلام الأولين فقال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (3) وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله بأشد أساليب
(1) سورة يوسف الآية 2
(2)
سورة فصلت الآية 44
(3)
سورة النحل الآية 103
التحدي فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (2) وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (3)، فأي عدو يسمع مثل هذا التحدي ثم لا يبذل قصارى جهده في معارضة عدوه وإبطال تحديه ولو أن إحدى الدولتين المتعارضتين اليوم وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي صنعت إحداهما سفينة فضائية مثلا وقالت للأخرى إنك لن تستطيعي أن تصنعي مثلها لغضبت الدولة المتحداة ولم يقر لها قرار، حتى تصنع سفينة مماثلة أو فائقة لما صنعته الدولة المتحدية.
وهنا نحن اليوم نرى الصين الشيوعية لما رأت عدوتها الولايات المتحدة متفوقة في صنع القنابل الذرية والهيدروجينية فقد عقلها حنقا وغيظا وهي جادة في صنع هاتين القنبلتين، وزادها غيظا أن أختها في الشيوعية دولة الاتحاد السوفييتي ضنت عليها في المساعدة على التوصل إلى هذا الغرض مع أن الولايات المتحدة لم تتحد الصين إلا بلسان الحال، بل هذه فرنسا قلبت ظهر المجن لحليفتيها الولايات المتحدة وبريطانيا لأنهما لم يشركاها فيما وصلتا إليه من صنع القنبلتين المذكورتين إلا بقدر ضئيل لا يشبع نهمها ولم يكن أحد من العرب المعادين للإسلام يقول إن الذي منعهم من معارضة القرآن هو وجود كلمات فيه غير عربية بل سلموا أنه كله عربي.
أما كتاب السيوطي الذي سماه "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب " فلا نعلم أنه موجود في هذا الزمان، لكن الملخص الذي نقله منه مؤلفه في كتاب الإتقان لا يدل على أن المؤلف مع غزارة علمه كان أهلا أن يؤلف في هذا الباب لأنه فيما يظهر لم يكن يعرف إلا اللغة العربية والمؤلف في هذا الموضوع يحتاج إلى إلمام باللغات التي قيل إن بعض مفرداتها قد عرب ودخل في القرآن، فإن لم يعلم بها كلها
(1) سورة البقرة الآية 23
(2)
سورة البقرة الآية 24
(3)
سورة الإسراء الآية 88
فلا أقل من الإلمام ببعضها، وأكثر علماء العرب مقصرون في علم اللغات، والذين يعرفون شيئا من اللغات الأخرى منهم قليل، وقد كان عمر رضي الله عنه يعرف اللغة العبرانية ويقرأ التوراة ويفهمها. وقال الترمذي في جامعه " باب تعلم السريانية " ثم روى بسنده إلى زيد بن ثابت قال «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم كلمات يهود وقال: بأني والله ما آمن يهود على كتابي قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت له وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم، (1)» هذا حديث حسن صحيح.
قال العالم الرباني أستاذي عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري رحمه الله رحمة واسعة في شرح هذا الحديث من كتابه "تحفة الأحوذي في شرح الترمذي " ج3 ص392. ما نصه: قال القاري: قيل فيه دليل على جواز تعلم ما هو حرام في شرعنا بالتوقي والحذر عند الوقوع في الشر كذا ذكر الطيبي في ذيل كلام مظهري وهو غير ظاهر إذ لا يعرف في الشرع تحريم تعلم شيء من اللغات سريانية أو عبرانية أو هندية أو تركية أو فارسية وقال تعالى في سورة الروم "22" {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (2) أي لغاتهم بل هو من جملة المباحات.
وهذا الحديث رواه أيضا أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وذكره في صحيحه تعليقا، ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابي الجليل كاتب الوحي زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود وفي رواية أمره أن يتعلم السريانية وعلل ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمن اليهود أن يكتبوا له إذا أراد أن يكتب إليهم أو يقرءوا إليه كتابا يأتيه منهم لئلا يزيدوا فيه وينقصوا ويبدلوا ويغيروا فتعلم زيد ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في نصف شهر وقد يشكل فهم هذا من وجهين: الأول: أن المعهود من اليهود أن يتكلموا أو يكتبوا بالعبرانية لا بالسريانية. الثاني: كيف يستطيع متعلم أن يتعلم لغة أجنبية في نصف شهر، والجواب عن الأول أن اليهود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بل في زمان عيسى ابن مريم عليه السلام وقبله
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2715)، سنن أبو داود العلم (3645)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 186).
(2)
سورة الروم الآية 22
بزمن لم يكونوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية لأنها كانت قد انقرضت ولم يبق منها إلا كلمات قليلة تردد في الصلوات وكان اليهود يكتبون علومهم الدينية والدنيوية ويتخاطبون بالسريانية وإنما جددوا العبرانية وأحيوها وبذلوا جهودا عظيمة في هذا العصر الأخير.
والجواب الثاني: أن زيدا لم يتعلم اللغة في نصف شهر وإنما تعلم الكتابة والقراءة، أما معاني لغة اليهود فكان يفهمها لأنها كانت ولا تزال قريبة جدا من لغة العرب، لأن قبائل من اليهود كانت مساكنة للأنصار، وتعلم اللغات الأجنبية للانتفاع بها في أمور الدين والدنيا أمر محمود إذا لم يكن على حساب لغة القرآن كما يفعل سكان المستعمرات المتهوكون في زمان الاستعمار وبعده فيهملون لغة القرآن وهي لغة دينهم وتاريخهم ومجدهم ويتعلمون لغة المستعمر ويتطاولون بها ويشمخون بأنوفهم ويتراطنون بها بغير ضرورة ويحتقرون شعوبهم لعدم استعمال تلك اللغة الأجنبية فهؤلاء أعضاء مجذومة في جسم الأمة يجب قطعها وهم يعلمون أن جميع الأمم تحتقرهم لأنه لا يكون لهم فضل بتعلمهم تلك اللغة الأجنبية إلا إذا أتقنوا لغتهم وكانوا أعضاء نافعين في أمتهم ولكن.
من يهن يسهل الهوان عليه
…
ما لجرح بميت إيلام
ثم قال: السيوطي قال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد.
قال محمد تقي الدين الهلالي: ابن جرير إمام المفسرين في زمانه وما بعده وقد أخطأ في هذا الرأي إذ لا يمكن أن تتكلم هذه الشعوب المتباينة في أنسابها ولغاتها والمتباعدة في أوطانها على سبيل المصادفة والاتفاق وتوارد الخواطر بتلك الكلمات الكثيرة العدد على أن الذين قالوا في القرآن كلمات كانت في الأصل غير عربية صارت بالاستعمال عربية لم يقل أحد منهم إن الكلمة التي أصلها فارسي قد اتفق فيها الفرس مع العرب والنبط والحبشة بل إذا كانت الكلمة فارسية كالأباريق مثلا لم
تكن حبشية ولا نبطية والكلمة التي قيل إنها حبشية "كابلعي" من قوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (1) لم يقل أنها توافق الفارسية والنبطية وهكذا يقال في سائر الكلمات كما سيأتي في ذكر الكلمات التي نسب أصلها إلى غير العربية، ثم قال السيوطي وقال غيره: بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتها بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غير بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، انتهى.
هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ثم ذكر السيوطي آراء أخرى يظهر زيفها عند الامتحان فأعرضت عن نقلها، ثم نقل عن الجويني ما معناه في القرآن وعد ووعيد، والوعد يذكر فيه ثواب المطيعين وما أعد الله لهم في الدارين مما تشتهيه أنفسهم ويرغبهم في فعل الطاعات وذلك يتضمن مآكل ومشارب وثيابا ومساكن طيبة وحورا عينا وفرشا طيبا وغلمانا للخدمة وبعض تلك الأمور وضعته أمم غير عربية وسمته بكلمات من لغاتها فنقله العرب عنها فصار في وصف النعيم والعيشة الراضية لا بد منه وضرب لذلك كلمة "إستبرق" مثلا وهو ما غلظ من ثياب الحرير، والسندس ما رق منها قال البيضاوي: وهو معرب "استبره" بالفارسية فلو أريد لتجنب استعمال كلمة إستبرق، فأما أن يترك ذكر هذا النوع من الثياب أصلا فلا يتم المطلوب وهو وصف العيشة الراضية، وأما أن يعبر عنه بكلمتين أو أكثر كثياب الحرير الغليظة فتفوت البلاغة إذا فلا بد من التعبير به ليكون الكلام بليغا.
ثم قال السيوطي قال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع من أهل العربية، والصواب عندي مذهب فيه تطبيق القولين مجتمعين، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمي كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية ثم نزل القرآن بها وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فصادق، ومال إلى هذا القول الجوالقي وابن الجوزي وآخرون، انتهى.
(1) سورة هود الآية 44
الكلمات المشتركة
أول القرآن "بسم الله الرحمن الرحيم" اشتملت على أربع كلمات اسم، الله، الرحمن، الرحيم، أبدأ بالكلام على الرحمن قال السيوطي في كتاب الإتقان: ذهب المبرد وثعلب إلى أنه عبراني وأصله بالخاء المعجمة. قال السيوطي في تفسير قوله تعالى في سورة الفرقان "60"{قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (1) الآية. . . لأنهم ما كانوا يطلقونها على الله، أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيرهم ولذلك قالوا، أنسجد لما تأمرنا؟ أي للذي تأمرنا يعني تأمرنا بالسجود له أو لأمرك لنا من غير عرفان، وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه. انتهى.
وهذا يدل على ما قلته سابقا من جهل أكثر علماء العرب باللغات حتى أخوات لغتهم كالعبرانية والسريانية، فالرحمن كلمة عربية خالصة من الرحمة بزيادة الألف والنون كضمآن وعطشان وكانت العرب تعرفه وتفهم معناه وقد سموا به مسيلمة الكذاب فكانوا يدعونه "رحمن اليمامة" ولكنهم لجهلهم لم يكونوا يعلمون أنه من أسماء الله. ومن أعجب العجب قولهم أنه عبراني وأن أصله بالخاء المعجمة، والخاء المعجمة لا وجود لها في العبرانية استقلالا؟ وإنما تنطق الكاف بها إذا جاءت قبلها حركة مثل "ها براخا" البركة ومثل باروخ، أي مبارك، ومعناه بالعبرانية هو معناه بالعربية إلا أنه في اللغة العبرانية صفة عامة لكل من في قلبه رحمة ليس خاصا بالله تعالى، إذا فهو من الكلمات المشتركة بين العبرانية والعربية وهي كثير تعد بالآلاف، وهذه الكلمات الأربع التي في البسملة كلها مشتركة بين اللغتين، فالاسم (شم) بإبدال السين شينا وذلك كثير في العبرانية، والله "إلوهيم" والرحمن "هارحمن" وهذه الكلمات الكثيرة المشتركة بين اللغات السامية هي أصيلة في كل واحدة منها لا يقال إن إحداهن أخذتها من الأخرى وهذا هو الشأن في كل مجموعة من اللغات ترجع إلى أصل واحد كاللغات اللاتينية كالإيطالية والأسبانية والفرنسية والرومانية والبرتكالية، ومجموعة اللغات الجرمانية كالألمانية والهولاندية والفلمنكية والسويدية والنرويجية والدانمركية.
(1) سورة الفرقان الآية 60