الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالبعث والجزاء تحقيقا لعدالته وحكمته - ولكنها أخطأت في مفهوم البعث، فقالوا: إنه بعث روحي لا جسمي، وإن الله العدل الحكيم سيجزي الأرواح على الخير خيرا وعلى السوء سوءا - أما الأجساد - فقد بليت ولن تعود.
نسأل هذه الطائفة: لقد اعترفتم بالإله، وبعدله - وهذا حق {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) فما سبب إنكاركم للبعث الجسماني - مع أن الإله قد أخبر عنه ووعد به نصا صريحا لا يحتمل غير الحقيقة السافرة التي لا تجوز فيها ولا كناية، واقرءوا ذلك في مئات الآيات وعشرات السور من كتاب الله، وكلماته التامة صدقا وعدلا. ولولا خشية الإطالة لسبحت بكم سبحا طويلا في هذه الآيات البينات التي لا تحف بها أي قرينة تصرفها عن المعنى الحقيقي إلى مجاز أو كناية.
(1) سورة الكهف الآية 49
(7 -
الشبه التي أثارها منكرو اليوم الآخر) - والرد عليها
لقد أثار منكرو البعث الجسمي في سبيل هذه العقيدة شبها يمكن حصرها فيما يلي:
1 -
قالوا: إن إعادة الشيء الذي انعدم وفنى مستحيلة، فكيف تقولون بها؟
2 -
وقالوا: إن الإنسان إذا بلى تفتت أجزاؤه، وتحللت عناصره، وتناثرت ذراته، وضلت، وبخاصة إذا حرقت وذريت، وصارت واحدة منها إلى قاع بحر، وثانية إلى قمة جبل، وثالثة في أقصى الشرق، ورابعة في أقصى الغرب، وهكذا. . . فكيف تجمع وتعاد كما كانت؟؟
3 -
وقالوا: الحياة لا بد لها من حرارة، وقد ذهبت حرارتها بالموت والبلى، فأنى لها هذه الحرارة وكيف تعود؟
4 -
وقالوا: إن الذي خلق هذا الكون العجيب المليء بالإبداع والدقة قد بذل جهدا يضني، وطاقة تعيي تعالى الله عن ذلك - فكيف يقدر على إعادته، ومن أين له بهذه الطاقة وذلك الجهد؟؟
5 -
وقالوا: إنه قد أفرغ الغاية في إبداع العالم - فما الداعي لتخريبه؟
ألا يكون ذلك عبثا؟
6 -
قالوا: إن منهجنا علمي تجريبي، لا نؤمن إلا بما تدركه حواسنا، ولا نصدق بشيء وراء الحس.
7 -
وقالوا: إذا أكل إنسان إنسانا آخر وهضمه، وصار جسم المأكول في جسم الآكل، فكيف يعودان؟ أيعود الشخصان وقد صارا جثة واحدة؟ أم يعود واحد منهما فقط وأين الثاني؟
8 -
وقالوا: إذا فرضنا (أن زيدا من الناس) مر بطورين: كفر وإيمان، وكان في أحدهما هزيل الجسم، وفي الطور الآخر سمينا فهل يعاد هزيلا فلا تنال الأجزاء التي كانت تسمنه جزاءها؟ أم يعاد سمينا فتنال هذه الأجزاء جزاء ما لم تكن تستحقه لأنها لم تكن موجودة؟ هذه هي الشبه التي أثاروها - ثمان - ولا شيء بعد ذلك، وقد تكفل القرآن بالرد عليها، وتفنيدها واحدة واحدة، ردا محكما لا يترك ثغرة لمرتاب، وبأسلوب هو غاية الإعجاز في الإتقان والإحكام، حتى لا تكون لفيلسوف حجة ولا شبه حجة، وهو أيضا غاية الإعجاز في اليسر والسلاسة والرحابة، حتى لا يعجز الإنسان العادي بفطرته عن فهم العقيدة، والإيمان بها إيمانا صحيحا جازما وافرا في قلبه، آخذا عليه أرجاء نفسه.
وذلك، لأن هذا الدين لم يجئ لطائفة دون أخرى - بل هو دين الفطرة، ورسالة الله للعالم كله بعث به خاتم رسله ليكون للعالمين نذيرا، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1).
الرد على هذه الشبه:
1 -
في الشبهة الأولى تستبعدون البعث، وتقولون: إن إعادة المنعدم مستحيلة ونرد عليكم بأن الإعادة أسهل من البدء (في مقاييسنا نحن البشر) - أما أمام
(1) سورة القمر الآية 17
قدرة الله فالبدء والإعادة سواء، كلاهما على الله يسير واسمعوا لرد القرآن الكريم:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (1){كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (2){قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (3){أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (4)؟ فكيف يعجز سبحانه وتعالى عن إعادته؟ مع أنه قد كان شيئا {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} (5){اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (6).
2 -
قلتم: كيف تجمع العناصر والذرات، بعد أن ذهبت بددا، وضلت ضبطا وعددا؟ وصارت مجهولة المكان والجواب: أن جمعها، وإيجادها وإعادتها كما كانت لا تحتاج إلا لشيئين:
علم: تام محيط إحاطة كاملة بمقاديرها، وعددها، وأماكنها وكل ما يتصل بها.
وقدرة: كاملة تبرزها من العدم، أو تجمعها من الشتات، وترجعها كما كانت.
والعلم والقدرة من صفات الإله الحق الذي خلق هذا العالم المحسوس أمامكم مليئا بآثار القدرة، وأسرار العلم والحكمة، وأنتم أنفسكم تكشفون كل يوم جديدا، وفي كل شيء له آية، تدل على قدرته الكاملة وعلمه الشامل، وحكمته السامية واسمعوا لرد القرآن الكريم على هذه الشبهة، إذ يثبت صفة العلم، وصفة القدرة فيقول:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (7){أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (8) إلخ السورة (سورة ق).
(1) سورة الروم الآية 27
(2)
سورة الأعراف الآية 29
(3)
سورة يس الآية 79
(4)
سورة مريم الآية 67
(5)
سورة الحج الآية 66
(6)
سورة يونس الآية 34
(7)
سورة ق الآية 4
(8)
سورة ق الآية 6
{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (1){وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2){يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (3){إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (4).
واقرءوا ما شاء الله أن تقرءوا من سور (يونس، والرعد، والحجر، والنحل، والمؤمنون، والنمل، والروم، ولقمان، والسجدة، وسبأ، وفاطر، وياسين، والصافات، وذوات "حم". .) وغيرها.
3 -
في الشبهة الثالثة: قلتم: لا بد للحياة من حرارة وقد ذهبت الحرارة بالموت والفناء، فكيف تعود؟
والجواب: أيصعب على القادر العليم الذي أوجد الحرارة ثم أفقدها أن يوجدها في العودة؟ ثانيا: وها نحن أولاء أبناء البشر مع ضعفنا وعجزنا قد استطعنا بما كشفنا من قوانين ونواميس وضعها رب هذا الكون في الكون وعلمناها بما شاء من وسائل التعليم أن نعيد الحرارة بعد ذهابها بالضغط على زر كهربي أفيجوز بعد ذلك أن نتساءل هذا التساؤل الساذج القائل: من ذا الذي يستطيع أن يوجد الحرارة بعد ذهابها من الجسم بموته أو بتمزقه أو بفنائه؟ واسمعوا لرد القرآن الكريم على هذه الشبهة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} (5)
(1) سورة يس الآية 79
(2)
سورة سبأ الآية 3
(3)
سورة الحديد الآية 4
(4)
سورة لقمان الآية 16
(5)
سورة يس الآية 80
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} (1){أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} (2){نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} (3).
4 -
قلتم: إن خلق العالم أجهده وأعياه، فلا يستطيع أن يعيده بعدما أفناه.
وهذه شبهة تثير الضحك الساخر، ولا أجد لها ردا أبلغ ولا قطعا أحسم من حالتكم إلى النظرة في العالم وصنعته، والتأمل في القرآن وحجته:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (4)؟ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) - إنما يعيا ذو القدرة المحدودة، الذي يبذل جهدا في العمل، ويحتاج لآلة أو طاقة، أما الإله القادر على كل شيء فهو كما قال:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (6){وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (7).
5 -
قلتم: إن حكمة الله وعظمته تجلت في إبداع هذا العالم، فما هو الداعي لتخريبه وإبداله بعالم آخر؟ ونقول لكم: إن حكمة الله وعظمته أكبر مما تجلى في هذا العالم الذي خلقه قابلا للفناء، ولو كانت حكمته محدودة بهذه الدنيا الفانية لكان خلقها كاللعب والعبث - وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(1) سورة الواقعة الآية 71
(2)
سورة الواقعة الآية 72
(3)
سورة الواقعة الآية 73
(4)
سورة ق الآية 15
(5)
سورة الأحقاف الآية 33
(6)
سورة يس الآية 82
(7)
سورة ق الآية 38
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (1){مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَاّ بِالْحَقِّ} (2){رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} (3){أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (4){فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (5).
6 -
قلتم: إن منهجكم علمي تجريبي، وإنكم لا تصدقون إلا بالحس والمشاهدة، ولا تعترفون بغيب وراء هذه المادة.
ونقول لكم:
أولا: هل شاهدتم الكهرباء؟ هل عرفتم حقيقة المغناطيسية؟ هل أبصرتم الروح التي بين جنبيكم؟ هل تصدقون بأن حولكم ملايين الأحياء الدقيقة التي لم تعرفوها إلا منذ عهد قريب، وبواسطة الميكروسكوب ونحوه عرفتم عن بعضها شيئا، وأن ما خفي منها أكثر، وأن ما جهلتم أضعاف ما علمتم؟ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلًا} (6) ومع ذلك سنتنزل معكم ونسألكم:
ثانيا: ماذا تريدون (بالمحسوس) الذي لا تؤمنون إلا به؟ أتريدون محسوسا يرى بالعين، أو يسمع بالأذن، أو يشم بالأنف، أو يقبض عليه باليد؟؟؟
إن كثيرا من الأشياء موجودة، ولكنها لا رائحة لها، ولا مذاق لطعمها، ولا يمكن أن تمسك باليد وأنتم تعرفونها ولا تنكرونها وتستدلون على وجودها بآثارها، وما يصدر عنها من رائحة أو غير رائحة.
ثم إذا أردتم (وسائل إيضاح) ونماذج محسوسة مشهودة بالأبصار تقرب لحسكم عملية البعث، كما تقرب (وسيلة الإيضاح) المعلومات للتلميذ الصغير
(1) سورة الأنبياء الآية 16
(2)
سورة الدخان الآية 39
(3)
سورة آل عمران الآية 191
(4)
سورة المؤمنون الآية 115
(5)
سورة المؤمنون الآية 116
(6)
سورة الإسراء الآية 85
فإليكم تلك النماذج، أعرض منها سردا وأترككم لتفكروا بعقولكم التي تؤمنون بوجودها مع أنكم لا تشاهدونها ولا تعرفون إلا آثارها.
وإليكم: نماذج واقعة يحدثنا التاريخ الصادق عنها، وعن بعثها من مماتها: قصة أصحاب الكهف، وبقرة بني إسرائيل {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وقصة {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (2) وطيور إبراهيم عليه السلام {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} (3).
7 -
قلتم: إذا أكل شخص شخصا آخر فكيف يعودان؟
ورد عليكم علماء الكلام بأن لكل إنسان أجزاء أصلية، وأجزاء أخرى إضافية أو فضلات بالنسبة للأجزاء الأصلية، وأن الأجزاء الأصلية في أحد الجسدين تكون زوائد أو فضلات في الجسد الآخر فتعود في الجسد الذي هي أصلية فيه.
وهنا أحتفظ لنفسي برد آخر لهذه الشبهة وللشبهة الآتية الثامنة والرد عليها. .
8 -
قلتم: كيف يبعث المؤمن الذي كفر، أو الكافر الذي آمن؟ إذا كان هزيل الجسم أو سمينه ثم تحول جسمه في إحدى الحالتين؟ ورد علماء الكلام بمثل ما قالوا في الرد على الشبهة السابعة السابقة.
(1) سورة البقرة الآية 73
(2)
سورة البقرة الآية 259
(3)
سورة البقرة الآية 260
ولي هنا وقفتان: وقفة أسألكم فيها، ووقفة أحدثكم بها:
فأما السؤال: فعن إنسان ارتكب ما يوجب القصاص، ثم فر من العدالة لمدة طويلة، تحول في تلك المدة جسمه من غليظ جدا إلى هزيل جدا، أو بالعكس، ثم وقع في قبضة العدالة، فماذا ترون؟ أنعفيه من العقوبة أو نغلظها عليه أو نخففها عنه بحجة أن جسمه قد تغير عما كان عليه وقت أن ارتكب الجريمة، وأن أجزاء جسمه الحالية غير التي كانت عند مزاولته للجناية؟؟
أظنكم تتفقون معي في أن العدالة تقتضي أن يأخذ جزاءه مهما تغير جسمه، لأن ذاته لم تتغير، ولأن الزيادة والنقص أمور عارضة لم تغير من ذات الشخص.
هذه هو السؤال وجوابه.
أما الحديث الذي أسوقه لكم فمضمونه أن للحياة الآخرة قوانين ونواميس وخصائص، تتناسب معها، ومع صلاحيتها للبقاء الأبدي، وأن السنن التي تسير عليها حياتنا في هذه الدنيا لا تتحكم في حياتنا الآخرة والأبدية، لأنها نشأة أخرى، لا نعرف من تفاصيلها ولا من سننها ونواميسها وما تكون عليه، إلا ما علمناه ربنا بوحيه: كتاب كريم، أو سنة صحيحة، قال تعالى:{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (1){عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} (2) أي وما نحن بعاجزين أن نغير أحوالكم، ونخلقكم خلقا جديدا في حال وبنواميس وسنن ليست معروفة لكم الآن.
وإنا لنشاهد في حياتنا هذه ألوانا وصورا من الحياة يختلف بعضها عن بعض في خصائصها ومميزاتها، فحياة النبات ليست كحياة الحيوان، حياة الحيوانات كما ذكرنا سابقا متفاوتة في الرقي والانحطاط، بل إن الإنسان نفسه تختلف حياته في منامه عن حياته في يقظته، وإنه ليمر في رحلته بأطوار من الحياة لكل طور منها خصائص ومميزات تغاير خصائص الأطوار الأخرى ومميزاتها.
فحياته وهو جنين في بطن أمه، غير حياته وهو على ظهر الأرض، وهذه تغاير
(1) سورة الواقعة الآية 60
(2)
سورة الواقعة الآية 61
حياته البرزخية في بطن الأرض، وكل هذه الحيوات تغاير الحياة الآخرة، وإليك عرضا موجزا جدا لهذه الأطوار من الحياة.
حياته وهو جنين: تحتاج لحيز لا يتعدى شبرا تقريبا، ولا تمتد أكثر من مدة الحمل (تسعة أشهر أو أربع سنوات هلالية) ويكفيه فيها من الغذاء غذاء ملوث ممزوج بالفضلات والدماء، ويستنشق من الهواء حبيسا لا يرى شمسا ولا قمرا. . ثم من يدري؟ لعله في حياته الضيقة هذه ينعم ببحبوحة رحيبة، لو كان مختارا لآثر البقاء فيها على الدنيا الفسيحة، ولعل في صراخه حينما يغادرها إلى دنيا الناس إشارة إلى أسفه على تلك الحياة التي نراها نحن حياة حبس وضيق.
فإن هو ترك هذا الطور من الحياة استقبل طورا ثانيا هو:
حياته على ظهر الأرض: وهي ذات خصائص ومميزات غير السابقة: فبدل المكان المحدود بنحو شبر سيجد أمامه آلاف الأميال في طول الدنيا وعرضها، وبدل الزمان المقدر ببضع سنوات على الأكثر قد يمتد عمره إلى عشرات السنين، وربما جاوز قرنا من الزمان، وبدل الغذاء المستقذر، والهواء الحبيس يطعم الماء العذب النمير، والغذاء الشهي النقي السخي، ويشم الهواء الصافي المستطاب، ويستمتع بالفراش الوثير، وبدفء الشمس، وضوء القمر، وغير ذلك من أنواع المتع التي تجعله يتشبث بهذه الحياة، حتى إنه لو كان مختارا لما رضي أن يفارقها. فإذا ما قدر له فراقها (ولا بد من ذلك) فإلى صورة ثالثة أو لون ثالث من ألوان الحياة، وذلك هو:
الحياة البرزخية: في بطن الأرض، وتلك حياة لا نعرف من خصائصها إلا نوعين:
نوع محسوس ندركه بأعيننا، وأمر مغيب يحدثنا عنه وحي الله بالقرآن أو السنة: أما المحسوس الذي نراه فمكان لا يتعدى مترين في نصف متر تقريبا وزمان قد يطول أو يقصر ينتهي عند قيام الساعة، ومتى تكون؟ علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو (ولا تأتيكم إلا بغتة) ثم لا غذاء، ولا هواء ولا أنيس، ولا
جليس هذا هو الذي يظهر لحواسنا من فترة البرزخ.
وأما حديث الوحي عنها: فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، (إما) حواصل طيور خضر تسبح في فراديس الجنة، ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا، {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1){فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ} (2).
(وإما) النار: {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} (3).
هذه صورة ثالثة من صور حياة الإنسان وكل هذه الأطوار صور للحياة الأولى في هذه الدنيا، أما الصورة الرابعة فهي الحياة الآخرة، ولها خصائص ونواميس غير ما للحياة الدنيا، لأن الله تعالى حكم ببقائها منحة منه وفضلا {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (4) وجعل لها سننا ونواميس لا نعلمها نحن الآن، فمثلا لا ينال أهلها في الجنة منغصات ولا شيب، ولا مرض، ولا هرم. . .
كما لا يلحق أهل النار فيها موت يريحهم، ولا إيلاف يخفف من عذابهم، بل {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} (5) ولو كانت سنن الحياة الدنيا تسري عليها لانصهروا وماتوا.
ويكفي أن نعرف عن هذه الحياة الآخرة أنها آتية لا ريب فيها، وأن كل ما حدثنا به القرآن الكريم، والنبي الصادق الأمين عنها فلا بد منه.
أما تفاصيل نواميسها، وقوانين نظامها، فمن رحمة الله بنا أنه لم يكلفنا بذلك، لأنه سبحانه لا يكلف عباده إلا بما يطيقون {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} (6).
(1) سورة آل عمران الآية 169
(2)
سورة آل عمران الآية 170
(3)
سورة غافر الآية 46
(4)
سورة المائدة الآية 1
(5)
سورة النساء الآية 56
(6)
سورة البقرة الآية 286
يكفي أن تتصور عن (نعيمها) ما قال الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (1).
ويكفي أن تتصور من (عقابها) - عافانا الله وإياكم {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} (2){يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (3){وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} (4).
كيف تقطع النار ثيابا؟ كيف تصهر الأمعاء والأحشاء بالحميم الذي يصب من فوق الرؤوس؟ وهل يبقى فيهم بعد انصهارهم ما يضرب بمقامع الحديد؟ كيف؟
إن الأمر لو كان على سنن الدنيا وقوانينها لأدى إلى موتهم، ولكن ذلك يحقق لهم طلبتهم من مالك خازن جحيمهم، والله لا يريد أن يخفف عنهم من عذابها ولا أن يقضي عليهم فيموتوا، ولذلك جعل لهذه الحياة الأبدية نظاما وسننا غير التي نعرفها في هذه الحياة الدنيا.
لعلك يا - أخي القارئ - تدرك من سؤالي هذا وحديثي هذا ما يرد الشبهتين الأخيرتين، السابعة والثامنة.
ولعلك بهذا تزداد إيمانا ورسوخا بأن الساعة آتية لا ريب فيها، ولعلك لا تخوض مع الخائضين بسؤال لا يقدم ولا يؤخر في هذا الأمر كما كان الكفار يخوضون {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} (5)؟ {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} (6).
ولعلك بهذا اليقين الوافر في قلبك تتزود لهذا اليوم الآخر بعمل صالح وسلوك حسن، {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (7).
(1) سورة السجدة الآية 17
(2)
سورة الحج الآية 19
(3)
سورة الحج الآية 20
(4)
سورة الحج الآية 21
(5)
سورة الأنبياء الآية 38
(6)
سورة الأحقاف الآية 23
(7)
سورة البقرة الآية 197
8 -
قطاف الفرد للثمرة
إن الذي يؤمن بهذا اليوم الآخر، وبما يكون فيه من الجزاء والدين ليحيا حياة الآمن المطمئن، لثقته وجزمه بأنه لن يضيع ما وفق له من عمل صالح، وبأن هناك عدالة مطلقة تحفظ له حقوقه التي ضاعت منه في هذه الدنيا {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1) - وكفى بهذه الطمأنينة، والرضا، ثمرة تجنى في هذه الدنيا، وما عند الله أبقى، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} (2).
(1) سورة التغابن الآية 11
(2)
سورة آل عمران الآية 198
9 -
ثمرة يقطفها المجتمع المؤمن باليوم الآخر
أما الثمرة التي يقطفها المجتمع الذي آمن بالله واليوم الآخر، وصدق إيمانه عمله الصالح، وسلوكه الحسن، واستعداده للقاء هذا اليوم، وتزوده بخير الزاد فثمرة طيبة يانعة وحياة كريمة مرضية مستطابة، مظللة بالأمن والاستقرار، والطمأنينة والرضا.
وقد تكلمت عن شيء من جني هذه الحياة، ووازنت بينها، وبين حياة المجتمع الكافر باليوم الآخر، في صدر حديثي هذا - فارجع إليه إن رغبت.
أما الثمرة التي يجنيها هذا المجتمع المؤمن في الدار الآخرة الباقية، فنعيم لا ينفد، وحياة لا تنقطع ولا تهدد، وصفاء لا يكدر ولا ينكد، ورؤية لا تماثلها ولا تدنو من جمالها وجلالها رؤية، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1){وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (2){لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (3).
(1) سورة يونس الآية 26
(2)
سورة الحجر الآية 47
(3)
سورة الحجر الآية 48
وصل وسلم على عبدك ورسولك الذي علمنا الخير ودعانا إليه، وعلى آله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين.
الغزالي خليل عيد
(1) سورة آل عمران الآية 194