الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه المزايا الأربع: (التفكير، والقصد، والقدرة، والصلاحية للخير وللشر). لم تكتمل للإنسان كلها دفعة واحدة، ولا في وقت واحد - بل إنه - قبل اكتمالها فيه - مر بأطوار مادية متعددة، تقع تلك الأطوار المادية، وتتكرر بتكرر الأفراد أمامنا، ولا ينكرها أي إنسان - وقد صرحت بها آيات من كتاب الله الكريم. في أكثر من موضع.
(نظرة متدبرة في آيات القرآن)
لقد نظرنا في آيات الله (الكونية) وعرفنا يقينا أن الإنسان نشأ متنقلا ومتطورا من حالة إلى حالة، من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى أن صار إنسانا سميعا بصيرا، فإذا نظرنا في آيات الله (القرآنية): نراها قد صرحت بذلك تصريحا لا غموض فيه، وقررت حقائق لا يشك فيها أي إنسان ولا يمكن أن ينالها شيء من الارتياب، ففي (سورة المؤمنون) يقول تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1){ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} (2) إلخ الآية، وفي سورة المؤمن يقول:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} (3) إلخ الآية، وفي سورة الحج يقول:{إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} (4) إلخ الآية، وفي سورة الروم يقول:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (5){وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (6).
ويلاحظ القارئ الكريم أن هذه الآيات وأمثالها بعد أن ذكرت نشأة الإنسان وتدرجه المادي من تراب إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة. . . إلى أن صار إنسانا سميعا
(1) سورة المؤمنون الآية 12
(2)
سورة المؤمنون الآية 13
(3)
سورة غافر الآية 67
(4)
سورة الحج الآية 5
(5)
سورة الروم الآية 54
(6)
سورة الروم الآية 55
بصيرا صالحا لانتهاج سبيل الخير أو الشر أتبعت ذلك التدرج الذي لا شك فيه بقضيتين اثنتين:
القضية الأولى: قضية يقينية أيضا متفق عليها لا ينازع فيها كافر ولا مؤمن، ولكنها مع تيقنها ومشاهدتها والجزم بوقوعها - تشبه الشك عند الناس، بمعنى أنهم يتصرفون في حياتهم ومسالكهم تصرفا لا يشعر باستعدادهم لها، كأنها في نظرهم لن تقع ولن تكون - تلك القضية هي (قضية الموت) التي قال في شأنها (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه:"ما رأيت يقينا أشبه بالشك من الموت".
والقضية الثانية: قضية يقينية مثل أختها، لكنها ليست محل اتفاق بين الناس: فمنهم مؤمن بها جازم بتحققها ووقوعها - ومنهم منكر لها جاحد لتصديقها بل كافر بإمكانها مستهزئ بمن يخبر بها أو يطالب الناس أن يؤمنوا بها.
ومنهم صنف ثالث متحير مرتاب، متردد بين التصديق بها والتكذيب وصدق الله العظيم:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (1){عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} (2){الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} (3).
هذه القضية الثانية: هي قضية (البعث بعد الموت)، أو قضية (الإيمان باليوم الآخر، والجزاء العادل).
هاتان القضيتان: (أعني الموت، ثم البعث) - ذكرتا عقب الأطوار السبعة التي مر بها الإنسان في نشأته المادية فهما طبقان من الأطباق التي يركبها الإنسان واحدا بعد واحد {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} (4). واقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (5) إلى أن تصل إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (6){ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (7) فسترى أنهما ذكرتا نصا صريحا بعد الأطوار السبعة التي سلمنا بها، واتفقنا على أنها واقعة بلا شك ولا ارتياب، وهاتان
(1) سورة النبأ الآية 1
(2)
سورة النبأ الآية 2
(3)
سورة النبأ الآية 3
(4)
سورة الانشقاق الآية 19
(5)
سورة المؤمنون الآية 12
(6)
سورة المؤمنون الآية 15
(7)
سورة المؤمنون الآية 16
القضيتان: مصورتان تصويرا عمليا، كما تصور وسائل الإيضاح - في نماذج متعددة وفي مظاهر مشهودة في الصباح وفي المساء، وفيما بينهما:
ينام الإنسان، فيموت الموتة الصغرى، ثم يستيقظ فيحيا من موتته، فيقول إما بحاله أو بمقاله:«الحمد الله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور (1)» - أليس ذلك نموذج للحياة بعد الممات؟ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (2).
تيبس الأرض، وتهمد وتخمد وتموت، ثم ينزل عليها ماء السماء، وهو - كما تعلم - جماد لا روح فيه - ولكن بنزوله على الأرض الميتة تحيا بعد موتها، وتتمخض عن ألوان لا حصر لها من أولادها الأحياء - يا للعجب!! ميت يلتقي بميت فتنبعث منهما الحياة!! سبحان الله، صنع الله الذي:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (3).
تذبل الشجرة: وتذوي أوراقها، وتضمر وتساقط ثمارها، ويجف ويغيض ماؤها، ثم تكون حطاما يتناثر في أحشاء الأرض، ويضطمر في بطنها، ويصير ترابا من ترابها، ثم لا تلبث الشجرة أن تنبت وتعود مورقة زاهية الإيراق، ناضرة الزهر، يانعة الثمر - ممه؟ من ماء ميت العناصر (أيدروجين وأكسوجين) ومن تراب ميت العناصر أيضا. . . ومثل الشجرة قل في الحبة والبقلة، واقرأ واستمع وتمعن في قول ربك القدير:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} (4){وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (5){رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (6).
ولن أطيل عليك الحديث، ولكني أدعوك مرة ثانية لإطالة النظر والإمعان فيما ترى من آيات الله في الأكوان، وفيما تقرأ وتسمع من آياته البينات في كتابه الكريم.
(1) صحيح البخاري الدعوات (6314)، سنن الترمذي الدعوات (3417)، سنن أبو داود الأدب (5049)، سنن ابن ماجه الدعاء (3880)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 387)، سنن الدارمي الاستئذان (2686).
(2)
سورة الزمر الآية 42
(3)
سورة الروم الآية 19
(4)
سورة ق الآية 9
(5)
سورة ق الآية 10
(6)
سورة ق الآية 11