الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الشيخ ابن عثيمين - " والله لو أننا سرنا على هدى هذا الحديث لاسترحنا كثيرا "(1).
(1) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/ 463 - 464).
المبحث الأول: قوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف
…
(1)»
استهل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بقوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير (2)» .
فمن هو المؤمن؟
المؤمن: هو الذي يؤمن بوجود الله عز وجل، وبربوبيته وبأسمائه وصفاته وبأحكامه وأخباره، وكل ما يأتي من قبله عز وجل راجيا ثواب الله، خاشيا عقابه (3).
وهل جميع الناس سواء في الإيمان؟
لا. فالناس تتفاضل في الإيمان، فإخبار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بأن المؤمن القوي، فالمراد القوي في إيمانه وليس في بدنه؛ لأنه لو كان يقصد قوة البدن لم يقل صلى الله عليه وسلم المؤمن ولقال: جسد المؤمن أو جسم المؤمن.
(1) صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(2)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(3)
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/ 396)، ولسان العرب لابن منظور (13/ 24).
قال الشيخ العثيمين: وهل يدخل في ذلك قوة البدن؟
الجواب: لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد على إيمانه أو يزيد ما يقتضيه؛ لأن " القوي " وصف عائد على موصوف وهو المؤمن؛ فالمراد: القوي في إيمانه أو ما يقتضيه، ولا شك أن قوة البدن نعمة، إن استعملت في الخير فخير، وإن استعملت في الشر فشر " (1).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي - المؤمن الضعيف، لدليل قوي على أن من الناس من يكون إيمانه قويا لا يزعزعه شيء، وهناك من يكون إيمانه ضعيفا.
فالخيرية قائمة بين المؤمنين في صفة الإيمان، فمن كان إيمانه قويا فهو خير وأحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف الذي لا يقوم بواجباته على أكمل وجه، وإنما هو مقصر كثيرا.
ولئلا يتوهم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خيرية فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" وفي كل خير " فالمؤمن الضعيف خير من الكافر لا شك في ذلك.
(1) القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2/ 366).
فإن قيل: إن الخيرية معلومة في قوله: " خير وأحب " لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف؟
فالجواب: أنه قد يخرج عن الأصل، كما في قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} (1)، مع أن أهل النار لا خير في مستقرهم. كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة:" خير وأحب " صار في نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه، فإذا قيل:" وفي كل خير " رفع من شأنه ونظيره (2) قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (3).
ومما يؤخذ من هذا الجزء من الحديث أمران:
الأمر الأول: إثبات زيادة الإيمان ونقصانه
أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي" في مقابلة " المؤمن الضعيف " فدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة وهو المأثور عن الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى عصرنا هذا، وأقوالهم منثورة في الآفاق، فلم يخل عصر ولا
(1) سورة الفرقان الآية 24
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2/ 367).
(3)
سورة الحديد الآية 10
مصر من قائم بدين الله من أهل السنة والجماعة مبينا لهذا الأصل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -: " وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص "(1).
وقال الأصبهاني -: " والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص، زيادته البر والتقوى، ونقصانه الفسوق والفجور ".
وقد بدع الأوزاعي - من زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص
(1) مجموع الفتاوى (7/ 672).
فقال: " الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فهو صاحب بدعة ".
وقد احتج من قال إن الإيمان يزيد ولا يتقص بقوله: إن النقص لم يرد في القرآن الكريم بل كل ما ورد فيه زيادة.
قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (1)، وقال تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (2).
نقول له وبالله التوفيق:
1 -
" بثبوت هذه الآيات يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة "(3).
2 -
من لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد، وعلى هذا يكون القرآن دالا على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل
(1) سورة المدثر الآية 31
(2)
سورة الفتح الآية 4
(3)
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، دار الفكر (1/ 47).
ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن (1)» يعني: النساء.
والإيمان يزيد بالكمية والكيفية؛ فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية (2)؛ ولهذا قال إبراهيم عليه السلام:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (3).
المخالفون في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه:
1) الوعيدية: - من الخوارج والمعتزلة - لا يقرون بزيادة
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب نقصان الإيمان (1/ 86) عن ابن عمر رضي الله عنه. وأخرجه البخاري، كتاب (6) الحيض، باب (6) ترك الحائض الصوم، فتح الباري (1/ 405) ح (304).
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2/ 737).
(3)
سورة البقرة الآية 260
الإيمان ونقصانه، وأنه مراتب ودرجات، فالإيمان عندهم إذا ذهب بعضه ذهب كله.
أما تجويزهم زيادته فمن جهة اختلاف الناس في وجوب التكاليف في وقت وحال دون الأخرى.
2) المرجئة القائلون بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واعتبروا زيادته في الآيات والأحاديث تجدد أمثاله.
الأمر الثاني: إثبات صفة المحبة لله تعالى:
أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم: " وأحب إلى الله " فهنا أثبت صلى الله عليه وسلم لله عز وجل محبة حقيقية تليق بجلاله تعالى، كما يقال ذلك في سائر الصفات.
والمحبة من صفات الله عز وجل الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف، قال تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1).
(1) سورة المائدة الآية 54
وأجمع السلف على ثبوت المحبة لله تعالى يحب ويحب، فيجب إثبات ذلك حقيقة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل (1).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -: " إن للناس في هذا الأصل العظيم ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى يحب ويحب كما قال
(1) التمثيل: هو إثبات الصفات لله ممثلا له بخلقه، المصدرين السابقين.
تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1).
فهو المستحق أن يكون له كمال المحبة دون ما سواه، وهو سبحانه يحب ما أمر به، ويحب عباده المؤمنين، وهذا قول سلف الأمة وأئمتها، وهذا قول أئمة شيوخ المعرفة.
القول الثاني: أنه يستحق أن يحب لكنه لا يحب إلا بمعنى أنه يريد، وهذا قول كثير من المتكلمين ومن وافقهم من الصوفية.
القول الثالث: أنه لا يحب، ولا يحب، وإنما محبة العباد له إرادتهم طاعته، وهذا قول الجهمية ومن وافقهم من متأخري أهل
(1) سورة المائدة الآية 54
الكلام والرازي.
وقد يحاولون إيجاد مسوغ لهذا التصرف حيث يزعمون: أن المحبة لا تكون إلا بين متناسبين.
وبهذه الشبهة الفاسدة ردوا صفة من صفات الله تعالى الثابتة له وتوجب للمحب يدرك محبوبه فرحا ولذة وسرورا إلى آخر ما هنالك من الثرثرة العقيمة التي نعرفها لأهل الكلام.
والجواب عن هذه الشبهة الواهية: أن ما ذكروه من لوازم (محبة) المخلوق التي تعرف حقيقتها وحقيقة صاحبها، لا تلزم
(محبة) الله الذي ليس كمثله شيء، الذي لا نحيط به علما ذاتا وصفة سبحانه ما أحلمه؟! يسمع خوض الخائضين وحذلقة المتحذلقين ثم يمهلهم، ولا يعاجلهم لعلهم يتوبون.
وأما الرد على قولهم: إن المحبة لا تكون إلا بين متناسبين، فنقول:
" المناسبة " لفظ مجمل فإنه قد يراد بها التولد والقرابة فيقال: هذا نسيب فلان ويناسبه، إذا كان بينهم قرابة مستندة إلى الولادة والآدمية، والله سبحانه وتعالى منزه من ذلك، ويراد بها المماثلة فيقال: هذا يناسب هذا أي مماثله، والله سبحانه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ويراد بها الموافقة في معنى من المعاني، وضدها المخالفة.
والمناسبة بهذا الاعتبار ثابتة، فإن أولياء الله تعالى يوافقونه فيما يأمر به فيفعلونه وفيما يحبه فيحبونه، وفيما نهى عنه فيتركونه، وفيما يعطيه فيصيبونه، والله وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم، نظيف يحب النظافة، محسن يحب المحسنين، مقسط