الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: مراعاة المخاطبين:
من تأمل سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسيرته رأى أن خطابه صلى الله عليه وسلم يختلف باختلاف المخاطبين وأحوالهم وبيئاتهم وطرائق تفكيرهم، كل وما يناسبه وينفعه، وقد استفاد من هذا الهدي الصحابة رضوان الله عليهم ففي الأثر الصحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ "(1) وفي الأثر الآخر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة "(2).
وقد رأيت بعد تأمل لكثير من نصوص السنة النبوية أن مراعاة المخاطبين تكون من نواح عدة:
مراعاة سن المخاطب:
ولذا تجد في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للصغار من المزاح والمداعبة والكلمات المناسبة محاولة لإدخال السرور في قلوبهم ما يناسب عقولهم وسنهم، ومن النصوص الواردة في ذلك:
(1) أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا (رقم 127).
(2)
أخرجه: مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (ص 14).
1 -
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «إن كان النبي عليه السلام ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير، ما فعل النغير (1)»
2 -
وحديث أم خالد بنت خالد. قالت: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلي قميص أصفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه سنه قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة. فزبرني أبي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي (3)»
3 -
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه «أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم (4)»
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس (رقم 6129)، ومسلم، كتاب الآداب، باب جواز تكنية من لم يولد له وكنية الصغير (رقم 5622) والنغير طائر صغير.
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحها (رقم 5993). - وقوله:" أبلي وأخلقي ": العرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك، أي أنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق. فتح الباري لابن حجر (16/ 378).
(3)
قوله سنه سنه: هي بالحبشية حسن. (2)
(4)
أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان (رقم 6247)، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان (رقم 5665).
4 -
وحديث سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب، فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله، يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. قال: فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده (1)»
5 -
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس أذهبت حيث أمرتك (2)؟ قال: قلت: نعم، أنا ذاهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين، ما علمته قال لشيء صنعته: لم
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأشربة، باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر (رقم 5620)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ (رقم 5292).
(2)
أخرجه: مسلم، كتاب الفضائل، باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم (رقم 6015).
فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا؟»
وأنبه أن هناك عددا من البحوث عنيت بتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصغار والجوانب التربوية في ذلك.
مراعاة ديانة المخاطب:
الناظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يلحظ أن الأصل في مخاطبة الكفار حسن الكلام ولينه إلا عند الحاجة وهذا في الحقيقة تطبيق لقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1)، وقوله:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2)، مع وجود بعض الأحكام الخاصة بأدب التخاطب مع الكفار كما سيأتي، فمن النصوص المهمة في هذا الباب:
1 -
حديث عائشة رضي الله عنها: «أن يهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم. قال: مهلا يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش قالت أولم تسمع ما قالوا؟ قال:
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2)
سورة طه الآية 44
أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في (1)»
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه (3)»
3 -
عن أنس رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (4)»
4 -
عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدكم، فقد أسخطتم ربكم عز وجل (5)»
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا (رقم 6030).
(2)
أخرجه: مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (رقم 5661).
(3)
قال النووي: " لا يترك للذمي صدر الطريق " شرح صحيح مسلم (14/ 147). (2)
(4)
أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب كيف الرد على أهل الذمة السلام (رقم 6258)، ومسلم، - الموضع السابق - (رقم5652).
(5)
أخرجه: أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب لا يقول المملوك ربي وربتي (رقم 4977)، وأحمد في المسند (5/ 346)، و" البخاري"، في (الأدب المفرد)(رقم 760)، وإسناده صحيح.
وفيما تقدم جملة من الفوائد منها:
- أن الأصل في مخاطبة الكفار حسن الكلام والرفق إلا عند الحاجة والمصلحة.
- أنهم لا يبدؤون بالسلام وقد اختلف أهل العلم في ذلك لاختلافهم في دلالة الحديث وهل هو وارد في قضية خاصة أو هو حكم عام قال ابن القيم: " والظاهر أن هذا حكم عام .. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك فقال أكثرهم: لا يبدؤون بالسلام وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يرد عليهم روي ذلك عن ابن عباس، وأبي أمامة وابن محيريز رضي الله عنهم، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله لكن صاحب هذا الوجه قال يقال له: السلام عليك فقط بدون ذكر الرحمة وبلفظ الإفراد وقالت طائفة: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة تكون له إليه أو خوف من أذاه أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك يروى ذلك عن إبراهيم النخغي، وعلقمة. وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون ".
بيان كيفية الرد عليهم إذا سلموا وهو قول: وعليكم، غير أن ابن القيم نبه على مسألة في قوله:" فلو تحقق السامع أن الذمي قال له: " السلام عليكم " لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أو يقتصر على قوله: " وعليك "؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان وقد قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (1) فندب إلى الفضل، وأوجب العدل.
ولا ينافي هذا شيئا من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الراد " وعليكم " بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقال «ألا ترينني قلت: وعليكم، لما قالوا السام عليكم؟ (2)» ثم قال:«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (3)» والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور، لا فيما يخالفه.
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (4) فإذا زال هذا السبب وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه. وبالله التوفيق " (5).
(1) سورة النساء الآية 86
(2)
صحيح البخاري الأدب (6030)، صحيح مسلم السلام (2165).
(3)
صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6926)، صحيح مسلم السلام (2163)، مسند أحمد (3/ 218).
(4)
سورة المجادلة الآية 8
(5)
أحكام أهل الذمة (1/ 67).
- النهي عن تسويد الكفار ونحوه من ألفاظ التقدير قال ابن القيم: " وأما أن يخاطب بسيدنا، ومولانا، ونحو ذلك؛ فحرام قطعا، وفي الحديث المرفوع: «لا تقولوا للمنافق سيدنا فإن يكن سيدكم فقد أغضبتم ربكم
…
(1)»
- وجملة القول أنه يراعى في مخاطبة الكفار المصالح والمفاسد ولابن القيم كلام جميل في هذا يقول فيه: " ومدار هذا الباب وغيره ما تقدم على المصلحة الراجحة، فإن كان في كنيته وتمكينه من اللباس وترك الغيار والسلام عليه أيضا ونحو ذلك تأليفا له ورجاء إسلامه وإسلام غيره كان فعله أولى كما يعطيه من مال الله لتألفه على الإسلام، فتألفه بذلك أولى.
وقد ذكر وكيع عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: " سلام عليك ". ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تأليفهم الناس على الإسلام بكل طريق تبين له حقيقة الأمر، وعلم أن كثيرا من هذه الأحكام التي ذكرناها من الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة. ولهذا لم يغيرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا
(1) المرجع السابق (1/ 248).
أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه وغيرهم. «والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأسقف نجران: أسلم يا أبا الحارث» ، تأليفا له واستدعاء لإسلامه، لا تعظيما له وتوقيرا " (1).
1 -
مراعاة جنس المخاطب هل هو ذكر أو أنثى:
لا شك أن طبيعة المرأة تختلف عن طبيعة الرجل من أوجه عدة كما قال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} (2) ولذا عني الإسلام بتشريع ما يصلح لكل واحد منهما وفق طبيعته، ومن ذلك آداب المخاطبة مع النساء سواء كن زوجات أو قريبات أو أجنبيات ومن تأمل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد الآداب الراقية في ذلك في ذلك فهو مع زوجاته وبناته يحادثهن، ويمازحهن، ويشاورهن، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي (3)» ولذا عني الباحثون بدراسة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وبناته ومن النصوص الواردة في هذا المعنى:
1 -
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، قلت: وعليه السلام
(1) المرجع السابق.
(2)
سورة آل عمران الآية 36
(3)
أخرجه: الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (رقم 3895) وقال: حسن غريب صحيح، والدارمي في سننه (رقم 2265).
ورحمة الله قالت: وهو يرى ما لا نرى (1)»
2 -
ومن ذلك جلسوه صلى الله عليه وسلم مع عائشة وسماعه حديث أم زرع الطويل وقوله لها في آخر الحديث: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع (2)»
3 -
عن عائشة قالت: «اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم. فلم يغادر منهن امرأة: فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: مرحبا بابنتي فأجلسها عن يمينه. أو عن شماله. ثم إنه أسر إليها حديثا فبكت فاطمة. ثم إنه سارها فضحكت أيضا. فقلت لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن. فقلت لها حين بكت: أخصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قبض سألتها فقالت: إنه كان حدثني
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا (رقم 6201)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنهما (رقم 6304) وفيه ملاطفة الزوجة عند ذكر اسمها.
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل (رقم 5189)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب ذكر حديث أم زرع (رقم 6305).
أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل عام مرة. وإنه عارضه به في العام مرتين. ولا أراني إلا قد حضر أجلي. وإنك أول أهلي لحوقا بي. ونعم السلف أنا لك. فبكبت لذلك ثم إنه سارني. فقال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين. أو سيدة نساء هذه الأمة؟ فضحكت لذلك (1)»
وأما النساء الأجنبيات فقد حددت الشريعة من خلال الأدلة التفصيلية من القرآن الكريم ومن السنة النبوية ومن خلال الأصول العامة والآداب والقواعد الشرعية التي ينبغي مراعاتها عند مخاطبة النساء، وقد قال تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (2)، وقال سبحانه:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (3).
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس ومن لم يخبر بسر صاحبه فإذا مات أخبر به (رقم 6285). ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام، واللفظ له (رقم 6314).
(2)
سورة الأحزاب الآية 32
(3)
سورة الأحزاب الآية 53
والمتأمل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يسلم على النساء ويسلمن عليه، ويحادثهن فيما يحتجنه من سؤال أو علم أو مشكلة أو غير ذلك، مما يدل على أن الأصل جواز مخاطبة الرجل النساء الأجنبيات بالضوابط الشرعية من خلال الأدلة المتقدمة ومن النصوص الواردة في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء الأجنبيات:
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو فطر، إلى المصلى، فصلى ثم انصرف، فقام فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة. فقال: أيها الناس، تصدقوا، ثم انصرف فمر على النساء. فقال: يا معشر النساء، تصدقن فإني أراكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر
النساء. فقلن له: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن بلى، قال فذاك نقصان عقلها، أوليست إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟ قلن بلى. قال: فذاك من نقصان دينها، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صار إلى منزله، جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه. فقيل: يا رسول الله، هذه زينب تستأذن عليك. فقال: أي الزيانب؟ فقيل: امرأة ابن مسعود. قال: نعم، ائذنوا لها، فأذن لها. فقالت: يا نبي الله إنك أمرتنا اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم. فقال صلى الله عليه وسلم صدق، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم (1)»
- وفي حديث أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: «ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالت فسلمت عليه. فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: مرحبا بأم هانئ. فلما فرع من
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب (رقم 1462) وهذا لفظه، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (رقم 243).
غسله، قام فصلى ثماني ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته: فلان بن هبيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. قالت أم هانئ: وذاك ضحى (1)»
والنصوص في هذا كثيرة ليس هذا موضع التوسع في ذكرها.
2 -
مراعاة المخاطبين من حيث الشدة واللين:
وهذا يظهر من خلال أحاديث متعددة وردت في السنة النبوية يظهر منها مراعاة المخاطبين من حيث الشدة واللين بسبب اختلاف أحوالهم فمن النصوص التي فيها اللين:
- حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم أفخاذهم، فلنا رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الجزية، باب أمان النساء وجوارهن (رقم 3171)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب صلاة الضحى (رقم 1669).
منه فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن (1)»
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (2)»
- حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: «إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه. فقال: ادنه فدنا منه قريبا، قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم.
(1) أخرجه: مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (رقم 1199).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وكان يحب التخفيف واليسر على الناس (رقم 6128) واللفظ له، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد (رقم 427).
قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه. قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (1)»
ومن النصوص التي فيها الشدة:
(1) أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (5/ 256).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله (رقم 6110)، ومسلم كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (رقم 1044).
3 -
مراعاة منزلة المخاطب:
ويظهر هذا من خلال نصوص متعددة ومنها كتابات الرسول صلى الله عليه وسلم للملوك كما في حديث أبي سفيان بن حرب الطويل رضي الله عنه وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى (1)»
ومنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد - هو ابن معاذ رضي الله عنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قريبا منه فجاء على حمار فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، فجاء فجلس (2)»
…
الحديث.
4 -
مراعاة المكان والوقت والزمن:
يدخل في ذلك عدم تطويل الخطبة، وكذلك عدم الإكثار من الكلام خشية الملل والسآمة ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخول الناس
(1) أخرجه: البخاري، بدء الوحي (رقم 7)، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (رقم 1773).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل (رقم 3043)، ومسلم، باب جواز قتال من نقض العهد (رقم 1768).
بالموعظة مخافة السآمة عن أبي وائل قال: «كان عبد الله رضي الله عنه يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا (2)»
وكذلك مراعاة المكان: ومن أشهر ما يذكر هنا قصة عبد الرحمن بن عوف مع عمر بن الخطاب وفيها قول عبد الرحمن لعمر رضي الله عنهما فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وألا يعوها، وألا يضعوها على مواضعها؛ فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمر رضي الله عنه: أما والله - إن شاء الله - لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة الحديث (3).
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الموعظة ساعة بعد ساعة (رقم 6411)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الاقتصاد في الموعظة (رقم 7129).
(2)
المقصود عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (1)
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت (رقم 6830).
مراعاة الظروف والمناسبات المحتفة بالخطاب والمخاطب:
وهذه واسعة لا يمكن تحديدها مثل وقت الفرح ليس كوقت الحزن، وما يحسن في مجلس العلم والذكر قد لا يحسن في مجلس التبسط، ومراعاة الظروف والمناسبات عامل كبير في التأثير والاستجابة للمخاطب، .... وكذلك مراعاة ما يخشى من التحدث به خشية الفتنة وفي هذا يقول ابن حجر رحمه الله:" وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم في حديث الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب "(1).
424 ومما يذكر هنا مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، قال: «لما أفاء الله على رسوله
(1) فتح الباري (1/ 424).
- صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي. كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال: ولو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا. ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم. لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك لناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها. الأنصار شعار، والناس دثار. إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض (1)»
وفي ختام هذا الأصل الكبير أنبه على أمرين:
الأول: أن لسلفنا في هذا الباب أخبارا جميلة يستفاد منها الدروس والحكم منها قول النضر بن شميل: سئل الخليل عن مسألة فأبطأ بالجواب فيها قال: فقلت ما في هذه المسألة كل هذا النظر قال: فرغت من المسألة وجوابها ولكني أريد أن أجيبك جوابا يكون
(1) أخرجه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4330).