الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحب المقسطين، إلى غير ذلك من المعاني، بل هو سبحانه يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض الهالكة إذا وجدها بعد اليأس، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أريد بالمناسبة هذا وأمثاله فهذه المناسبة حق وهي من صفات الكمال، فإن من يحب صفات الكمال أكمل ممن لا فرق عنده بين صفات النقص والكمال، وإذا قدر موجودان أحدهما يحب العلم والصدق والعدل والإحسان ونحو ذلك، والآخر لا فرق عنده بين هذه الأمور وبين الجهل والكذب والظلم ونحو ذلك لا يحب هذا ولا يبغض هذا، كان الذي يحب تلك الأمور أكمل من هذا ".
المبحث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم «احرص على ما ينفعك واستعن بالله
(1)»:
قوله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك (2)» هذه الكلمة الجامعة من النبي صلى الله عليه وسلم يجب على الإنسان أن يجعلها نبراسا له في عمله الديني والدنيوي.
(1) صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(2)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
فالحرص: يعني بذل الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا.
وأفعال العباد بحسب السبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات:
1 -
نافعة، وهذه مأمور بها.
2 -
ضارة، وهذه محذر منها.
3 -
فيها نفع وضرر.
4 -
لا نفع فيها ولا ضرر، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي، فتأخذ حكم الغاية، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر؛ إما لذاته أو لغيره، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر، لكن قد يتكلم الإنسان، ويتحدث لأجل إدخال السرور على غيره فيكون نفعا ولا يمكن أن نجد شيئا من الأمر والحوادث ليس فيها نفع ولا ضرر، إما ذاتي، أو عارض، إنما ذكرناه لأجل تمام السبر والتقسيم.
والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه ولا ضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو
ليصمت (1)»
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك (2)» دليل على وجوب الابتعاد عن الضار؛ لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة (3).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «واستعن بالله (4)» الواو تقتضي الجمع، فتكون الاستعانة مقرونة بالحرص، والحرص سابق على الفعل؛ فلا بد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله (5).
وهي بمعنى: اطلب من الله المعونة على العبادة وجميع أمورك، كأن تقول عند شروعك بالعمل: اللهم أعني، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو بلسان الحال وهي أن تشعر قلبك أنك محتاج إلى الله سبحانه وتعالى أن يعينك على هذا العمل، أو طلب العون بها جميعا، والغالب أن من استعان بلسان المقال فقد استعان بلسان الحال.
(1) أخرجه مسلم في كتاب (1) الإيمان، باب (19) الحث على إكرام الجار (1/ 68)، وأخرجه البخاري في كتاب (78) الأدب، باب (84) حق الضيف (فتح الباري 10/ 531).
(2)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(3)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 367 - 368).
(4)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(5)
المصدر السابق.
والاستعانة لغة:
مصدر استعان وهو من العون بمعنى المعاونة والمظاهرة على الشيء، يقال: فلان عوني أي معيني وقد أعنته، والاستعانة طلب العون، قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1).
والعون: الظهير على الأمر، الواحد والاثنان والجمع والمؤنث فيه سواء. وقد حكي في تكسيره أعوان، والعرب تقول: إذا جاءت السنة جاء معها أعوانها، يعنون بالسنة: الجدب. وبالأعوان: الجراد والذئاب والأمراض، وتقول: أعنته إعانة واستعنته واستعنت به فأعانني وتعاونوا على واعتونوا: أعان بعضهم بعضا، وتعاونا: أعان بعضنا بعضا، والمعونة: الإعانة، ورجل معوان حسن المعونة، وكثير المعونة للناس وكل شيء أعانك فهو عون لك كالصوم عون على العبادة.
(1) سورة البقرة الآية 45
والاستعانة اصطلاحا:
عرفها ابن تيمية - بقوله: " الاستعانة: طلب العون من الله والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه "(1).
وعرفها الإمام محمد بن عبد الوهاب بقوله: " سؤال الله الإعانة وهو التوكل والتبري من الحول والقوة "(2).
وجاء في تفسير السعدي أن الاستعانة هي: " الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار مع الثقة به في تحصيل ذلك ".
ويؤكد هذا التعريف قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3).
هذه الآية العظيمة التي يتلوها المسلم في كل ركعة من ركعات صلواته، وهي آية من سورة الفاتحة التي هي " أعظم السور في القرآن ".
(1) مجموع الفتاوى (1/ 103).
(2)
تفسير الفاتحة، محمد بن عبد الوهاب، مكتبة الحرمين، الرياض، ط3، 1409 هـ ص (52).
(3)
سورة الفاتحة الآية 5
ومعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) أي: نخصك وحدك يا إلهنا بالعبادة والاستعانة، وذلك لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، فإنه يقول: نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك، أي نوحدك ونطيعك خاضعين، ونطلب منك وحدك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا.
" والقيام بعبادة الله تعالى والاستعانة به هما الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور فلا سبيل إلى النجاة إلا القيام بهما، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله، فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر الاستعانة
(1) سورة الفاتحة الآية 5
بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عبادته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي " (1).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -:
" من ظن أنه يطيع الله بلا معونة، كما يزعم القدرية
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير الكريم المنان (1/ 15).
والمجوسية فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة، وخلقه لكل شيء، ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد، ويسر له ذلك كان محمودا سواء وافق الأمر الشرعي أو خالفه، فقد جحد دين الله وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده، واستحق من غضبه وعقابه أعظم مما يستحق الأول " (1).
فعلى العبد في حال فعله السبب: " أن يستعين بالله وحده دون كل ما سواه، ليتم له سببه وينفعه، فيكون اعتماده على الله تعالى في
(1) مجموع الفتاوى (8/ 74).
ذلك؛ لأنه تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى، ففعل السبب سنة، والتوكل على الله توحيد، فإذا جمع بينهما؛ تم له مراده بإذن الله ".
والاستعانة تجمع أصلين:
1 -
الثقة بالله.
2 -
الاعتماد عليه (1).
وقد سوى ابن القيم بين التوكل والاستعانة وقال في تعريفهما: " التوكل والاستعانة، حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله تعالى، والإيمان بتفرده بالخلق، والتدبير والضرر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتمادا عليه (واستعانة به) وتفويضا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينا بكتابته لما توكل عليه فيه واستعان به عليه، وأنه ملي به، ولا
(1) مدارج السالكين لابن القيم (1/ 75).
يكون إلا بمشيئته شاء الناس ذلك أم أبوه " (1).
والإنسان محتاج إلى الله في كل حال، قال ابن رجب: " العبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه .... ، ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولا
…
، وهو كذلك في أمور الدنيا عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه جميعا إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، وهذا هو تحقيق معنى قول العبد:" لا حول ولا قوة إلا بالله "، فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله. وهذه كلمة عظيمة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها كنز من كنوز الجنة " (2)؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة: «قل لا
(1) المصدر السابق (1/ 82).
(2)
جامع العلوم والحكم، ص (168).
حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة (1)»
يقول ابن حجر: " تسمى هذه الكلمة كنزا؛ لأنها كالكنز في نفاسته، وصيانته عن أعين الناس
…
لأن معنى (لا حول) لا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله .... ، وحاصله أن المراد أنها من ذخائر الجنة، أو من محصلات نفائس الجنة " (2).
ويقول النووي: " قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له .... "(3).
فهي كلمة عظيمة تتضمن اعتراف العبد بأنه لا تحول له من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بإعانة الله وحده، فالاستعانة لا تطلب من أي إنسان إلا عند الضرورة، وفيما يقدر عليه فقط، وإذا اضطر العبد للاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، فعليه أن يجعل ذلك وسيلة وسببا، لا ركنا يعتمد عليه، وإنما الركن الأصيل الذي
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب (80) الدعوات، باب (50) الدعاء إذا علا عقبة، فتح الباري، (11/ 187) ح (6384).
(2)
فتح الباري (11/ 188، 500 - 501).
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي (17/ 26).
يعتمد عليه في الدعاء والسؤال والاستعانة هو الله وحده لا شريك له، كما أن على العبد إذا احتاج إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلا، ألا يشعر نفسه أن هذه الاستعانة كاستعانته بالخالق، وإنما عليه أن يشعر أنها كمعونة بعض أعضائه لبعض، كما لو عجز عن حمل شيء بيد واحدة فإنه يستعين على حمله باليد الأخرى.
وعلى هذا فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، كالاستعانة ببعض الأعضاء، فلا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" فاستعن بالله " فإذا وقع العبد في مكروه وشدة فلا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله بعد الاستعانة بالله تعالى، ولا يكون هذا شكوى للمخلوق، فإنه من الأمور العادية، التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف عليه السلام للذي ظن أنه ناج من الفتيين (1){اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (2)، والمصيبة العظيمة والخطر الجسيم فيمن يسأل أو يستعين بأصحاب القبور، أو غيرهم ممن يسمون بالأولياء والصالحين، سواء أكانوا أمواتا أم أحياء،
(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (2/ 461).
(2)
سورة يوسف الآية 42
فيسألهم ويستعين بهم فيما لا يقدرون عليه من جلب نفع أو دفع ضر أو رزق ولد، أو دخول الجنة، أو النجاة من النار، ونحو ذلك مما هو واقع في بعض البلاد، فإن هذا شرك بالله تعالى، إذ هو وحده القادر على كل شيء، وما دونه من نبي أو ولي لا يملك لنفسه جلب الخير أو دفع الشر إلا بإذنه سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (1).
فهذه الآية تبين جهل من يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه لحصول نفع، أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه الله عنه، ولا له من العلم إلا ما علمه الله، ويقول سبحانه وتعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (2){يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} (3){يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (4).
هذه صفة كل مدعو ومعبود من دون الله، فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} (5) الذي بلغ في
(1) سورة الأعراف الآية 188
(2)
سورة الحج الآية 11
(3)
سورة الحج الآية 12
(4)
سورة الحج الآية 13
(5)
سورة الحج الآية 12
البعد حد النهاية، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار، الغني المغني، وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب، ولهذا قال:{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} (1)، فإن ضرره في العقل والبدن، والدنيا والآخرة معلوم، {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (2) أي: لبئس هذا المعبود والقرين الملازم على صحبته، فإن المقصود من المولى والعشير حصول النفع، ودفع الضرر، فإذا لم يحصل شيء من هذا إنه مذموم ملوم (3).
وجاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «
…
إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (4)»
يقول ابن دقيق العيد في شرح هذا الجزء من الحديث:
(1) سورة الحج الآية 13
(2)
سورة الحج الآية 13
(3)
انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (3/ 348 - 349).
(4)
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (59)، ح (2516)، والإمام أحمد (1/ 293 - 303) وأخرجه الطبراني في الكبير، ح (1298)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 314) وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير، (2/ 1318)، ح (7957).
" أرشده إلى التوكل على مولاه وألا يتخذ ربا سواه، ولا يتعلق بغيره في جميع أموره ما قل منها وما كثر، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (1)، فبقدر ما يركن الشخص إلى غير الله بطلبه أو بقلبه أو بأمله فقد أعرض عن ربه بمن لا يضره ولا ينفعه، وكذلك الخوف من غير الله ".
فالمسلم مطالب بالاستعانة بالله في فعل المأمورات، واجتناب المنهيات.
يقول ابن تيمية عند تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2).
" وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء، وإذا كان قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في صلاة، فمعلوم أن ذلك يقاضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه
…
، كما أمر بهما في قوله:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (3)، والأمر له أمر لأمته، وأمره بذلك في أم القرآن، وفي غيرها، لأمته؛ ليكون فعلهم ذلك طاعة
(1) سورة الطلاق الآية 3
(2)
سورة الفاتحة الآية 5
(3)
سورة هود الآية 123
وامتثالا لأمره، لا تقدما بين يدي الله ورسوله ..... ، وإلى هذين الأصلين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد في عبادته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله في الأضحية:«اللهم هذا منك ولك وإليك (1)» ؛ فإن قوله: " منك " هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله:" لك " هو معنى العبادة ".
وقال في موضع آخر: " فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) " فهاتان الكلمتان قد قيل إنهما تجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء " (3).
ويذكر ابن القيم أن آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل
…
، وقد
(1) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، ح (2795).
(2)
سورة الفاتحة الآية 5
(3)
دقائق التفسير لابن تيمية (1/ 212).
(4)
سورة الفاتحة الآية 5
اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية وتوحيد الإلوهية، وتضمنت التعبد باسم الرب، واسم الله، فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته
…
، وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله لا يعين على عبادته سواه ولا يهدي سواه " (1).
كما أن العبد مطالب بالصبر والاستعانة بالله تعالى عند وقوع المصائب والابتلاءات، ولهذا قال يعقوب عليه السلام عند وقوع مصيبته:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2)، ولما قال أهل الإفك ما قالوا في عائشة قالت:" والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (3)، فبرأها الله مما قالوا ".
وعندما هدد فرعون موسى وقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (4).
(1) كتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص (104).
(2)
سورة يوسف الآية 18
(3)
سورة يوسف الآية 18
(4)
سورة الأعراف الآية 128
فجاء الأمر على خلاف ما أراد فرعون؛ إذ أعزهم الله وأذله، وأرغم أنفه، وأغرقه وجنوده (1).
وأخبر الله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لما كذبه قومه: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2)، أي: والله المستعان عليكم فيما تقولون وتفترون من التكذيب والإفك (3).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو في قنوته بقوله: " اللهم إنا نستعينك، ونؤمن بك ونتوكل عليك ".
ولما بشر الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان بالجنة، مع بلوى تصيبه، قال رضي الله عنه:" اللهم صبرا، أو الله المستعان ".
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه خطبة الحاجة، وهي: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
…
(4)» الحديث
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/ 381 - 382).
(2)
سورة الأنبياء الآية 112
(3)
انظر: المصدر السابق (3/ 324).
(4)
رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح، ح (2118)، والترمذي في النكاح، ح (1105)، والنسائي في الجمعة، باب كيف الخطبة، (3/ 105)، وابن ماجه في النكاح، باب خطبة النكاح، ح (1892)، وانظر: صحيح ابن ماجه (1/ 319) ح (153). .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -: " وتستحب هذه الخطبة في افتتاح مجالس التعليم، والوعظ والمجادلة، وليست خاصة بالنكاح "(1).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده، وقال:«يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (2)»
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: «رب أعني، ولا تعن علي (3)» الحديث
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (18/ 287).
(2)
رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الاستغفار، ح (1522)، والنسائي في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، (3/ 53)، وأحمد في المسند (5/ 245). وانظر: صحيح الكلم الطيب، ح (115)، وصحيح الجامع الصغير (2/ 1320) ح (2063).
(3)
رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا أسلم، ح (1510)، والترمذي في كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ح (3546)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وانظر: صحيح سنن الترمذي (3/ 461)، ح (3551)، وصحيح سنن ابن ماجه (2/ 324) ح (3830).
ولقد لاحظنا فيما سبق أن الإمام ابن القيم سوى بين التوكل والاستعانة، وذلك لأن كلا منهما يجمع أصلين.
فالاستعانة كما رأينا تجمع بين أصلين وهما:
أ - الثقة بالله.
ب - الاعتماد عليه.
والتوكل أيضا يلتئم من هذين الأصلين (الثقة بالله والاعتماد عليه).
وقد اقترن التوكل (الاستعانة) بالعبادة في القرآن الكريم في مواضع عديدة منها:
1 -
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1).
2 -
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (2).
3 -
قول الله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (3).
4 -
قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (4).
5 -
قوله عز وجل حكاية عن المؤمنين -: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (5).
6 -
وقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (6){رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (7)
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2)
سورة هود الآية 123
(3)
سورة هود الآية 88
(4)
سورة الرعد الآية 30
(5)
سورة الممتحنة الآية 4
(6)
سورة المزمل الآية 8
(7)
سورة المزمل الآية 9
فهذه ستة مواضع جمع فيها القرآن الكريم بين الأصلين وهما: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) أي بين العبادة والاستعانة أو ما في معناها وهو التوكل (2).
ومن الملاحظ أن العبادة مقدمة على الاستعانة، ولذلك أسباب عديدة أشار إليها ابن القيم وغيره من العلماء، فقال ابن القيم: " وتقديم العبادة على الاستعانة لما يلي:
1 -
لأن العبادة غاية العباد التي خلقوا لها؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3).
2 -
لأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (4) متعلق بألوهيته سبحانه، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) متعلق بربوبيته.
3 -
لأن تقديم العبادة على الاستعانة يتناسب مع تقديم اسم " الله " على لفظ " الرب " المذكورين في أول السورة.
حيث إن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (6) قسم الرب، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7) قسم
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2)
انظر: مدارج السالكين (1/ 75 - 76).
(3)
سورة الذاريات الآية 56
(4)
سورة الفاتحة الآية 5
(5)
سورة الفاتحة الآية 5
(6)
سورة الفاتحة الآية 5
(7)
سورة الفاتحة الآية 5
العبد، فكان من الشطر الذي له، وهو {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) إلى آخر السورة.
4 -
لأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة، مستعين، ولا ينعكس الأمر، لأن صاحب الأعراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم المولى عز وجل.
5 -
لأن الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس (تقدم الكل على الجزء).
6 -
لأن الاستعانة طلب منه سبحانه وتعالى، والعبادة طلب له فقدم ما هو له على ما هو منه.
7 -
لأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، ومن ثم قدم ما هو محض الإخلاص.
8 -
لأن العبادة حق الله الذي أوجبه على العبد والاستعانة طلب العون على العبادة، وذلك بيان لصدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعريض لصدقته (فكان ذلك من باب تقديم الأهم على المهم).
9 -
لأن العبادة شكر لنعمته عليك، والله يحب أن يشكر، والإعانة
(1) سورة الفاتحة الآية 6
فعله بك وتوفيقه لك، فإن التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة له من الله أعظم، ومن ثم فإن تقديم العبادة تقديم للسبب على المسبب.
10 -
ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (1) لله، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) به والذي له مقدم على ما به، لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه والذي (يكون) به متعلق بمشيئته وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، إذ الكون كله متعلق بمشيئته كذلك، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم، فالكفار أهل مشيئته والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2)
سورة الفاتحة الآية 5
الاستعانة الإيمانية والاستعانة الشركية:
يقول ابن تيمية: إن العبد مجبول على أن يقصد شيئا ويريده ويستعين به بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، وهذا المستعان به على قسمين وهما:
القسم الأول: ما يستعان به لنفسه فيكون هو الغاية الذي يعتمد عليه العبد ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية في الاستعانة.
والقسم الثاني: ما يكون تبعا لغيره بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع.
والناظر في أحوال الخلق يجد أن النفس لا بد لها من شيء تثق به، وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها سواء كان ذلك هو الله أم غيره، وإذا كان المستعان غير الله فقد يكون عاما وهو الكفر كمن عبد غير الله مطلقا أو سأل غير الله مطلقا. وقد يكون خاصا في المسلمين ممن غلب عليهم حب المال أو حب شخص أو حب الرياسة أو غير ذلك بحيث يعتمد عليها ويستعين بها، وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، وصلاح العبد في عبادة الله واستعانته به، ومضرته وهلاكه وفساده في عبادة غير الله والاستعانة بما سواه،
وتوحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته في القرآن كثير جدا؛ بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره، وهذا هو دين الإسلام العام الذي بعث به جميع الرسل، فلا يصرف لغير الله شيء من أنواع العبادة والاستعانة، إذ أن أنواع العبادة متعلقة كلها بألوهيته، والاستعانة متعلقة بربوبيته، والله رب العالمين لا إله إلا هو، ولا رب لنا غيره، لا ملك ولا نبي ولا غيره.
تقسيم الناس بحسب الاستعانة:
يرى ابن القيم - أن الناس بحسب العبادة والاستعانة أربعة أقسام:
القسم الأول: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، وهذا أجل الأقسام وأفضلها.
القسم الثاني: أهل الإعراض عن العبادة والاستعانة به في مرضاته إن سأله أحدهم واستعان به، فعلى حظوظه وشهواته لا على مرضاة ربه وحقوقه وهؤلاء شر البرية.
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة أو باستعانة ناقصة وهؤلاء صنفان:
1 -
القدرية القائلون بأن الله قد فعل بالعبد جميع مقدروه من الألطاف وأنه لم يبق في مقدروه إعانة له على الفعل، إذ قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسل وتمكينه من الفعل، ولم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها.
2 -
من لهم عبادات وأوراد، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، فهؤلاء وأولئك لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله (واستعان به حق استعانته) في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورا بإزالته لأزاله.
القسم الرابع: هم أولئك الذين يشهدون تفرد الله بالنفع والضر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه، ومع ذلك توكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، فقضيت له وأسعف بها سواء أكانت مالا أو جاها عند الخلق، وهؤلاء لا عاقبة لهم ولا يعدوا ما أعطوه أن يكون من جنس الملك الظاهر